معرض ريمون شويتي في الأردن… رحلة مبهرة في أعماق الذات

Views: 788

يعرض الرسام التشكيلي اللبناني ريمون شويتي مجموعة من لوحاته ضمن معرض فردي ينظم للمرة الأولى في العاصمة الأردنية عمان، تحديدًا في غاليري اطلالة اللويبدة بين 19 تشرين الثاني و26 منه. في ما يلي كلمة الشاعر والروائي والناقد الفني محمد شمس الصوالح حول المعرض:

 

ها هو الفنان اللبناني ريمون شويتي يحط رحاله للمرة الأولى في عمّان الأردن ، حاملاً معه تجربة فريدة من نوعها ، تتشابك وتنصهر مع عوالم خاضها بعيداً سواء في أوروبا أو في أمريكا وفرنسا وكذلك استراليا والسعودية ، ناهيك عن جعبته المليئة بالصور والانطباعات عن دول شرق آسيا مثل الهند وغيرها من البلدان التي زارها ، والتي لا بدّ أنها ساهمت في صياغة رؤيته للعالم والتي نقلها على لوحاته وريشته التي استمرت باللهاث بين أصابعه على مدى عقود من الزمن الثرية .

ها هو ريمون يدشن معرضه في عمّان ، الذي يوعدنا بتجربة متميزة كونه المعرض البانورامي المحتوي على مراحل من الفن التشكيلي مرّ بها ريمون خلال عشرين عاماً مضت . مراحل تحسبها متداخلة أحيانا ً ، وتحسبها في احيانٍ أخرى مختلفة عن بعضها البعض ، لكنها بالنهاية تعبر عن همّ انساني بات شغله الشاغل يعبر عنه بريشته النشطة التي لا تكل ولا تمل في محاولة لفهم وتفكيك هذا العالم .

إن ريمون شويتي في هذا المعرض البانورامي الجديد يحاول بكل اريحية أن يعطي صورة مليئة بالتجارب التي كانت غائرة في جلدته ، تاركة آثارها على نفسيته وروحه الشفافة ، ناثراً عطره التشكيلي على صفحات الزمن الذي مر فيه كي يجعلنا نشم عبق هذه التجارب التي خاضها ، وليقول لنا بلغة الانتصار : هذا ما فعلته خلال تلك السنين .

يأتي إلينا ريمون شويتي إلى عمّان كي يجعلنا ننظر من تلك النافذة التي نظر منها الى العالم وكي يعيد تشكيل فسيفسائه على أرض عمّان، ناثراً وروده التي لم تجف في معرضه الجديد الذي يعتبر بوتقة صارخة بالأمل وفاضحة لعذابات تشكلت عبر السنين ، وخيالات قادته دائما ً الى بر الأمان عبر قارب الفن الذي بتهادى هلى محيط شرس غاضب أراد ريمون دائما ً ترويضه لكي ينجو .

 

إن التنوّع الذي يفرشه أمامنا ريمون في هذا المعرض الجميل هو انصهار للمدارس والرغبات والتيارات التي مرّ بها ، وكذلك لحظات الأمل ، والفشل ، واليأس ، حاملا ً في يده النار كي يضيء العتمة ونحن نجري خلفه حتى نرى ما رآه وما نقله على خارطة الاكريليك . حيث تبقى ريشته هي مسبارنا نحو تلك العوالم اللامتناهية ، فالفن بطبعه يفتح الأبواب ويبحر في الجزر النائية ويرسو على شطآن لم تطأها الأقدام . إنه هنا يريدنا ان نرى كيف

مد ذراعيه إلى السماء

ويده مغروسة بتراب الألوان وأعاد تشكيل وجوده وضياعه أيضا ً

يرتدي إنسانيته التي لا يتخلى عنها

حتى يقاوم قسوة الطقس البارد

الذي يخلو من حرارة القلب المشتعل بالتغيير

بحثاً عن ماهية الوقت

وكيف يمضي

ولماذا لا يعود

يحاول أن يجرّ الأمل بعربة مصنوعة من خشب الخيال

يتلو علينا رؤيته ورؤياه

يجرد الأشياء من قشورها

ويصبغنا بربيعه المتنامي

رغم الخريف وتكلس الأماني

إنها المغامرة إذن !

وصناعة الدهشة من رحم الأبعاد التي لا تنتهي.

 

في هذا المعرض الجديد يأخذ على عاتقه ريمون شويتي

إلى سبر أغوار المجهول

يتلمسه ويمسك به بيديه

يهدمه ويعيد تشكيله بطريقة صادمة لأول وهلة

لكنك سرعان ما تكتشف أنك أنت الصدمة

حين تبتلعك الأبعاد الذائبة في محيط تجريدي مبهر

مع تشكيلة من الألوان التي تناسب هذه القفزة الاستثنائية.

ترى في اللوحات لغة مبهمة شديدة الوضوح

لأنها تلمس العمق الذي غاب عنك

فتصبح أنت اللوحة ولحظة اكتشاف للمتلقي، وليس العكس

فالدلالة في اللوحة هي دلالتك المنزوية في أعماق النفس

وليست الدلالة في اللوحة فقط

هكذا فعل ريمون شويتي في هذه المحفل البانورامي

الناطق بلساننا وبلغة نفهمها ونستوعبها

فأغلب اللوحات تمدّ يدها إليك وتأخذك

في رحلة مبهرة كأنك تسبح في كون آخر

لكنك ترحل عبر خطوطها المرسومة بدقة

وعبر أبعادها الهندسية التي تعيد رسم أغوار الروح

وكهوف النفس، وتلمس مسارات كونية

تعكس قلقنا وأملنا وعقولنا المشتبكة مع الوجود

إنها مغامرة محسوبة بنفس هندسيّ شاعريّ

إنها شعرية الهندسة أو هندسة الشعر

حيث ترى الفن متجرداً من تنميقه

وصاعداً بك نحو بلاغة الروح

نحو الأحلام التي تنطق بلغات العقل الجمعي الانساني

إنها تجربة أقل ما يقال عنها أنها قفزة إلى الأصالة

قفزة إلى المعلوم الأول الذي نسيناه

بأسلوب فنيّ مجهد وتقنيّ

لكنه غنيّ بمساراته وتشكلاته وموضوعاته.

 

أراد ريمون شويتي الرسم على أرواحنا وخيالاتنا وأمزجتنا

لكنه في آخر لحظة خلط كل هذه الأفكار والمشاريع

في بوتقة واحدة، وأعاد تشكيل ما نريده بلغته هو

لغته التي تعودنا عليها في مجموعاته السابقة

لكنها الآن مختلفة .. شديدة الابهار وصامتة رغم صخبها

إنها اللغة التي تريك قمة جبل الجليد وتدعوك إلى تخيّل باقي الجسد

اللغة التي تقدم لك الهامش والمتن معاً

لتنصهر أنت معها حائرا ً

كيف استطاع أن يفعل كل ذلك بريشة رشيقة ؟

باختصار، ريشة الفنان ريمون شويتي في مجموعته الجديدة

غمست في الغبار الكونيّ المتواجد في هذا الفراغ اللامتناهي

لكنه أراد إعادة تشكيل هذا الغبار بطريقة مبتكرة واستثنائية

ورسم لوحات مبهرة عاصراً الزمن بين أصابعه

ومطلقاً لخياله العنان في ابهارنا

فلم يعيد رسم الكون بقدر ما رسم ذواتنا جميعاً

لقد عبر عن مخاوفنا وهزائمنا وافراحنا

وكأنه كان متسلحاً بمقولة النفرّي

( أتحسب أنك جرمٌ صغير .. وفيك انطوى العالم الأكبر )

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *