نكروفيليا

Views: 1801

“نكروفيليا” كلمة يونانية مركَّبة تَعني اشتهاء المَوتى. وهذه الشهوة نَزعة مرَضيّة خطرة تَدفع صاحبها إلى مضاجَعة الجثث، وأحياناً إلى مضاجَعة ضحيّته بعد قَتْلها.

كَتَبَ د. أديب صعب هذه القصيدة خلال الحرب الأهلية في لبنان، وعن لبنان. وهي ليست قصيدته الوحيدة في هذا الموضوع. وقد نشرها في مجموعته الشعرية “مملكتي ليست من هذا العالم”، التي ستصدر، مع مجموعته “أجراس اليوم الثالث”، في طبعة جديدة خلال العام 2020.

والقصيدة ذات إيقاع وَزنيّ يُستعمَل للمرة الأُولى في الشعر العربي الحديث، ومفتاحُه “فاعِلاتُ”.

أيَكون كثيرون من خاطبي ودّ لبنان – من أهله وغير أهله – قَوماً “نكروفيليّين”، لا يَقوون على حبّه إلا جثّة؟

 

د. أديب صعب

“كيف جلسَت وحدها المدينةُ الكثيرةُ الشَّعب؟ تبكي في الليل، ودموعُها على خَدّيها. ليس لها معزٍّ من كل محبّيها. كل أصحابها غَدروا بها” (مراثي إرميا، 1: 1 – 2).

“يَقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون” (مزامير، 22: 18).

“اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي أَلقوا قرعة” (متّى 27: 35، يوحنّا 19: 24).

 بَعدَما كَسا الجِبالَ بالثلوجِ

والسهولَ بالمُروجِ،

قال رَبّي:

قِفْ هُنا، فأَجعَلَ السحابَ

مَوطِئاً لِناظِرَيكْ.

 

ثمّ كان ظلمةٌ وكان نورُ.

وٱشْرأَبَّ من مَرابضِ الجبالِ أرزٌ،

بَعضُهُ هَياكلٌ وبَعضُهُ بَخُورُ.

وتَفَتَّحَ الترابُ عن جُذورٍ

أَفْرعَتْ هنا شقائقاً وقَمحاً،

وهنا صَنَوبراً وسنْدِياناً، 

وهناكَ لَوزاً،

تُولَدُ الفصولُ عندَها. لِكلٍّ

لَونُهُ وعِطرُهُ،

وكلُّ أخضرٍ فَمٌ يُنادي:

هذه بِلادي.

إنْ مَرَرْتَ فَوق هذه الدروبِ يَوماً،

وتَشابَكَتْ كأنّها مَتاهْ،

وسمِعْتَ في شِعابِها هَديرَ رَعدٍ

يُقْلِقُ السماءَ دُونَما مِياهْ.

ورَأَيتَ وَرَقاً بِغَيرِ عطرٍ،

أَسْوَدَ العُروقِ، لا حَياةَ فيهْ،

فَهْوَ بَعضُ شجَرٍ عَريقٍ

كانت الجبال تَرْتَديهْ،

يَومَ كلُّ أخضرٍ فَمٌ يُنادي:

هذهِ بِلادي.

 

إنْ مَررتَ فوقَ هذه الدروبِ… هذا

وطنٌ جَفاهُ أَهلُهُ، ولم يَكونوا

لِبَهائهِ العَظيمِ أهلاً.

جَعلوا لكلِّ مَطْمحٍ ضريحْ.

قَهَروا اليَتيمَ باسْمِ أحمدٍ،

وشَهَروا السيوفَ بالمَسيحْ،

والمسيحُ ومُحمَّدٌ كلاهما شَهيدٌ:

“ما الذي دَهاكَ، شَعْبي؟

عِوَضَ الندى سَقَيْتَني مرارةً وخَلّاً.

وأَمَتَّني، رَمَيتَني إلى لُصوصٍ

قَسَموا ثيابي

بَينَهم وأَطْبَقوا على رِدائي”.

 

ها أنا مُبَعْثَرٌ هنا، شَريدٌ،

يَرْفُضُ الظلامُ غصَّتي وتَمْتَماتي.

كيف تَفتحُ السماءُ لِغَريبٍ

بابَها، وتَعْبُرُ المَدى صَلاتي؟

كلُّ مائتٍ أخي، وكل أرضٍ

شفَةٌ تُسَبِّحُ الإلهَ. لكنْ

لَيستِ الحجارُ ههنا مَرايا

لِطُفولتي، ولا النهارُ وَجهَ أُمّي،

والنسيمُ صَوتَها، ولَيستِ النجومُ شِعراً

نُثِرَتْ حُروفُهُ على دفاترِ الليالي.

 

رَبِّيَ ٱطَّلِعْ من السماءِ مَرّةً، تَعَهَّدْ

هذه المواسمَ التي غَرَسْتَ، جَمِّعْ

من قُبورِها عِظامَ أهلي.

وٱنْفُخِ الحياةَ من جَديدٍ

في يَباسِها،

وقلْ لها ٱسْمَعي كلامي:

“ها أنا كَسَوْتُ عُرْيَكِ الرهيبَ

عَصَباً ولَحماً،

وسَكَبْتُ فيه روحاً”.

لو تَشُقُّ سُحُبَ الدجى وتأتي،

وتُحَرِّكُ المياهَ، تَبْعَثُ الترابَ قَمْحا،

والربيعَ بَهجةً وفِصْحا.

 

وَقَفَتْ مَدائنُ الضياءِ تَبكي

وَحْدَها بِلا عَزاءِ:

لو يكونُ للسماءِ عَينٌ،

فتَرى بُكائي.

سُلِبَ الضياءُ من يَدي،

وما حَماني

أُمَّتي وأصدقائي.

 

ما لَها العَروسُ علَّقَتْ حِلِيّاً،

والعَريسُ لم يَجئْ؟ وجاءَ قَومٌ

عَصَبوا جَبينَها وقَتَلوها،

ثمّ قَطَّعوا ثيابَها وضاجَعوها

واحداً فَواحِداً،

ونَظَموا قصائدَ الغَرامِ والملاحِمْ،

وَهْيَ لا تَعي ولا تُقاوِمْ.

وَيْحَها العَروسُ، أَصبحَتْ لِقَومٍ

يَعشقون جثّةً بلا حِراكٍ

بَعدَ أن يُمَزِّقوا الحياةَ فيها

خَوْفَ أن تَصُدَّ غاصِبيها.

رَبِّيَ ٱطَّلِعْ من السماءِ، أَشفِقْ.

لو تَشقُّ سُحُبَ الدجى وتأتي.

رَبِّيَ ٱطَّلِعْ من السماءِ، وَٱمْحُ

مَوسِمَ الشقاءِ كَي يكونَ فِصحُ.

رَبِّ، هل يكونُ بَعدُ فصحُ؟ 

***

(*) الصور بعدسة د. أديب صعب.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *