يوميّات بلا أيّام

Views: 311

“يوميات بلا أيام” كتاب جديد صدر حديثًا للدكتور جوزف صايغ عن دار نلسن. تنفرد Aleph-Lam بنشر فصول الكتاب على حلقات. في ما يلي الحلقة الخامسة.

 د. جوزف صايغ

 باكراً تفتَّحتْ في فؤادي وردةٌ ذات نَشْر جديد. وردة غمرني عطرُها بنشوة راحت تُبدّلني شيئاً فشيئاً صوب ما سوف أكون: شاعرَ حُبٍّ، كَلِفاً بالجمال حيثما بدا؛ في المرأة بالأخصّ. كنت في مثل حاجة حيوية إلى جمال المرأة. لقد شغفتُ بالحسن كما تَشغَفُ السماءُ إنساناً مختاراً للسماء، أو إلى جحيمٍ ما انطفأت ناره في كلماتي مدى الحياة.

‏*‏

كان ذلك حوالى الثالثة عشرة، أو الرابعة عشرة من العمر، عندما نقلني أهلي من الكلية الشرقية إلى مدرسة القلبين الأقدسين (اليسوعية) لأسباب لا أذكرها. فكنتُ في صفٍّ ابتدائي مُوكَل أمرُه إلى كاهن يرعانا ندعوه بُوْنا بولس. كان ذلك “الصفّ” كنايةً عن غرفة مستقلّة عن بناء الدَّيْر تقوم، وحدها، كما في لامكان، على طَرَف ملعب صغير تتوسّطه شجرة زَنْزلَخت طالما كنت أسرِّح النَّظَر فيها، وأسرح وراء عصافيرها أحسدها على حرّيتها.

كان القدّاس الصباحي يجمع، في الكنيسة ذاتها، الصبيان والفتيات؛ فصادف مكاني من الصفوف اليُمنى، المخصَّصة للصبيان،طَرَفَ مقاعد الفتيات المقابل. إلى يساري، لمحتُ طيفاً جميلاً، صغيراً، رحت أخطف النظر إليه خفيةً، أثناء القدّاس، فأشعر بسعادة لم أشعر بمثلها قبلاً في النظر إلى أي شيء. لم أكن أرى فتاةً. كانت خيالاً لطيفاً يتلالى في تصوُّري. مريول أسود بطَوْقٍ أبيض، مُنشًّى، يُطوِّق عنقاً دقيقةً، يغمرها شَعر أسود، مُرْسَل، يُضفي على بياض البشرة شحوباً يُولع قلبي. شريطة بيضاء تحسر ذلك الـمُرخى الكثيف على الجبهة، فأُعطى الدنيا لمحةً خاطفة إلى ذلك الوجه.

كان المريول الأسود الرسميّ ينتهي بجوارب سوكيت بيضاء، واسكربينة من اللّمِّيع الأسود، دون كعب، ذات إبزيم بعُروة يُزرَّر إلى الناحية اليسرى للحذاء بِزِرٍّ صغير. كان ذلك الزيُّ الموحَّد للتلاميذ، إناثاً وذكوراً، اختياراً جيداً يَسْتر أخطاء الذوق في الثياب، ويُلغي الفوارق الاجتماعية بين التلاميذ. لم أُغرَم بفتاتي لأني رأيتها وأُخذتُ بحسنها. لم أكن لأجرؤ على تَرَنِّيها بالنظر الصريح. كانت شعوراً أكثر منها جسداً. وكانت أجمل البنات،لأنها كانت أقربهنَّ إليَّ. لم أرَ غيرها، فكانت هي.

منذ ذاك، ظلّت المرأة عندي من دون جسد. رحتُ أرسمها، بالتصوّر، على نحو المشاعر غير الواعية التي تجتذبني في المرأة: النحول، الشَّفاف الشاحب، الأثيرية، التي تجعلها هنا ولا هنا في آن. على أنها لم تكن شقراء كما كنت أودُّها أن تكون ليكتمل النموذج الذي في إحساسي عن الحسن النّسوي.

لم أكن قد تمكّنت من التعبير عن مشاعري كتابة، وكان البوح بما ينتابني، أو يجتاحني، مُلِحّاً، حارّاً، فاستنجدت صديقاً كي “يكتب لي” رسالةَ حبّ إلى فتاة. لكنّ الشجاعة لم تسعفني لإيصال الرسالة. ففاتحت صديقاً في صفّي كان هو الآخر مغرماً بالفتاة نفسها، واتفقنا – بما أننا نحب الفتاة ذاتها – على أن نوقِّع الرسالة معاً، ونترك لها حرية الاختيار بيننا. تقاسُمُ الحِمْل هوَّن حَملَه. وهكذا كان. بعثنا بالرسالة مع شقيق الفتاة، الذي كان رفيقاً لنا، ثم هربنا، كل إلى منزله يختبئ، كمن اقترف جرماً. لم نعد لنجرؤَ على المرور أمام منزلها. لَزِمْتُ البيتَ لا أبرحه بانتظار الجواب، في شبه حمّى حقيقية… عصر اليوم التالي، فوجئت بشقيقها يدخل عليَّ قائلاً: “قُمْ. تعال. أختي بانتظارك”. فعرَتْني رجفةٌ… مثل شلل أعجزني عن الوقوف، والكلام، والسيطرة على نفسي. تعجَّبَ الشقيق، فقلت له: “إذهب، وألحق بك بعد قليل”. لم أعد أذكر كيف مشيت، ولا كيف وصلت، ولا كيف استطعت التحدّث إليها. شيء لا يُصدَّق حصل، فجلسنا على مقعد قرب إحدى النوافذ، متآخذَين بالأيدي، صامتَين([1])

لا أظنّها كانت قد تجاوزت الثالثة عشرة من العمر. كانت أدنى إلى ملاك منها إلى طفلة تُضيئها عاطفةٌ لا تعرف اسمها بعد.

كنّا نُمضي بعد ظهر أيام الخميس (يوم العطلة المدرسية) في إحدى غرف ذلك البناء الكبير، الجميل، المشرف على النهر، وعبره على حديقة المدينة، جالسين، جنباً إلى جنب، متآخذين بالأيدي، في صفاء طفولي، ملائكي. كان البناء من الضخامة بحيث لا أحد يرانا، أو يُلاحظ وجودنا، أو يُعيرنا انتباهاً. سعادة لا توصف تغمرنا: لم أُعْطَ رؤيةَ السماء قبلها…

كان الحبّ الأول، وكانت الحبيبة الأولى.

لكنّ البراءة ما كانت لتحمينا من الحسد، ورواقيب المدرسة، وشراسة بعض الرهبان. فسرعان ما بلغ خبرنا مدير الشرقية، فيليب الحدّاد، الذي جاء من يبرود إلى زحلة ليُربّيَنا. ذات صباح، بينما كان التلاميذ مصطفّين في الملعب الكبير، قبيل التوزُّع على الصفوف، برز “الحَنَش” (كان فيليب الحدّاد قد اشتهر بهذا اللّقب بين التلاميذ لسواد لونه، وسوطه الصغير اللاّسع كذنَب الحَنَش)، وراح يتفتَّل، متبختراً، بين الصفوف؛ يقلِّب سوطه بين يديه، ويبحث. عمَّن؟ كما عن طريدة. وما هي إلا لحظات حتى توقّف أمامي، وابتسم ابتسامة لئيمة جمَّدَت الدَّم في عروقي… للحظة، فقط، إذ سرعان ما فطنتُ إلى ما هو أدهى، وآلم من العقاب: الفضيحة. الفتاة.

  • “صايغ، إخرج من الصفّ”، أَمَر. فخرجت.
  • إركع، فركعت. إفتح يديك. ففتحت. مددت ذراعيَّ كالمصلوب، فانهال عليهما بسوطه وأنا أصرخ: “لماذا؟” “لماذا”؟ “ماذا فعلت؟” لكنه كان، كلّما ازددت صراخاً، ازداد شراسة كمن يستمتع بلذّة جنسية سادية. استمرّ يُعمل سوطه في يديّ وجسمي حتى سال الدم من يديّ، وأنفي، فهببتُ واقفاً، نطحتُه برأسي، وانطلقتُ مهرولاً صوب الباب الخارجي، آخذاً بطريقي سيمون البوّاب، حتى وصلت المنزل، مُدمّى الوجه واليدين. جنّ جنون أمي لهذا المشهد، فأخذتني فوراً وعادت بي إلى المدرسة للاستفسار من سيادة الأب الرئيس أيوب فلّوح عن الجرم الذي أوجب هذا العقاب. فما كان منه إلا أن رفض مقابلتها، واكتفى بالقول: “إبنك أزعر، بيحبّ البنات”. فسألته أمي: “أتفضِّل أن يُحبَّ الصبيان؟” فانتفض غضباً لجواب يتبطَّن تلميحاً مُريباً…

لقد طرد هذا الأب المحترم، الكاهنُ المسيحي المربِّي، سيّدةً جاءت تسأله لماذا أرسلوا ولدها مدمّى إلى البيت؟ لو قرأ غربيّ اليوم هذه الحادثة لما صدَّقها، أو لظنَّها ترقى إلى ما قبل تاريخ المدارس، والتربية، والإنسان نفسه. هذه الحادثة استنفدت كامل كرهي للمدرسة، والدين، والكهنة، وباتت الكلية الشرقية عندي كولاغاً حقيقياً رهيباً. رفضت العودة إلى المدرسة، لكن رغبة والدتي، وحجّتها، كانتا الأقوى. فعدت بفضل واسطةٍ مِمَّن لا أعرف، شرط أن أُهمَل، وأنقطع عن المشاركة في الدروس، فأبقى في المدرسة “زرابة” تفادياً للتشرُّد في الدروب مع الشّاردين من أولاد “الحارة”.

***

([1]) تلك النافذة المطلّة على النهر، ما زلت إلى اليوم، بعد ثلاثة أرباع القرن، أمرّ حيالها وأناجيها.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *