وديع الصّافي… أسطورةُ الأزمنة

Views: 52

د.  جورج شبلي

كان صوتُه يغمرُ قلبَ لبنانَ بشعاعٍ من نشوةِ الاعتزاز ، فكأنّه عُصارةٌ لجهودٍ قَضَتها الأزمنة ، منذ ما قبلِ عصرِ النُّبُوَّات، لِتورِثَ الأجيالَ نَصراً لا يموت. فقد جَلا صوتُه حقيقةً  كادت أن تُطوى ، أو كان الاعتقادُ بأنّها لا تَحيَا إلاّ في المَزاعِم، حقيقةً فَعَلَ بها صوتُه فِعْلَ الأعجوبة، وبَرَّأَها من تهمةِ أنّها موجودةٌ بالقوّةِ فقط، ففاجَأَ الشّرقَ بِنَبَأٍ عظيمٍ لم يكن ينتظرُه يوماً ، وهو أنّ زمنَ الإعجازِ لا يزالُ حيّاً.

 

وديع الصّافي هو وَكيلُ الصَّوتِ في عالمِ المُثُل، استَعانَ به الدَّهرُ لِيُنطِقَه ثورةً صوتيّةً فازَت على المُستَحيل، من دونِ أن يُوَجَّهَ إليها عَيبٌ أو مُؤاخَذات. وكلُّ مَن أَيَّدَ تلكَ الثّورة، ليس بِمَقدورِه الفَرارُ من نَزَواتِ الوجدان. فمع وديع تَحَوَّلَ الذَّوقُ من حالٍ الى حال، ففي أَمْصارِ صوتِه بَياناتٌ لا جِدالَ في أَنَّها لم تُعْطَ لِسِواه، ففي ذلك فَتْحٌ للموهبةِ نُشِرَ لِمَرَّة. وكأنّ الله، مع وديع، سألَ الدّهرَ أن يختارَ مِن بُلَغاءِ الصَّوتِ واحداً يُكتَفى به عن جُملَتِهم. (bromebirdcare.com)

 

صوتُ وديع الصّافي عِقدٌ فريدٌ في مَناهِجِ الأداء، لا يَرتابُ من سِرّ، فهو مَوفورُ القدرة ، يَصهرُ شَتيتَ الصَّبَغاتِ بِلونٍ ذي نَفحَةٍ ” وديعيّة ” ، يأخذُ غيرُه عنها ما يَرى في أَخذِه فضلاً وعائِدَة. وفي ذلك فائدتان : الإستمتاعُ وإنتِساخُ ما يَظفَرون به من نادرِ المُصَنَّفات ، لِيَفخَروا  إذ يُغَنّونَ لوديع الصّافي.

صوتُ وديع صديقُه الذي لا يَهابُ وزَميلُه الذي لا يَخون، هذا المُستَساغُ في كلِّ زمن ، يساهمُ في إسقاطِ الصَّوَّاتين من دونِ قصد، أولئكَ الذين فاتَهم أن يَتَلَقّوا عنه.

 

فهذا الصّوتُ الصّوفيُّ يَفضحُ ما حفظَه التاريخُ من مآثرَ ويُضيف، وكأنّه أَصدَقُ مَصدَرٍ للمَوهبةِ الصِّرفِ في نُسخَتِها الشَّرقيّة. فَضْلُ وديع أنّه صَبَرَ على مَحدوديّتِنا في استيعابِ مساحةِ صوتِه دُفعةً واحِدة، فأعانَنا في تَلقيمِنا المُبتَكرَ أَدواراً، فَفَيضُ الجَمالِ على العقلِ المُنتَشي يتمُّ على دُفُعات، والخَمرةُ تفقدُ سِحرَ التَّلّذُّذِ بها لو تمَّ ارتشافُها جُرعةً واحِدة.

مع وديع كان اللّحنُ أكثرَ حظّاً ولو اُنْهِك ، فهو كان يَتَعَقَّبُ الصّوتَ لا العكس، وفي ذلك تَقويضٌ لِما أَلِفَه فنُّ الغِناء، وضَربٌ من ضروبِ الإبداع، واحتِفالٌ نَوعيٌّ بالإتقانِ والجودةِ لم يَنَلْ مَنزِلَتَهما أَحَد. إنّه بِناءُ الفَرْقِ بين المُبتَكَرِ والمُرَدَّد، بين التَّسميعِ وأَسْرِ الأسماع، بين المُمْتَحَنِ والمَثَلِ الأعلى الذي تقفُ عنده حدودُ الطَّبيعةِ البّشّريّة، إنّه الاطمئنانُ الى أنّ الإعجازَ بِخَيْر.

 

صوتُ وديع أَعْلَقُ بالنّفسِ لِطَهارتِه، بالرّغمِ من تلك الحَيَويّةِ العظيمةِ والمُنضَبِطةِ التي وإن حارَت في كَلِمة، ففائِضُ المَقدِرةِ الأدائِيّةِ الرَّشيقَةِ لها أَبَداً فِعلُ الإيثار، وهذا شَأنُ الكِبار. هذا العملاقُ الذي ما قَعَدَت به هِمَّتُه حتى عَتِيِّ العمر، هو وحدَه في عصرِنا صاحبُ الحنجرةِ العَذراءِ المُستَدامَةِ التي لا يُمكِنُ أن تَخضَعَ للمُفاضَلَة ، ففي ذلك إجحافٌ للمُفاضَلين ، إذ كيفَ تَجوزُ المُقارَنةُ بين الماديِّ والجَوهَر؟

 

يا سيّدي، لقد سافرْتَ تارِكاً ماضِغي الألحان، ولم تَرأَفْ بنا. لقد خُطِفْتَ، ربَّما لأنّ الطَّربَ أَقربُ الفنونِ الى أرواحِ الأنبياء، هؤلاءِ المُشتاقين الذين كانوا يحسِدوننا عليك، صارَ دَورُهم لِيَتَمَتَّعوا بِسَماعِك، فَيُخَلَّدَ صوتُك معهم كما خَلَّدناه عندنا .

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *