في الجرأة على تغيير الحكومة!

Views: 501

د. مشير عون

(السبت 26 تشرين الأوّل 2019)

ما الحلول التي تقترحها السلطة وأحزابها، والشعبُ الثائر، وأحزابُ المعارضة السائرة وراءه وأمامه؟ إذا تحدّث العقلاء عن الحلّ العقلانيّ، عاتبوهم وأخذوا عليهم مثاليّتهم وبراءتهم وتنظيرهم التجريديّ المحض. وإذا تُرك الأمر للشعب الثائر، فإنّه عاجزٌ عن النطق السياسيّ الحكيم. ماذا يبقى أمام اللبنانيّين الصامتين المتألّمين ؟ أن ينحازوا إلى هذا الحزب أو ذاك، وهذا الزعيم أو ذاك لينطق عنهم وفيهم! فهل نعود القهقرى من بعد هذه الانتفاضة الثائرة وسواها من الانتفاضات!

إليكم موضع الخلل في البنيان السياسيّ اللبنانيّ: فالطبقة السياسيّة والطبقة الماليّة والطبقة العشائريّة أنشأت لها دستورًا براغماتيًّا في منتهى الحنكة والخبث والانتهازيّة المبتسمة. أمّا الدستور الشرعيّ الأصليّ في لبنان، فينتهكه السياسيّون، أغلب السياسيّين، على مدار ساعات النهار وساعات الليل. وحين تصلك أرقام الأموال المنهوبة والمودعة في الجنّات الضريبيّة العالميّة، وقد يكون النصف الصحيح منها كافيًا لشنق السارقين عشر مرّات على التوالي في الساحات العامّة، يقشعرّ بدنُك، فتصرخ في داخلك: هل يستحقّ مثل هذا الشعب الصادق المتألّم المضطهد في عيشه وصحّته ونفسيّته أن يُذبح ذبحًا لئيمًا؟ وتصرخ أيضًا: لو لم يكن القضاء اللبنانيّ، في معظمه، إمّا مرتكبًا، وإمّامتواطئًامرتبكًا، وإمّا مروَّعًا، وإمّا نظيفًا صادقًايائسًا منكفئًا، مكتفيًا بجُنُحات التعدّي على بستان الجيران، لما بلغ الفسادُ هذا المبلغ المخيف في لبنان.

ليست مشكلة لبنان في عجز اللبنانيّين الذهنيّ عن تصوّر الحلول الإداريّة والتقنيّة والاقتصاديّة والبيئيّة الصائبة. في ظنّي أنّ اللبنانيّين ما برحوا يتمتّعون بنسبة مقبولة من الذكاء العلميّ. مشكلتهم في إرادة الإقبال على هذه الحلول. لذلك كان القول بحكومة نزيهة، مقتدرة علميًّا، جديرة بالثقة، هو المخرج الوحيد من الأزمة. أمّا الذين يسترهبون انصراف مثل هذه الحكومة إلى إعادة رسم إستراتيجيّات القوى الإقليميّة، فأطمئنهم مذكّرًا إيّاهم بأنّ الأشهر القليلة التي ستمضيها الحكومة الجديدة في تضميد جراح الشعب المجروح، وترميم الهيكل الساقط، واسترداد المال المنهوب، ووضع الخطط التقنيّة السليمة للمياه والكهرباء والنفط والتربية والاقتصاد، لن تتيح لها أن تبدّل في كيانيّة لبنان، ولا في أيديولوجيات الأحزاب السياسيّة، ولا في توجّهات السياسة الخارجيّة اللبنانيّة. مثل هذه الأمور تستوجب مؤتمرًا وطنيًّا شاملًا.

 وظيفة الحكومة النزيهة المتخصّصة هي الاضطلاع المرحليّ بمسؤوليّة المجتمع اللبنانيّ المنهار. ووظيفتها أيضًا الإعداد السليم لانتخابات نيابيّة تجري في غضون سنة أو سنة ونصف، يُهيَّأ لها الشعب اللبنانيّ أفضل تهيئة حتّى لا يقع في أوهام الأحزاب، وشعوذات الزعماء، ومداهنات شيوخ القبائل، وتواطؤات رجال الدين.

فما الذي تسترهبه السلطة وأحزابُها في هذه الحكومة! إذا كانت الأحزاب التي لا تريد المشاركة في الساحات الشعبيّة الثائرة متيقّنة من تماسك فكرها، ومنطقيّة طرحها، وصفاء مسلكها، ونزاهة مشاريعها الإصلاحيّة، فليس عليها أن تسترهب كوكبةً من أهل الاختصاص غير الحزبيّين الذي يُشهد لهم بالنزاهة. فهؤلاء هم أشدّ الناس حرصًا على طبيعة الانعطاب اللبنانيّ، وأشدّهم حرصًا على موضوعيّة المسلك السياسيّ، وأشدّهم حرصًا على تداول السلطة السلميّ.

 ويقيني أنّه سيُثقَّل عليهم تثقيلًا رهيبًا حين يختارهم الشعبُ الثائر وينتدبهم لإدارة السلطة التنفيذيّة مرحليًّا في لبنان. هؤلاء عينهم لن يأتوا إلى السلطة من أجل السلطة، ومن أجل الاسترزاق الخبيث، ومن أجل التأبّد في السلطة. 

لا شكّ في أنّ البقاء على هذه الحال المتذبذبة سيجرّ الخراب على لبنان، وسيفجّر الأحقاد الدفينة، وسيعيد الناس إلى زمن الظلمات القبيحة. لقد جرّب اللبنانيّون جميع أصناف الحكومات. ولم يختبروا إلى الآن حكومةً تتألّف كلُّها من رجال ونساء لا ينتمون إلى أحزاب السلطة والمعارضة، ولا يمتهنون السياسة في معناها الانتفاعيّ اللبنانيّ، ولا يأتمرون إلّا بما يمليه عليهم ضميرُهم الأخلاقيّ، وعقلُهم العلميّ، وعزيمتُهم اللبنانيّة الوطنيّة المحض. أفلا يستحقّ اللبنانيّون أن ينعموا سنةً واحدة من المئة سنة المنصرمة بمثل هذه العطيّة النادرة؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *