أديب حدّاد…أبو ملحم العابِرُ لِعِلمَي الاجتماعِ والسّلوك

Views: 357

الدكتور جورج شبلي

( في ذكرى مولدِه )

ألواقِعيّةُ في المَفهومِ الأدبيّ هي حركةٌ واعِيةٌ تُحاولُ نَقلَ مَشهَديّةَ المجتمع، بِلا استِغراقٍ في المِثاليّةِ أو تَوَغُّلٍ في الخَيال. وتتقاطعُ الواقِعيّةُ مع النَّمَطِ الانطِباعيّ، بالرّغمِ من التَّمايُزِ الدَّقيقِ بينهما، فالأديبُ يُحِسُّ أوَّلاً ثمّ يَنقلُ بالتَّعبيرِ ما انطَبَعَ في إحساسِه، وكأنّه يقولُ : أنا أحسُّ إذاً أنا موجود. 

أديب حدّاد، أو أبو ملحم، وهو عنوانٌ لمرحلةٍ ولِجيل، طَعَنَ العِدائيّةَ بين الواقعيّةِ والانطباعيّةِ فَتَصالحا في شخصِه. ألمجتمعُ، أو المادّةُ الخامُ عندَه، وهو الظَّريفُ الطَّبع، خَبيئٌ في فِكرِه الذي لا يَنطوي على زَيَغ، يُقارِبُه بِرَصانة، وإنْ تَمَرَّدَت على

لِسانِه كلمةٌ لَذّاعَةٌ فَلِتَفتَحَ خَزائنَ الحقيقة، فأبو ملحم لا يرمي إلاّ صائِباً. 

هو يدعو الوصفَ، والوصفُ يُجيبُه، لا يُسَفِّهُ أو يَهجو لكنَّ ما يقولُه أَوجَعُ هَجْواً، وإنْ كان أَلطَفَ صُنعاً وأَرقَّ نَسجاً. لم يكن غريباً عن مُعضِلاتِ المجتمعِ المُعْوَزِ الى الخير، وقد قَبَّحَتْ وَجهَه الشُّرور، وساقَته الى المَقدورِ قَهراً، فالخُبثُ دينُه، والخِزيُ مَيزانُه، والظُّلمُ مَرقَتُه المُستَطابَة، هذا المجتمعُ الذي افتَرَشَتْه شيطانةٌ ووزَّعَت فيه عَقَبَها حَبْلَ أَبالِسَةٍ مَرَّغوا بالشَّللِ مَفاصِلَه، فلا تَنفَعُ معها شَفَقَةُ عَكَّاز. 

حَلَقاتُ “أبو ملحم” مَقاماتٌ في زَمَنٍ مُرّ، آمَنَ عليها بُعْدَين: يَحرصُ أوّلُهما على نَسخِ الواقِعَة، ويتضمّنُ الثاني حِكمةً في العِلاج، فكأنَّ المجتمعَ معه جائعٌ، ضالَّتُه رَغيف. هذه المَقاماتُ، لو نُطيلُ بها الطَّوافَ، لَنَضَحَتْ منها أَماراتُ الرَوِيَّةِ والعقلِ، هذه التي لم يُكْشَفْ من مَحاسنِها سوى القليل، فقَرارُها المَسكونُ بالفوائدِ لن يَهتِكَ سرَّه الهُواة. 

أبو ملحم لم يكنْ راوِيَةً يُتقِنُ تَصريفَ الأفعالِ لِيَفتُنَ العيون، فما استعرضَه، وإن استوقفَ النَّظر، مَتَّع العقلَ والقلب. لقد حَمَلَته حَواسُه الى سُفرَةِ النّاس، وما اندَلَقَ عليها من أطباقِ البُغض، فاستَقصى، وبجرأةٍ، تَجَذُّرَها في هياكلِ النّفوس، وبانَت في دوائِها تكاليفُ شائِقة، ليس أقَلَّها قِصَرُ حبلِ الرَّجاء.

 تحَسَّسَ أديب حدّاد الشَّكوى من واقعٍ عَجِفٍ، تِشرينُه تمّوز، أَظهَرُ دلائلِه أَهلٌ خلعوا ملابسَ التَّخَلُّقِ لتبدوَ الذِّئابُ أكثرَ رحمةً، فآثَرَ المواجَهةَ ولم يَخْزِنْ لسانَه، ولم يتَحَفَّظْ على العُيوب، مُقتَنِعاً بأنّ المُبادرةَ واجِبةٌ قبلَ الغّصَّة. لقد مارسَ رياضةَ التَّأمُّل، فعايَنَ أُناساً أَنْساهُم بَلاءُ الدّنيا بَلاءَ الآخِرة، فلا يهتَزّون ولو وَقَعَ اليتيمُ بينَ أنيابِ الأُسود، وعايَشَ تَمَوُّجاتٍ لم يُهمِل تداعِياتِها، بل استطابَ نهجَ النِّزاعِ معها، عارِكاً أسبابَها بشكلٍ مَسرَحيٍّ قَصَصيّ. لكنّه لم يُصَبْ كبعضِ الرِوائيّين – أمثال تشارلز ديكنز – بِخيبةِ أملٍ من الطبيعةِ البشريّةِ وعَلائِقِ النّاس، فاليأسُ لم يتسرَّبْ الى برنامجِه، بالرَّغمِ من الآفاتِ المَريرةِ التي يَغصُّ بها، هذه الآفاتُ التي لم تُخلَقْ عَفواً بِقَدرِ ما نشأَتْ، وتطوَّرَتْ على مدى الأيّامِ، وَتَخاوَتْ مع جُبلَةِ البَشَر.

لقد اطمأَنَّ عَصرُ “أبو ملحم” الى فَنِّه في مُقاربةِ قضايا المجتمعِ الإنسانيّ، بالرّغمِ مِمَّن وصَّفَهُ أفلاطونيّاً، مُحاكاتُه ضَربٌ من العَبَثِ لِبُعدِها عن الحقيقة. فهو أَكَّدَ على أنّ واقِعيّةَ هذا الفنِّ ينبغي أن تكونَ انعِكاساً أميناً للحياةِ، لا تَحريفاً لها، وقد ظهرَت هذه الخصائصُ واضِحةً قويّةً على قَلَمِه، بعد أن كانت تُلْمَحُ عندَ الذين سَبقوه، وعاصَروه، مِمَّن أَدمَنوا التَّوشِيَةَ في الكتابةِ ليستديروا حولَ المَوقِف. أبو ملحم لم يَدَّعِ التَّفَرُّدَ بإصلاحِ الفاسِدِ، وإرجاعِ الشّاردِ، وتَمتينِ إيمانِ العابِد، بل حَمَّلَ تَضاعيفَ

حلقاتِه رَصداً دَقيقاً، وظَرفاً راقِياً، وحَبكَةً لَطيفةً، وتَسَلسُلاً قَصَصِيّاً لامُصْطَنَعاً، حَمَلَت كلُّها، وبدونِ وَعظٍ مُنَفِّرٍ أو مُجامَلَة، دَرساً حِكَمِيّاً عابِراً لعِلْمَي الاجتماعِ والسّلوك. 

أبو ملحم لا يُمَثِّلُ صُوَراً لأَشباهِ الحقائق، إنّه صانِعُ الصّورةِ، بِبَساطةٍ، بعيداً عن التّعقيدِ الدِّعائيّ، هَمُّه أن يوصِلَ الى جمهورِه عِبرةً لا أن يُفْصِحَ عن مَقدِرتِه وثقافتِه، وهو الذي لم تَخْبُ معه جَذوَةُ المُبتَكَر. نِتاجُه مِرآةٌ مُستَوِيَةٌ تَعكِسُ مَقاصدَه، وليسَ نِظامَ رموزٍ ودلالاتٍ وأداةَ تعبيرٍ طَبَقيّة، إنّه صِياغةٌ لتجرُبةٍ إنسانيّةٍ عميقةٍ تَعودُ بنا الى ذلك الزَّمانِ المَجهولِ الذي بَدَأ فيه النّاسُ يُعَبِّرون عن أفكارِهم، وعن ارتِباطِهم الجَماعيّ، وكأنَّ ” أديب” قَرَأَ حُكماءَ اليونانِ الذين كانوا أوائلَ مَن أشاروا الى هذه العلائقِ في خُطاباتِهم الفلسفيّة. وكالفلسفةِ التي لم يحتَجِزْها زَمنٌ أو مَطرَح، لم يكنْ أدبُ “أديب” سِمَةً لعصرِه فقط، بل تَمَدَّدَ فوقَ جَسَدِ الأيامِ ليُصبِحَ، وبِلا مُنازِع، سِمَةَ اليومِ الحاضِرِ، ورُبّما المُستقبَل.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *