الثورة انتفاضةٌ، فصلابةٌ، فحكمةٌ ومراقبةٌ!

Views: 787

د. مشير عون

(الأربعاء 29 تشرين الأوّل 2019)

لا يستطيع أحدٌ أن يضبط هيجان الشوارع التي تثور نصرةً للمظلومين والشوارع التي تناهض ثورة الثائرين، ولاسيّما في وطنٍ شديد الحسّاسيّة والتعقّد والانعطاب.من معضلات الواقع اللبنانيّ أنّ كلّ شيء أضحى وجهةَ نظرٍ، خاضعًا لتفسيرات المفسّرين وتخمينات المخمّنين. الفساد عينه أمسى مسألةً خلافيّة، يصحّ فيها ما يوافق بعضهم، ويسقط منها ما يخالف بعضهم الآخر. من أنصع الأمثلة على ذلك الخلاف التأويليّ ما شهده المجتمع اللبنانيّ من تشابك الناس الفقراء وتصارعهم على كيفيّات التظاهر وآليّاتهوسبُله ومقاصده. ومع أنّ الجميع يعترفون بأحقّيّة التظاهر السلميّ، إلّا أنّ كلّ فقير في لبنان يميل إلى مؤازرة عشيرته وطائفته وحزبه في استدراك أسباب الانحطاط اللبنانيّ ومواجهة مخاطر الفساد حتّى استئصاله.

من المعاينات التي أذهلتني في الشارع اللبنانيّ أنّ الفقراء الذين سحقهم الظلم والفساد والانحلال الأخلاقيّ المتفشّي لدى الطغمات السياسيّة المهيمنة يتخاصمون ويتشاحنون ويتدافعون من أجل مصالح الأحزاب والزعماء، في حين أنّ الحكمة تقتضي أن يتعاضدوا ويتناصروا على استئصال أسباب الظلم والفساد. منهم من يعتقدون أنّ الفساد في لبنان أصلُه التنوّعُ الطائفيّ اللبنانيّ، فيطالبون بإلغاء الطائفيّة السياسيّة فورًا في غليان الحال. ومنهم من يعتقدون أنّ الفساد في لبنان أصلُه اليمين المتطرّف أو اليسار المتطرّف، فيهبّون هبّة العميان يتذابحون على معابد أيديولوجياتهم. ومنهم من يعتقدون أنّ الفساد أصلُه تواطؤ قوى الاستعمار الغربيّ، فيجاهرون بعدائهم المطلق لكلّ أثر يتركه الغرب في ميدان التاريخ. ومنهم من يعتقدون أنّ الفساد في لبنان أصلُه الغيب المحجوب، فيلعنون الدهر الظلَّام ويكفرون بنعمة الوجود.

فات الجميع أنّ الفساد آفةٌ أخلاقيّة تُداوى بالتهذيب، واعتلالٌ إداريٌّ يُقوَّم بالمحاسبة، وإهمالٌ تقنيٌّ يعالج بالدراية. أمّا التلطّي وراء الزعماء، فمضرّة المضرّات ومقبرة الفقراء اللبنانيّين أجمعين. ليس الفساد حالةً غيبيّة ماورائيّة، بل واقعٌ بنيويٌّ خاضعٌللتحليل والتفكيك والمعالجة.

الصراع التأويليّ عينه ينطبق على التبصّر في مطالب الشعب الثائر. استقالة الحكومة وتأليف حكومة مستقلّة، نزيهة، عالمة، مقتدرة، هما الهدف الأوّل من انتفاضة الناس. لذلك تقتضي الفطنة أن يتشدّد الناس في تأليف مثل هذه الحكومة وأن يمنحوها الثقة والقدرة على الاضطلاع بمسؤوليّة الإدارة الصالحة، والمحاسبة الموضوعيّة، وإعادة ترميم الهيكل اللبنانيّ المتهاوي. من المغالاة المتهوّرة الفتّاكة أن تُصرّ الساحاتُ الثائرة على إسقاط كلّ النظام اللبنانيّ في غضون ثلاثة أسابيع. فالثورة عمليّةُ نضالٍ وتصبّر وتجلّد، ومسرى تفطّنٍ ومراقبة ومحاسبة، والتزامُ تخطيطٍ طويل الأمد، واسع الأفق. نال الناس مبتغاهم الأوّل. فليفسحوا في المجال للحكومة الجديدة من أجل النهوض بأعباء المسؤوليّات الجسام. ومن ثمّ، يعمدون إلى المطالبة بقانون الانتخاب الأنسب، مجتهدين في تحرير العقول من ذهنيّة المبايعة الغنميّة القطيعيّة.

لن تهرب الساحات، ولن تسقط إمكانات الانتفاض على الإطلاق. والشعب الذي ثار مرّة واحدة، وقد تزيَّن بهذا القدر الممكن من الوعي، يمكنه أن يثور مرّات أخرى على قدر أعمق من التبصّر، وقد صقلته اختباراتُ التلاقي والتواجه والتفاعل والتضامن. 

أعتقد أنّ اللحظة التاريخيّة أضحت مؤاتية لاقتطاف ثمار الثورة الأولى. أمّا التسرّع في جني كلّ الثمار، فانتحارٌ جماعيٌّ يزجّ الجميع في غياهب المجهول. ذلك بأنّ الثورة ليست صراخًا ومطالبةً وحسب، بل هي أيضًا حالةٌ دائمةٌ من التبصّر النقديّ، والتهذيب الذاتيّ والجماعيّ، والمواكبة الساهرة، والاستعداد المتأهّب. أعرف أنّ التعقّل يناقض منطق الثوران. ولكنّ المغالاة الجذريّة الراديكاليّة قد تلامس العبثيّة القاتلة في قرائن الاجتماع اللبنانيّ. فحذارِ التهوّر !

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *