الإستقلال عن الإستقلال

Views: 18

 الوزير السابق جوزف الهاشم

  الزحْفُ اللبناني الساخن من كلِّ لبنان الى ساحاته الثائرات ، لم يكن يطالب إلاّ بالإستقلال عن هذا الإستقلال واستعادة الوطن الذي استقـلّ عن الشعب .

  لبنان الذي قيل إنـه مستقلّ هذه هي صورتُـه : مضعضَعُ القوى ، منتـهَكُ السيادة ، مستباحُ الأرض ، حدوده معابر ، ترابه مطامر ، حكَّامه قبائل ، أبناؤه جحافل ، شوارعهُ مزابل ، مـاؤُه وَبـاءٌ ، هواؤه اختناق : إنهيارٌ ، دمـارٌ ، إحتكار ، جـوعٌ وفقـرٌ وهجرةٌ وذلّ ، غـلاءٌ متوحش ، بطالةٌ فاحشة ، سمسرات رشـوة ، سرقات ، فسادُ ضميرٍ وأخلاق ، حيتان المال التهموه ولم يشبعوا ، لم يشعروا بسوء الهضم ، وكلّما التهموا جاعوا .

  المستعمر الخارجي كان بلبنان أرحم ، فقد بَـغى ، ولكنه بنى … بنى السرايات والطرقات والجسور والإدارات ، والمستعمر الداخلي بَـغى … وخـرّب ودمّـر وهـدَّم .

  الفرنسيون علَّموا الشعوب التي حكموها مبادىء الثورة ، فتعلموا منهم أيضاً كيف ينقلبون بالثورة عليهم ، وكيف يستطيعون بالثورة أن ينقلبوا على الحكام الفاسدين .

  الإستقلال الذي تغسل طريقه الدماء كما يقول غاندي : حصلنا عليه بالعطش وسكبنا الدماء في حروب بعضنا على بعضنا فيه ، وحروبنا فيه عليه .

  مؤرّخو الجنرال ديغول ينسبون إليه فكرة إرجاع الملكية الى فرنسا – كما فعل فرانكو في إسبانيا – بعدما رأى الجمهورّيين الفرنسيين يعيثون فساداً بمبادىء الثورة ، ولعلّها الفكرة التي راودَتْ الشيخ بيار الجميل ، كيف قاد مظاهرات الكتائب والنجّادة للتحرر من الإنتداب الفرنسي ، لو لم يكن وطيد الثقة بالرهان على هذا الشعب مهما طالت عليه شراسة الطغيان .

  نعم … نحن اليوم في عالمٍ آخر .. التاريخ تغيّر ، الإنسان تغيّر ، التغيير أيضاً تغيّر … نحن في خضمّ ثورةٍ كلُّ ملامحها تبشّر بتحقيق مطامحها.

  كهولٌ وشيوخٌ جددوا شبابهم لتأمين مستقبل الأحفاد … الشباب والطلاب انتزعوا المشعل المكبوت فلألأوه … رفضوا أن يكونوا وقوداً في مجتمع مهتريء ، تمـرّدوا ثائرين على الدولة التي تقمع المستقبل وتغتـال الحياة .

  حشودٌ نسائية مؤلّفة تنصهر في شخصية وطنية واحدة ، ترفع الشموع في الشوارع وترفع الصوت نشيداً في الهيكل الوطني المقدّس .

  مدينة طرابلس الفيحاء شمخَتْ رمـزاً للوحدة الوطنية ، زفّت نفسها عروساً للثورة ، وفستان العرس علَم .

مأتـم الشهيد علاء أبو فخر تحوّل إلى صلاة وطنية جامعة في خلوات التوحيد ومآذن المساجد ومذابح الكنائس ، وشعار المأتـم كان : “يا دمـي وحِّـد الشعب اللبناني” .

 هذا هو لبنان الجديد يولَد من رحِـم الأحزان راسخَ التكوين والكيان .

وهذا هو الإستقلال الحقيقي غير المسبوق ، وغير المزيّف ينبثق من رمَـق  الأرواح حياة تصارع النهايات فوق ما يبطّـن الداخل والخارج من انتدابات .

  وهذا هو لبنان التاريخي عندما يثور متمرّداً يستطيع أن يسرق الدمَع من عين السبع .

  في منعطفات التاريخ ، أنّ الإستقلال الذي ترويه الدماء طالما تعرَّض لخطر الزوال .

  والإستقلال الذي ترويه الأرواح تمـرّد على خطر الزوال … وطال .

***

(*) جريدة الجمهورية 22/ 11/ 2019

 

 

(https://uk.godaddy.com/)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *