الذّات المعاصرة في فوضى التكنولوجيا

Views: 667

د. نادين طربيه

الذات، هذا المفهوم المركّب المتجلّي في الوجود، ما هي سوى خاصّيّة كلّ فرد بما يتميّزُ به بدءًا من بصمات الأصابع وبصمة العين وصولًا إلى بصمة اللّسان. دعونا لا نفلسف الأمور ونأخذ الذّات ببساطة تعبيرها عن ذاتها أو ببساطة فهمها لكينونتها انطلاقًا من مفهوم البيئة والمجتمع.

هذه الأنا التي استيقظت فجأةً على هدير التكنولوجيا اللّاذع بجاذبيّته القصوى، بعد أن كانت محصورةً بمجتمعها الضّيّق أضحت مفتوحة الآفاق على الكوكب كلّه. بعد أن كانت تتقصّى الكتب لتنهل المعرفة ولو في الصّين، أضحت مذهولةً بهذا الكمّ المعرفيّ الثقافيّ الهائل على صفحات مواقع التّواصل الاجتماعيّ.

 

نحن الجيل المخضرم الذي شهد ويشهد على عمليّة تفتّق هذه الذّات الإنسانيّة في محترف عصر السّرعة والمكننة، نحن الجيل الأخير الذي يحمل في طيّات ذاكرته رائحة الكتب العتيقة ورائحة قهوة الصّبح على وجه جريدة، نقف الآن مأخوذين بإله التكنولوجيا الباهر.

نحن هذه الذّات العملاقة التي تتشظّى في عصر آليّ حادّ الوتيرة. نكذبُ يا سادة إذا قلنا أنّنا لا نعاني ونكذبُ أكثر إذا قلنا أنّنا لا نعيشُ أزمة هويّة. لا أحد منّا ينكرُ فضل المعلوماتيّة والتكنولوجيا في نقل الإنسان المعاصر من المحدوديّة إلى العالميّة، لكنّنا نتكسّر نفسيًّا وروحيًّا ونشقى في سبيل تحديد الطّريق إلى سلامنا الدّاخليّ.

نخسرُ حياتنا الاجتماعية ونربح أصدقاء افتراضيّين على صفحات وهميّة، نخسر شغفنا في تقصّي الحبّ واستكشافه، ونربح علاقات سطحية تبدأ بتلويحٍ وتنتهي بإلغاء صداقة، نخسر لذّة فهم الذّات، ونغرق في تحليل أزمات الآخرين النفسيّة الذين لا يلبثون ينوحون وينشرون معاناتهم هنا وهناك.

 

أمّا الهوّة الأعمق التي نئنُّ فيها هي هوّة المقارنة بين ما يستعرضُه الآخرون من مقتنياتٍ وإسرافٍ في العيش وبين ما نملكه بتواضعٍ، بين ما يصطنعه البعضُ من سعادة وهميّةٍ وبين واقعنا الكئيب.

كلّ هذه المعاناة نتعاطى معها بسطحيّةٍ مطلقة ونعجزُ عن إيجاد مرقدٍ صغيرٍ للروح حيث يعمّ في أرجائها السّلام. متى سنقدر كشعوب عالمٍ ثالثٍ أن نرتقي إلى مفهوم فهم الذّات؟ متى سندركُ أنّ السعادة القصوى لم ولن تأتي من الخارج إنّما تنبع من داخل النّفس؟ متى سنعرف كيف نعلّم شبابنا أن الحياة ليست على الصفحات الإلكترونيّة فقط؟ متى سنتمكّن من تعليم شبابنا أن يعرفوا كيفيّة استخدام التكنولوجيا في سبيل تنمية وتطوير ذواتهم؟ كلّ هذه التّساؤلات أطرحها في عهدتكم أنتم أصحاب العقول المستنيرة، ألم يحن الوقت لقادة فكر وروح يوجّهون الأجيال نحو استكشاف طاقات النور والخير بأسلوب يتوافق مع هذا العصر الجارف؟

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *