محمود عثمان شاعر الحسن

Views: 20

د. يسرى البيطار

أطلَّ علينا محمود عثمان بكتابِه الشِّعريِّ السّابع، وأعلمُ أنّه لن يستريح؛ فهو في دفءِ الرّبيعِ مشتعلٌ، وفي بردِ الشّتاءِ مشتعل؛ قال:

“أحِبُّ اشتعالَ الشّذى في الحقولِ، الرّبيعُ اشتعالُ”

وقال:

“فستانُها يا لمعةَ البروقِ قالَ افتَتِنِ”.

جميلٌ أنتَ، يا شاعر، كيف تستعيرُ من لمع البرق لهَبًا يُشعِلُ الشّتاء، أنت الذي يؤلمُكَ الشّتاءُ بردًا في غيابها؛ تقولُ متحسِّرًا:

“أستقبلُ الشّتاءَ في غيابِ وجهٍ حسَنِ”

فهل أنتَ نزارٌ حين قال:

“الحبُّ في الأرضِ بعضٌ من تخيُّلِنا            

لو لم نجدْهُ عليها لاخترعْناهُ”

لتجترحَ من حُلمِكَ فستانًا لها تجعلُه يَلمعُ كالبرقِ وتُشعلُ منه كلَّ ثلوجِ الأرض؟

معادلاتٌ رياضيّةٌ هذه تجعلُ الشّعرَ متعةً ذهنيّةً، لا تخيّليّةً وعاطفيّةً فحسب.

دائمُ الاشتهاءِ هو الشّاعر:

“أحِبُّ البردَ فاتنَتي                        

ففيهِ يُشتَهى الغزلُ”

والبردُ والبرقُ، هنا، ساحران؛ كيفَ لا؟ وشاعرُنا هو المَكمِليُّ ابنُ الجبلِ العالي، فإذا التمعَ البرقُ تذكّرَ أمَّه، قال:

“بنائمةٍ في الجُردِ ذكَّرَني البرقُ”

فهل نسيتَها قبلُ يا شاعر؟ أم أنّكَ تقصدُ الشّوقَ حتّى الأرَق؟

عاطفةُ الشّاعر موزَّعةٌ على العاشق، والابنِ، والأب، وهو، في ثلاثِ صفاتِه، شفيفٌ، رهيفٌ، رقيقٌ، رومنطيقيّ.

يقولُ في قصيدةٍ لابنتِه تالة:

“وَلِي شهقةٌ في الظّلامِ الخفيِّ، وَلِي دمعتانْ”

مِن كلِّ عينٍ دمعةٌ، وصفٌ ليس أبهى أيّها الشّاعر، ومِن رقّةِ الإحساس ما يكفي ليلتقيَ القلبُ العَطوفُ، هنا، بالعقل الشّاعر لدى سعيد عقل حين قال:

“وأمسحُ مِن عَبرَتي في الخفاءِ

فلا تقعينَ على دامعِ”

وها قد اخترْتَ الظّلامَ الخفيَّ، فهل هذه مصادفة؟ أم أنّ العاطفةَ، في عمقِها، تلتقي بالعقلِ، في أعلى عُلاه؟ هذا ما أقولُه على شِبهِ تأكيد.

د. محمود عثمان

 

أمّا حبيبةُ الشّاعر، فإنّها والرّبيع توأمان. فعندما يَرجعُ الزّهرُ تَرجع، وحين تعودُ إليه يصيرُ الرّبيعُ جميلاً:

“حبيبي، الرّبيعُ لنا موعدٌ

فقد أرجَعَ الزّهرَ مَن أرجَعَكْ”

ويقول:

“لأنّكِ جئتِ الرّبيعُ يَسُرُّ

وأنتِ، كما العطرُ في الورد، سرُّ”

حبيبةٌ تبدو في القصائدِ غيرَ عاديّة؛ إنّه شامخةٌ في كبرياءٍ؛ يقولُ لها:

“وحيثُ التفَتِّ مشى بالغمامِ

غرورٌ، وشعشعَ في الصّخرِ كِبرُ”

امرأةٌ عاليةٌ، أو هو يُعْليها حتّى مداركِ الأسطورةِ أو التّقديس، فهي قادرةٌ على اجتراح الأعاجيب وشفاءِ الحزانى؛ قال:

“كم جئتُ محزونًا ومرتبكًا

ورَجعْتُ في أثواب مسرورِ

وكأنّ موسى العشقِ أرسلَني

لتسَلُّمِ الألواحِ في الطّورِ”

امرأةٌ، بعصفِ جموحِها الجسديّ، أصبحَت خمرًا يُدمنُها الشّاعر ويُدمِنُ عطرَها، فلا يَخرجُ منها إلاّ ذبيحًا؛ قال:

“تَعانقَ المذبوحُ في دمائِهِ والذّابحُ

فأقبِلي بعاصفٍ والنّهدُ منكِ جامحُ

أدمنتُها وأدمَنَت ملاعبي الرّوائحُ”

متميِّزٌ شاعرُنا في جعلِهِ الإدمانَ متبادَلاً. نعم، ولقد قلْتُ يومًا: “إنّ الحبَّ من طرفٍ واحدٍ هو غباءٌ موصوف”. (canadianpharmacy365.net)

 

وها هو محمود عثمان، في ذكاءٍ غيرِ بعيدٍ عن الشّعراء، يقولُ إنّه أدمنَها وأدمنَته، فالإدمانُ ليس جميلاً بدونِ توازنِ طرفيه.

حبيبةُ الشّاعر، بإدمانِها عليه في هذا التّوازنِ الإيجابيِّ الدّقيق، واثقةٌ، وتَعرف، والشّاعرُ يَعرف، وتعترف، والشّاعرُ يعترف، بأنّ حبَّها مرضٌ متحكِّمٌ بهِ وأنّه لن يفلتَ منه، حتّى إذا احتاجَ التّمسُّكُ بها فتوًى فإنّه يُصدِرُها خلافًا للشَّرعِ ومثلما شاء الهوى؛ قال:

“وكُحلُكِ نادى أنِ اعْتَلَّ فيَّ، هوايَ اعتلالُ

حرامٌ عليَّ، ولكنَّ ثغرَ الحبيبِ حلالُ”

ومعَ هذا التّحليلِ في التّحريم، نصلُ مع الشّاعر، وفي هذه العُجالة، إلى قمّةٍ شامخةٍ يبلغُها حتّى اختراقِ القوانين. فإذا اعتقدَ النّاسُ أنّ الحبَّ ضلالٌ، وأنّ التّوبةَ عنه هداية، فإنّ محمود عثمان قد جاءَ يَقلبُ المفاهيم، ويقولُ إنّ البعدَ عن الحبِّ والجمالِ هو الضّلال، وإنّ العشقَ هو الهداية:

“ضَلَلْتُ عن الحسنِ حتّى اهتدَيْتُ، وخابَ الضّلالُ

يُقالُ الكمالُ، ومِن بعدِ حسنِكِ يأتي الكمالُ”

فيا شاعرَ الحسنِ، كما أسمّيك، ثبَّتَكَ اللهُ في الهداية، فلسْتَ من المغضوبِ عليهم ولا الضّالّين.

***

(*) كلمةٌ في ديوان محمود عثمان “عويل الكمنجات” أُلقيَت في منتدى “لقاء”

                                                                                      

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *