الشرعيّتان المتقابلتان

Views: 1051

د. مشير عون

(الجمعة15 تشرين الثاني 2019)

أفرجت الانتخاباتُ النيابيّة الأخيرة عن نشوء سلطة تشريعيّة وتنفيذيّة، واستولدت الثورةُ الشعبيّة مرجعيّةً معنويّة تقتصر ظهوراتُها حتّى الآن على تعبير مطلبيّ متنوّع الدلالات. نحن إذًا تتنازعنا في هذه الثورة شرعيّتان، دستوريّة وشعبيّة، تسعى كلٌّ منهما إلى توطيد دعائمها، وترسيخ أحقّيّتها، وتدعيم رؤيتها. في جميع الأحوال، يعلم اللبنانيّون أنّ الشرعيّة الدستوريّة انبثقت من الشرعيّة الشعبيّة. لذلك يحار المرء في مسألة التغيير المفاجئ في التفويض الشعبيّ الذي أثبتته الانتخاباتُ النيابيّة. غير أنّ الأمانة الموضوعيّة تقتضي التذكير بحقائق أساسيّة. أوّلًا، الشرعيّة الدستوريّة الحاليّة قامت في هذه الانتخابات على مشاركة اقتراعيّة شعبيّة هي الأضعف منذ انتخابات العام 1992، فلم تتجاوز حجم نصفالشعب اللبنانيّ. ثانيًا، تستند هذه الشرعيّة الدستوريّة إلى نظام انتخابيّ تشوبه الكثير من التناقضات الجوهريّة، والعيوب البنيويّة، والالتواءات الإجرائيّة. ثالثًا، تعتمد هذه الشرعيّة على ذهنيّة شعبيّة انتخابيّة لم تهذّبها وتصقلها وتعزّز مناعتها حملاتٌ من التوعية الشاملة تستدرك في مسلك الناخبين الوطنيّ كلَّ محن الانحراف والإغراء والانجراف الغريزيّ والتعصّب المذهبيّ والأيديولوجيّ.

من الطبيعيّ إذًا أن تتواجه الشرعيّتان وتتقاذف بأغرب الاتّهامات. ومع أنّ المجتمعات الدِّموقراطيّة السليمة تختبر هذا الضرب من التنازع الشرعيّ، إلّا أنّ مشكلة اللبنانيّين أنّهم يحوّلون كلّ اضطراب إلى مأساة كيانيّة. ليس على الشرعيّة الدستوريّة أن تدين الشرعيّة الشعبيّة وتتّهمها بتقويض الانتظام السياسيّ العامّ وتهديد السلم الأهليّ. وليس على الشرعيّة الشعبيّة أن تهين الشرعيّة الدستوريّة وتنعتها بالجبن والتخاذل والتواطؤ. في مثل هذا التواجه، ينبغي الاعتصام بأعظم قدر ممكن من الشفّافيّة والصدق والجرأة الموضوعيّة.

إذا صحَّ أنّ الشرعيّة الدستوريّة تريد الإصلاح الجذريّ، فإنّها تطلبه من داخل البنيان السياسيّ القائم، وقد نقّحته وأضافت عليه بعضًا من التعديل. أمّا الشرعيّة الشعبيّة، فهي تريد الإصلاح الجذريّ في أقصى مقتضياته، ولكنّها تطلبه من خارج البنيان السياسيّ القائم. أعني بالبنيان السياسيّ القائم النظامَ اللبنانيّ والقوانين والمجلس النيابيّ والحكومة. وقد يصل الطموحُ الشعبيّ الشرعيّ إلى المناداة بتغيير البنية الاجتماعيّة الطائفيّة من أجل اختبار النظام العَلمانيّ. تنشأ المواجهة إذًا بين الشرعيّتين من الاختلاف على طبيعة الإصلاح ومقداره وكيفيّاته وآجاله وإجراءاته. فالشرعيّة الشعبيّة تطلب الإصلاح الجذريّ من خارج البنيان المترهّل لأنّها فقدت الثقة به من جرّاء ما ارتُكِب من مفاسد أفضت بنا إلى حافّة الانهيار.

وعليه، تكمن المعضلة الأخطر في قضيّة المجازفة الثورويّة من خارج البنيان الدستوريّ القائم. أعني بذلك التحرّك في الخواء أو الفراغ الدستوريّ الذي ينتصب أمامنا في وجهين. فهو، من وجهٍ، يحرّر الشعب من السلطة السياسيّة الحاكمة؛ ولكنّه، من وجهٍ آخر، يضع الوطنَ في مهبّ المخاطر الكيانيّة الأفظع. ومن ثمّ، يجب على الشرعيّة الدستوريّة أن ترضى بشيء من الفراغ الإنقاذيّ المحيي. فتنكفئ عن السلطة التنفيذيّة انكفاءً حكيمًا حتّى تستطيع الشرعيّة الشعبيّة أن تشارك في إعادة تكوين البنيان. فلا ضرورة للخوف من الفراغ الدستوريّ المطلق لأنّ السلطة التشريعيّة يمكنها أن تواكب في خفر وضعة واتّعاظ العملَ الإصلاحيّ الصادق الذي تصبو إليه حكومة المستقلّين.

في فترة وجيزة لا بدّ من أن تتجلّى للجميع مفاعيلُ الثورة الإصلاحيّة في السلطة التنفيذيّة المنبثقة من الشرعيّة الشعبيّة. حينئذ يمكن الشروع في إحداث فراغ دستوريّ على مستوى السلطة التشريعيّة. فيُصار إلى انتخابات نيابيّة جديدة تنتظم بمقتضى ذهنيّة انتخابيّة حرّة، وقانون انتخابيّ عصريّ، ومسلكيّة انتخابيّة راقية. في إثر ذلك كلّه، تعكف السلطة التشريعيّة الجديدة على إعداد النفوس لنظام لبنانيّ علمانيّ هَنيّ يعيد إنشاء البنيان برمّته،ويعيد تكوين البنية الاجتماعيّة اللبنانيّة بحسب ما تقتضيه أحكامُ شرعة حقوق الإنسان الكونيّة وأحكام المواثيق المنبثقة منها.

لا يجوز أن تظلّ السلطة على عنادها في ادّعاء الإمساك بالشرعيّة الدستوريّة الوحيدة المطلقة. فالشعب هو مصدر جميع الشرعيّات. ولكنّه لا يستطيع أن يحكم إلّا بالانتخاب والتفويض والمحاسبة. مشكلته الوحيدة أنّه في الاقتراع الأخير لم يُتقن هذه العمليّات الدِّموقراطيّة الخطيرة الثلاث. فانتخب انتخابًا ماليًّا، منفعيًّا، غريزيًّا، مذهبيًّا، أيديولوجيًّا. وفوّض على غير تبصّر ورويّة. وحاسب محاسبةً خاطئة، فصبَّ غضبه على خصوم زعمائه عوضًا من أن يستدعي أوّلًا إلى المحاكمة الفاسدين والمرتكبين في عشيرته وطائفته وحزبه. إنّها محاسبة الآخرين المضلِّلة وتبرئة الذات الخدّاعة. أمّا المطلوب، فهو أن يحاسب كلُّ لبنانيّ نفسَه أوّلًا، ومن ثمّ الآخرين.

بين الفراغ الدستوريّ الشامل والمعاندة الحكوميّة المتأجّجة، يمكن استخراج الحلّ الوسطيّ الذي يصالح الشرعيّتَين الدستوريّة والشعبيّة. بعضٌ من المجازفة في سلطة تنفيذيّة مطلقةِ الاستقلال والحرّيّة، وبعضٌ من المحافظة في صون السلطة التشريعيّة، وقد أكبَّت تُعيد النظر في مقامها ودعوتها ووظيفتها وأدائها قبل أن يحلّ زمنُ التجديد الشامل في البنيان اللبنانيّ وفي هيئة الاجتماع اللبنانيّ.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *