قراءة نقدية في مجموعة “تعب وقصص أخرى” لـ عبد المجيد زراقط
لطيفة الحاج قديح
عرفته من خلال مشاركته النقدية لروايتي ” صخرة الروشة” ومن بعدها روايتي “شجرة النور” فهو أستاذي الذي نهل ابداعي الروائي من صواب بصره وبصيرته الأدبية النقدية الراقية..
تربع على عرش مجموعة كبيرة من المؤلفات مما لا يتسع المجال لذكرها جميعها، مؤلفات في الإبداع الأدبي والنقدي: روايات وقصص قصيرة ومنها ما حصد جوائز مثل مجموعته ” ذات عصر” التي نالت جائزة اتحاد الكتاب عام 90. وأخرى نالت جائزة الأدب المقاوم .. (https://follycoffee.com/)
إنه الأستاذ الجامعي، الروائي، والناقد الأدبي الدكتور عبد المجيد زراقط ومثله غني عن التعريف، ونحن اليوم بصدد قراءة في مجموعته القصصية الأخيرة الموسومة بعنوان ” تعب” وقصص أخرى.. والعنوان يشي بالكثير، فمعظم القصص التي تؤلف الكتاب وعددها ستة عشر قصة قصيرة، يتصبب العرق من كلماتها وعباراتها ومعانيها. عرقً مرّ طعمه ولكن عطاؤه مثمر فيه البلسم الشافي للنفس وللجسد، يقود إلى الطمأنينة ويرسم خارطة طريق لصيانة الأوطان وانتعاشها..
وتحفل قصص “التعب” هذه بأبعاد متنوعة تحمل غنى التجربة الأدبية الفذَة التي عاشها المؤلف المبدع بجميع أبعادها، معلنة عن رسوخها وتجذّرها في فكره وعصب ريشته، وهي تشي بالمعاناة الوجودية لأبطالها وبالغنى الأدبي والثقافي والديني والقومي والوطني المختزن في فكر الكاتب، ولا عجب فهو ابن تلك الأرض السمراء المتشبثة بعرقها وعنفوانها وكرامتها..

قصص الفلاحين
إنها قصص الفلاحين أبناء القرى اللبنانية الجنوبية، مسقط رأس الكاتب، الذي رضع من حليبها، وتنفس نسائمها حتى الارتواء، تلك القرى التي عانت من الحرمان والتهميش من أبناء جلدتها ومن استبداد الاقطاع السياسي، والاجتماعي فشرب أهلها القهر حتى الثمالة ولسنوات عديدة ، أعقبه تعنّت الاحتلال الاسرائيلي وتعسّفه وسيطرته على البلاد وتحكمه برقاب العباد، وهنا يتحول الفضاء الروائي لهذه القصص إلى فضاء واحد أوحد، وكأن الجهات الاربع قد توحّدت باتجاه واحد “إلى الجنوب در”.
إنها المؤلفات التي تغمس ريشة حبرها بتعب الأرض، وعرق الناس البسطاء الشرفاء، وحكايات أناس اتخذوا من الكرامة والشرف والدفاع عن الأرض عصباً لحياتهم وهدفاً، وما فتأت أذهانهم الصافية تتفتق عن طرق وحلول ابتدعوها، للخلاص من قبضة الأسر والذل والمهانة. ففي باكورة هذه القصص “يوم جديد” يعلن فيه الجيل الجديد، جيل الأبناء عن مقاومة من نوع خاص تختصر على لسان الغراب الصغير الذي استطاع بإيمانه وقوة عزيمته ومثابرته، أن يصنع كرة صغيرة من الأشواك طلاها باللون الأبيض ليخدع بها الثعلب ويوهمه أنها قطعة من الجبن، فنجح في ذلك فانتصر على الثعلب الخبيث وجعله أضحوكة سكان الغابة. أوليس هذا ما حصل عندما دحرت المقاومة العدو الاسرائيلي الشرس خلال شهري تموز وآب من العام 2006 ؟
الأدب الوجيز
إنها قصة من الأدب الوجيز جاءت على لسان الحيوان، بأسلوب السهل الممتنع حيث تختصر العبارة ويتكثف المعنى، وينكشف عن أسلوب خاص في المقاومة ورد الاعتبار..
وفلسطين دائماً بالقلب والروح، والعملاء يملئون المكان، ويتّبعون أساليب خبيثة مموهّة بالاغراء تارة وبالتهديد والوعيد تارة أخرى. وهؤلاء مقاومتهم واجبة بالصمود والتحدي، والثبات وهذا ما كشفت عنه معظم القصص فمثلاً في قصة ” مكاني” يأتي التعبير الفذّ على لسان الراوي المتواري خلف الكاتب: لم يبق لي مكان في مكاني!؟ فكيف أستعيد مكاني من مكاني ؟ ( ص 97). أو ليست هذه إشارة إلى المحتلّ الغاصب الذي ينتشر وأعوانه في كل مكان من جنوب لبنان؟
ويكمل “زراقط” رحلته عبر قصص التعب هذه ليسبر أغوار ودواخل نفوس أبطاله من الفلاحين، فيستقبله الحقل المحروث جيداً ويبدأ العمل، “هو يوم طويل متعب ككل يوم، ولكن النظر الى الأثلام ” المشتولة” بالشتلات الخضراءالصغيرة يريح …( ص 18_19) أما أشجار التفاح والسفرجل والدراق والمشمش والعنّاب والجوز…تمتد أمامي صفوفاً، وأنا فرحٌ أشعر بأنها صفوف أحبّة يؤدون لي التحّية..( ص 103).
إن أعمال أديبنا الدكتور عبد المجيد زراقط تمتاز بالتعددية في الأسلوب، حيث تتحوّل تقنيات السرد القصصي بين أنامله إلى تطريز فني موشى بالدراما التي تحكي علاقة الإنسان بالأرض، وعلاقته بالسلطة الرابضة على أكتاف المواطن، كابسة على أنفاسه، كما علاقته بالعدو الشرس المستنفر دائماً وأبداً، يتربص بنا كالذئب المفترس.
وهنا لا نرى زراقط يهتمّ للتشخيص الفوتوغرافي لشخصياته، بل يعمد إلى التجريد ممتشقاً الوقائع والأحداث ليخلص إلى دراما إنسانية تستمدّ بلاغتها من خصوبة الأرض وملوحتها وعطاءاتها المتنوعة التي لا تنضب، محاولاً الاحاطة بتجربة المقاومة التي انبثقت من جبل عامل في الزمكان، وذلك من دون التفريط ببنية النص والتماعاته الأدبية واللغوية..
وهكذا نرى كيف أن المؤلف قد لملم من الحياة لحظات مهمة تعلن عن هويته وأسلوبه ورؤيته لها.
“آميدو فاري”
ولا ينسى الكاتب الغربة وما تفعله بمن يطلبها عروساً له، حيث تبدّل اسمه ورسمه وشخصيته، فتلبسه لباس الأنانية، فها هو “آميدو فاري” واسمه الحقيقي “احمد” العائد من بلاد الاغتراب، لا همّ له في عودته القصيرة سوى بيع آخر ما تبقى له فيها ليدير ظهره عائداً من حيث أتى من دون أن يكلف نفسه عناء التواصل مع اصحابه الخلص الذين رافقوه في مسيرة حياته في بلده الأم، وكلّ همه استثمار ثروته في ملهى كبير.. ( ص 28_29)
ويظهر تعب الرجال فحيث يحبون السهر على الرغم من تعبهم الشديد خلال النهار، فينظر المضيف ضيوفه بعد ان أعد عدة الاسقبال ووضع كر كوري الشاي … وجلس على الأريكة ينتظر الضيوف ولكن النعاس داهمه فغفى والأبريق يرشح زصار الرجال يحضرون واحدا وراء الآخر وكلما جاء أحدهم اضجع الى جانب رفيقه في حالة انتظار لبددء السهرة ولكنه ما يلبث ان يغفو هو أيضاً … ي قصة ص :
من خلال هذه المجموعة القصصية يثبت أديبنا اللامع كما في كلّ مرة ان وراء كل قصة هدف ومغزى ما يظهر جهد الكاتب الجمامع بين البصر والبصيرة والمشاعر الراقية …
سلمت أناملك استاذي الكريم واطال الله عمرك مع صحة وعافية للتحفنا بالمزيد من الأعمال المميزة..
****
(*) روائية وباحثة.