الصورة ليست وردية

Views: 955

د. إسماعيل بهاء الدين سليمان

(كاتب وباحث – القاهرة)

2/ 12/ 2019

أشعر اليوم، وكلي أسف لذلك، أنني أقلّ تفاؤلًا بما يجري في شوارع لبنان وساحاته، وآمل أن لا أنكأ مزيدًا من الجراح إذ أضيف:إنني أكثر تشاؤمًا وأقلّ حماسًا.

ربما يبدو كلامي متناقضًا مع فورة حماس كتابات سابقةلي في هذا الموضوع، لكن عذري أن مياهًا كثيرة قد جرت في شوارع لبنان وساحاته منذ غادرتُ بيروت قبل أسبوعين، فغيَّرَتْ تلك المياه الكثير من الرؤى، إذ أضْفَتْ تلك التغيُّرات على بعض الظواهر غموضًا لم يكن جزءًا من مكوّناتها، وأزاحت عن ظواهر أخرى غموضًا ضبابيًا كان يغلِّفها. وإذا كان المرء لا ينزل النهر الواحد مرتين، والنهر في النهاية أسيرٌ في مجراه، فكيف بأنهارٍ كثيرة، تتقاطع أحيانًا، وتتوازى أحيانًا، تجري في بعضها مياهٌ عذبة، وتفوح من رائحة البعضالآخررائحة مياهٍعطنة، مياهٍ فقدت صلاحيتها منذ عقود طويلة.

لقد رصدتُ عددًا من الظواهر التي لا يمكن المرور عليها مرور الكرام، ففي مثل تلك الظروف، يكون المرور العابر على حدثٍ فارق، مرور لئامٍ، لا مرور كرام.

أولًا: إن توقيت استقالة سعد الحريري التي حاول هو وحلفاؤه، بالتلميح تارةً وبالتصريح تارةً أخرى، إلْباسَها ثوب الاستجابة لمَطالب الشارع، لا يمكن أن يكون منطقيًا عفويًا.وفي الوقت نفسه، لا نستطيع أن نهوِّن من شأنها، فننظر إليها باعتبارها محاولة فردية من الحريري، لردِّ الصفعة لحلفاء اليوم، الذين أسقطوه بالأمس وهو يهمُّ بدخول البيت الأبيض. كما لا يمكن قبول فكرة أنها مسرحية،يعود بعدها إلى السراياعلى حصان أبيض، أو على موجة تصطبغ بألوان العلم اللبناني. إن استقالة الحريري، التي رفضها أقوياء لبنان، حزب الله والتيار الوطني الحر وحركة أمل، بينما قبِلَها ورحَّب بها الاشتراكي والقوات، لا يمكن أن تكون قد تمَّت دون أمرٍ، أو توجيهٍ، أو إيحاء، أو على الأقل موافقة، من أطرافٍ يرى الحريري أنها، في هذا التوقيت بالذات، أقوى من شركائه الثلاثة، عون ونصر الله وبري، وهنا لا أقصد بتلك الأطراف جنبلاط، ولا جعجع.

ثانيًا: إن تباطؤ الرئاسة الأولى في إطلاق الاستشارات النيابية الملزمة، لا يمكن أن يكون اقتداءً بسُنّة لبنانية أصيلة، كما لا يمكن أن يكون عملًا إراديًا تعطيليًا، وأن يكون دافعُه الوحيد انتظار معجزة تحسم صراع الفِيَلة، بين جبران باسيل وسعد الحريري، رغم أن الصراع،في جانبٍ كبير منه، صراع أساسيَّات وليس مجرّد صراع شخصيّ، حتى وإنْ بدا كذلك، في ظل الدعم الذي يتلقاه باسيل من عمِّه، والدعم الذي يتلقاه الحريري من المنتفعين به ومنه.

ثالثًا: إن صمود شارع ثائر، أو منتفض، أو متحرك، في أيِّ مكان في العالم، لا يمكن أن يقابَل بالصمود من نظام لا يقوى على الصمود في ظل ظروف عادية، أو نصف عادية، إلا إذا كان هذا النظام مدفوعًا إلى الصمود السلبي الصامت، مُجبرًا على عدم الردّ على المطالب سواءبالقبول أوالرفض. بعبارة أخرى موقف النظام مما يحدث في الشارع، وعدم اتخاذ إجراءات تنفيسية لما يشهده من احتقان، موقف يبدو مفروضًا،من أجل مزيدمن التسخين، ربما لتسهيل عمليةالطرق على النظام،والبلد كله،لتسهيل إعادة تشكيلهما فيمابعد.

 

رابعًا: إن الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان حاليًا، والذي تصر الحكومة على إخفاء، وأحيانًا تزييف أبعاده، لا يمكن أن يكون نتيجة للحراك/الانتفاضة/الثورة، فنحن لا نتحدث عن بلد صناعي، أغلق العمال مصانعه، وتفرّغوا للسياسة. كما أن هذا الانهيار، وأكرر المصطلح رغم قسوته، لا يمكن أن يكون نتيجة لفساد ثلاثين عامًا فقط. صحيح أن الفساد قد استشرى خلال الأعوام الثلاثين الماضية على نطاقٍ واسع، وصحيح أن حكام لبنان قد أبدعوا صنوفًا وألوانًا من الفساد لا مثيل لها في أي بلد آخر في العالم، لكن الدودة في أصل الشجرة منذ أن وُلِد لبنان قيصريًا في العشرينيات من القرن الماضي. فلماذا الانهيار الآن؟ سؤال تعزز مشروعيتَه المعلوماتُ التي تقول إن دوائر اقتصادية غربية كثيرة، كانت قد تنبّأت بوقوع هذا الانهيار، وتحدثت عن إفلاس لبنان رسميًا، بل وحدّدت للانهيار والإفلاس موعدًا مُعْلنًا، هو أواخر كانون الأول/ديسمبر 2019. حدث ذلك قبل أن يخطر ببال إنسان، في لبنان على الأقل، أن مئات الألوف من اللبنانيات واللبنانيين سوف يخرجون إلى الشوارع، وأنهم سوف يصمدون فيها. وقد سبق أن ردّد فريد بلحاج، نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تلك المعلومات، وإنْ في صورة تحذيرات، خلال لقاءات عقدها مع مسؤولين لبنانيين أكثر من مرة، منذ شهر آذار/مارس الماضي. بل إن بلحاج لامَسَ حدود التهديد، عندما أبلغ هؤلاء المسؤولين بأن الخيارات أمام لبنان بدأت تضيق، وأنه لا بد من اتخاذ الخطوات التي تسمح في السير بالإصلاحات المطلوبة التي يحتاجها لبنان لتحسين مستوى اقتصاده الذي يكاد يقارب الخطوط  الحمر، بعد تراجُع الأرقام الاقتصادية في السنوات الأخيرة.

خامسًا: إن أسلوب تعامُل القيادة اللبنانية، مع قضية سعر الليرة اللبنانية، خاصة من خلال اجتماعات متباعدة في بعبدا، يقاطعها رئيسُ حكومة تصريف الأعمال، لا يمكن أن يكون الأسلوب العلمي، أوالسياسي،المناسب لإنقاذ العملة الوطنية التي فقدت ما يقرب من ثلث قيمتها أمام الدولار الأمريكي خلال ساعات، وهو معدلٌ لا أعتقد أننا قد شهدنا مثيلًا له، إلا عندما انهار الدينار العراقي، عقب استيلاء القوات الأمريكية على البلاد. أمَّا الظاهرة الأكثر خطورة من انهيار سعر الليرة، فهي قدرة بعض الأطراف على إعادة نوعٍ من التوازن إلى سعر الصرف بجرّة قلم، بل وربما بدون حاجة إلى جرَّة قلم. صحيحٌ أن هناك بعض التقارير التي تقول إن حزب الله قد دفع لموظفيه رواتبهم بالدولار، وأن هؤلاء الموظفين حوّلوا تلك الدولارات إلى ليرات،الأمرالذي أدى إلى توفر سيولة دولارية رفعت سعر الليرة، غير أن هذا التفسير لايبدو علميًا، لسببين،الأول أن مجموع رواتب موظفي الحزب لا يمكن أن يكون كبيرًا إلى هذا الحد، كما لا يمكن أن يكون هؤلاء الموظفون  جميعًا قد توجهوا إلى مكاتب الصِرافة في وقت واحد،لشراءليرات. نحن أمام ظاهرة غير طبيعية،أو بالأحرى، أمام مسلسل مُريب، يهدف إلى شراء الوقت، في انتظار أمرٍ ما.

سادسًا: إن الطريقة التي يتعامل بها ما يسمى بالمجتمع الدولي، وهي بالمناسبة تسمية أراها قبيحة بذيئة، مع ما يجري في لبنان، والهدوء الذي تتسم به تصرفات دول كثيرة، تجاه هذا الوضع، لا يمكن أن توضع في إطار الحرص على عدم التدخل في الشؤون اللبنانية، واحترام سيادة اللبنانيين وخياراتهم. فنحن نتحدث هنا عن دول وكيانات وهيئات، اعتادت أن تفزع لانفجار إطار سيارة في شارع من شوارع الجنوب، خوفًا على أمن إسرائيل، وحرصًا على ألا يصيب مشاعر أهلها المرهفة أذى. ورغمالزيارات التي بدأ مسؤولون غربيون من الدرجة الثالثة على السلّم الدبلوماسي في بلادهم يقومون بها إلى لبنان، من حقنا أن نتساءل: ما الذي، أو مَن الذي، أخرس تلك الأطراف حتى الآن، وأجبرها على أن تُظهر، لأول مرة، احترامًا لاستقلال لبنان وكرامته. أنا أتحدث هنا عن دول مثل الولايات المتحدة، وفرنسا، والسعودية، كما أنني، وبصراحة، لا أستطيع أن أسقط إيران من قائمة مَن يلوذ وبصمتٍ مُريب، فلإيران مصالح ربما تبدو اليوم مهدَّدة، سواء في ما يتعلق بها، أو من باب الوكالة عن سوريا.

أرجو ألا يفهم أحدٌ تساؤلاتي تلك فهمًا خاطئًا، فأنا لا أدعو تلك الدول إلى أن تتدخل في لبنان، ولا أتمنى أن تتدخل، لأنني واثق أن تدخُّلها لا يمكن أن يصبّ في صالح لبنان، بأيّ شكل من الأشكال. أنا أرصد فقط ظاهرة جديدة على الممارسات السياسية المعتادة تجاه دول المنطقة بشكل عام، وتجاه لبنان بوجه خاص. إن المنطق السياسي السَويّ يقول إن الدول التي ترى نفسها عظمى، أو كبرى، وتلك التي تدّعي ذلك كذِبًا، لا تُدخِل على سياساتها الثابتة تجاه منطقةٍ ما تغييرًا استراتيجيًا في الفكر وأسلوب التعامل، إلّا إذا كانت تسعى إلى إحداث تغيير استراتيجي على الأرض في تلك المنطقة، ولا تبتعد إلَّا إذا كانت تتوقع انفجارًا، وتريد تجنُّب شظايا لحظته الأولى.

لقد تعلّمتُ، وتعوّدتُ، ألا أفصل بين الجغرافيا والتاريخ، عند التعامل مع أي قضية سياسية، بل إنني أفضّل تقديم الجغرافيا على التاريخ، وأرى أن الجغرافيا، وهي أقدَمُ صور الماضي، هي أشد عناصر الحياة قدرةً على تحديد مَعالم المستقبل. ربما يرى البعض أن هذه العلاقة الجدلية بين الجغرافيا والتاريخ مبحثٌ نظريّ مكانُه الصحيح قاعات معاهد الفلسفة السياسية. لهؤلاء أقول، هذه العلاقة الجدليَّة، بالنسبة للبنان، قضية حياة أوموت، فنحن أمام دولة محكومة بجغرافيا فريدة من نوعها، وبعض عناصر تلك الجغرافيا كانت موجودة قبل ميلاد الدولة نفسها، وهنا أقصد الجوار السوري، والبعض الآخر اصطُنع بعد قيامها، بعد أن حوَّلَتْ بريطانيا، وكيلةً عن الغرب المُنافق، كيانًا جغرافيًا اسمه فلسطين، إلى كيانٍ سياسي مُعادٍ للعرب، اسمه إسرائيل. الأكثر من ذلك، أن لبنانيين كُثرًا يجهلون، أو يتجاهلون،أن لبنان، بوضعه الديمغرافي الحالي، هو نتاجُ خلافٍ جغرافي نشب بين البطريرك الحُويِّك، ومفاوضيه من ممثلي القوى الغربية، بعد أن استطاع البطريرك حسمَه لصالح ما رآه في صالح موارنة لبنان.

صفقة القرن

 

تعلَّمتُ أيضًا، ألّا أرفض ما يُعرف بنظرية المؤامرة، وألّا أتعالى عليها، رغم أن البعض يعتبر رفضَها علامة من علامات سعة الأفق، ويعتبر التعالي عليها ضربًا من ضروب الرقيّ  الفكري. إنني أرى في ذلك الرفض، وذاك التعالي، عكس ما يراه هؤلاء تمامًا، فالاعتماد على المؤامرات حقيقة واضحة وضوح الشمس، والمؤامرات كانت، ولا تزال، وستظل، وسيلة فعَّالة لتنفيذ ما لا يمكن تنفيذه بصراحة من أجندات سياسية، خاصة تلك الأجندات التي تُدْخِل صاحبَها في صدام حقيقي مع الجغرافيا والتاريخ معًا، أو مع واحدٍ من هذين العنصرين. وأحدَثُ تطبيقات هذه النظرية، هي ما يجري على الساحة الدوليَّة منذ فترة ليست قصيرة، تحت اسم “صفقة القرن”، أو صفعة القرن، كما يسميها أبو مازن، وهو في سخريته تلك كاذبٌ، يهدف إلى تهدئة الرأي العام الفلسطيني، ويسعى وراء بطولةٍ زائفة،رغم أن العالم يعرف أنه من أشدّ المتورّطين في هذه الصفقة، ومن أبرز العاملين على تنفيذها.

إن الغالبية العظمى من دول الغرب، حزمةِ الذيول الأمريكية، وإنْ ادّعى بعضُ قادتها بغير ذلك، ترى وتؤمن وتُقر وتعترف بأن “صفقة القرن” تمثل الفرصة الأخيرة والأمل الوحيد الذي يضمن لإسرائيل البقاء الآمن، والوسيلة الكفيلةبتحصينها من تغييرات ديمغرافية يمكن أن تقضي على عنصرية ذلك الكيان الصهيوني، ولا أقول على يهوديته، خلال عدة عقود. غير أن إتمام تلك الصفقة، التي تُعارضها أطرافٌ عربية قليلة، لكنها فاعلة ومؤثرة، يتطلب أولًا نفقاتٍ مادية باهظة وهي مسألة يمكن، بل أمكن تدبيرها، وثانيًا، تنازلاتٍ سياسيةً مؤلمة،وتلك عقدة جغرافية وتاريخية بالِغةُ التعقيد.

المال، كما أسلفتُ، لا مشكلة فيه، وقد تعهد الصديقان الودودان للكيان الصهيوني، ابن سلمان وابن زايد وعدد من التابعين، بتحمُّل التكلفة المادية الكاملة، التي تتطلبها أكبر عملية لشراء الذمم والأراضي والمواقف في تاريخ البشرية.

تبقى إذًا المشكلة الحقيقية، مشكلة الأرض، مشكلة التوطين، مشكلة الدمج، سمِّها ما شئت من الأسماء، فالنتيجة واحدة، والمقصود ثابت لا يتغيَّر بتغيُّر اسمه أو لقبه: القضاء على مصطلح “حق العودة”، كمدخل لا بديل له،للقضاء على حق العودة نفسه.

مشكلة الأرض تتطلب حسن نوايا يتجاوز مرحلة الهبل أو السفه، من قِبَل الأطراف الرئيسية الثلاثة، هي الأردن، وسوريا، ولبنان، بالإضافة إلى تسهيلات لوجستية وسياسية غير بسيطة يُنتظَر أن توفرها مصر، التي لا تملك مالًا تقدمه، ولا تضم فلسطينيين توطِّنهم.

الأردن، وإنْ أعلن مَليكُه في أكثر من مناسبة رفضَه لصفقة القرن، فهو في النهاية لن يحاربها، لأن الأردن، إذا ما طُبِّق حق العودة كما يحلم به الفلسطينيون، سوف يتحوَّل إلى مجموعة صغيرة من القبائل، تسكن صحراء مترامية الأطراف.فإقليم شرق الأردن،لم يتحوَّل إلى دولة،إلّابفضل فلسطينيّي ثمانيةوأربعين،وبسبب عدم التزام المملكة بمقررات جامعة الدول العربية في ما يتعلق بهؤلاء اللاجئين. كما أن موافقة الأردن على الصفقة، حتى لو أصرّ الملك عبد الله على الظهور في صورة المُكره على ارتكاب المُنكَر، سوف توفر له مليارات الدولارات نقدًا، وفقًا للثمن الذي سوف يتم الاتفاق عليه، مقابل كل فلسطيني يبقى في الأردن، أو بمعنى أكثر دقة، مقابل كل فلسطيني يصبح أردنيًا بشكل رسمي، ويتخلى تمامًا عن هويته، وأحلامه، وربما عن اسم عائلته.

النازحون السوريون في لبنان

 

سوريا، ورغم خطابات القومية الزاعقة، وشعارات الصمود والتصدي، لا أعتقد أن نظام الحكم فيها مُستعدّ لخوض معركة حقيقية من أجل إسقاط هذه الصفقة، بل ربما يصل تقدير أقطاب هذا النظام إلى أن الصدام مع حزب الله حول تلك الصفقة، وبعد كل ما قدَّمه الحزب لهذاالنظام، ربما يكون أخفّ ضررًا من الصدام مع العالم كله. فحزب الله الذي ساند النظام عسكريًا، لا يستطيع أن يسانده سياسيًا، ولا اقتصاديًا.

إن قبول الأسد، ولا أقول قبول سوريا، حيث لم تعد هناك دولة حقيقية اسمها سوريا، صفقةَ القرن، سوف يدِّر عليه مكاسب مادية حقيقية، أقصد سيولة نقدية.ورغم أن تلك المكاسب ربما تقلّ كثيرًا عمّا يمكن أن يجنيه الملك عبد الله، فمكاسب الأسد المادية غير المباشرة، يمكن أن تفوق قيمتُها المعنوية قيمتَها المادية، ونحن نتحدث هنا عن حلم إعادة إعمار ما بقي بين يديه من إمبراطوريةٍ خلَّفها له الأسد الأب.

غير أن المكسب الحقيقي لبشار من وراء الصفقة،بمفهومها الشامل، يتمثل في الوصول إلى حلٍ طائفي لمشكلة اللاجئين السوريين، حلٍ يجنِّبه عودتَهم بعد أن تفكّكت إمبراطوريته، وأصبح في حالة تثير شفقة أيٍّ من ملوك الطوائف في أيام الأندلس الأخيرة.

إن قبول الأسد “صفقة القرن”، سوف يضمن له البقاء، والإعمار، كما يضمن له تغيير ديمغرافية ما بقي تحت حكمه، خاصة عندما يشترط، وهو المفاوض الذي ورِث مهارة أبيه، دون أن يرِث حظه، حتمية الربطبين المسارين، أو المعسكرين، معسكرات اللاجئين الفلسطينيين، ومعسكرات اللاجئين السوريين.

وهنا، نصل إلى لبنان، ولاجئيه، فلسطينيين وسوريين…

إن القراءة المتأنية لما يجري في لبنان منذ ما قبل السابع عشر من تشرين الأول بفترة ليست قصيرة، والحرص على عدم إضاعة البوصلة، وعدم الترفُّع عن عرض المسألة على نظرية المؤامرة، لا بد وأن يقودنا إلى إيمان راسخ بأن كل ما يجري الآن، إنما يتعلق بصفقةالقرن،ويصبُّ في اتجاه تنفيذها، خاصة أن التضحية الكبرى، بل التضحية الحقيقية الوحيدة التي يتطلبها تنفيذ تلك الصفقة، بشقَّيها الفلسطيني والسوري، تقع على عاتق لبنان، أرضًا، وشعبًا، ومقاومةً، وحكومة.

إن التركيبة الطائفية للبنان، رغم كل مساوئها، تقف، حتى الآن، حائلًا عاليًا، وحائط صدٍّ منيع أمام هذا المشروع اللاأخلاقي.إن الأطراف الرئيسية الفاعلة للتركيبة الطائفية في لبنان، حتى أولئكا لمشكوك في ولائهم لأسباب تاريخية، يرون أن التوازن الطائفي، بالنسبة للبنان كلِّه، مسألة حياة أو موت، ومن ثمَّ، لا يستطيعون قبول الإخلال بهذا التوازن طواعيةً، حتى لو كان الثمن مليارات ابنَيْ زايد وسلمان، خاصة إذا كان الهدف الوحيد من تلك المليارات هو تضخيم ثروات بعض الزعماء. غير أن الأمر يمكن أن يختلف مائة وثمانين درجة، بل ربما يصبح مقبولًا ومطلوبًا، ولو من باب تجرُّع السمّ، إذا ما أصبحت تلك المليارات الوسيلةَ الوحيدة لضخّ دماء جديدة في عروق الاقتصاد اللبناني الرَيعي الجافة، والمصدرَ الوحيد لسداد الديون خارجية وداخلية، واستيراد كل ما يُستورد من الخارج، من الوقود إلى مساحيق التجميل، ودفع الرواتب، ورفع المخلّفات من الشوارع.

مخيمات الفلسطينيين في لبنان

 

إن ما يجري في لبنان الآن، يمكن أن يكون، على الأرجح، وعلى الأقل بالنسبة لي، محاولة حثيثة، متأنية، لتركيع الدولة اقتصاديًا، تمهيدًا لتركيعهاسياسيًا، حتى يجد لبنان نفسه مُجبرًا على الوفاء بالدور الذي رُسم له، في تنفيذ “صفقة القرن”. ومن سخرية القدر أن ذلك التحوُّل يمكن أن يتم تحت ضغطٍ لا يُطاق من الساحات والميادين.

أنا لا أشكك في مكوّنات الحراك/الثورة/الانتفاضة، من الصباياوالشباب والنساء والرجال وكبا رالسن، الذين يحملون أعباء التواجد في الشارع منذ السابع عشر من تشرين الأول، لكنني لا أستطيع أن أنَحّي العقل والمنطق جانبًا، كما أنني لا أستطيع أن أتعامل مع لبنان كجزيرة منعزلة عمّا حوله، ولا مع ما يجري فيه باعتباره حدثًا منفصلًا عن تاريخه يسعى أطرافه إلى وضع نهاية تلفزيونية سعيدة له. وهنا، أودّ أن أرصد عددًا محدودًا من الظواهر، ربما يرى البعض أنها غير محورية، وأرى فيها عكس ذلك، وربما يرى فيها البعض ظواهر إيجابية، وأرى فيها عكس ذلك.

الظاهرة الأولى، والأكثر انتشارًا منذ الأيام الأولى للحراك/الانتفاضة/الثورة، والتي تزداد انتشارًا يومًا بعد يوم، حتى أوشك الجميع على الإيمان بأنها الحل الناجح والحاسم والوحيد لمشاكل لبنان، هي المطالبة باستبعاد السياسيين كليًّا أو جزئيًّا، وتشكيل حكومة يغلب عليها الطابع التكنوقراطي. مطلبٌ يوشك أن يُجمِع عليه الأكاديمي الذي يُفترض أن يكون متخصصًا، والصحافي الذي يُفترض أن يكون مُتابعًا، وشباب وصبايا الجامعات وخريجوها، الذين يُفترض أن يكونواقراءً، ورجل الشارع العادي، الذي سمع الكلمة عشرات المرَّات على التلفزيون، ولا يزال عاجزًا عن نطقها بالشكل الصحيح، ناهيك عن فهم معنى المصطلح نفسه، ومعرفة كيفية تطبيقه، بعد أن أصبح المصطلحَ الأكثر شهرة في لبنان اليوم. فرغم براءة تلك الدعوة، ورغم منطقيّتها من الناحية الأكاديميَّة، لا أستطيع أن أتغافل عن تخيُّل ما يمكن أن تفعله حكومة من التكنوقراط، في بلد مثل لبنان، حيث لا تُمارَس سوى حرفة واحدة، هي السياسة، وحتى هذه الحرفة، لا تمارس إلا من منظور واحد، هو المنظور الطائفي. كيف يمكن أن يحكم التكنوقراطي بلدًا ليس فيه “تكنوحياة”، إن صحَّ الاشتقاق؟إن كثيرًا من التكنوقراط، وهنا أقصد تكنوقراط العالم الثالث بالذات، هم الحواريون المُخْلِصون للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، هم الرسل المَبشِّرون برسالتهما، هم رُهبانهما، وحَمَلة مَباخرهما، هم أدواتهما التنفيذية التي تقام لها الحفلات خارج بلادها، وتُنْشَد في مواهبها الأشعار، بغير لغات بلادها. فالتكنوقراطي، عندما يتولى قيادة دولةٍ غارقة في الديون من دول العالم الثالث، يتوجه إلى اللِصَّين المحترمَيْن، البنك والصندوق، اللذين لا يملكان سوى وصفة واحدة مُهلِكة، تتكوّن من ثلاثة بنود، يندر أن تجد رابعًا لها: الخصخصة، وفرض مزيد من الضرائب، وصرف ما يتراوح بين ثلث ونصف موظفي الدولة.بكلمات أخرى،إلغاءالبعدالاجتماعي للاقتصاد الوطني، مقابل حزمة قروض جديدة. وصفة كارثية، قضت على دول، وأسقطت أنظمة، لمجرّد أن “القَتَلة الاقتصاديين” كانوا قد صنّفوها، منذ اللحظة الأولى، دولًا مارقة، فأعدّوا العُدّة لإسقاطها من الداخل.

لقد اتَّهم نُشطاء يعملون في الحملة العالمية المتعلقة بالإعفاءمن الديون،المعروفة باسم “اليوبيل”، صندوقَ النقدالدولي بتشجيع ماوصفوه بـــ”الإقراض المُتهوِّر”،عبرتقديم قروض بقيمة 93 مليار دولار إلى 18 دولة تعاني من مشكلات مالية،دون طرح برنامج لإعادةهيكلة ديون تلك الدول. وحمْلة”اليوبيل”،يقودها ائتلاف من منظمات وطنيةومجموعات محليةمنتشرة في معظم أنحاءالمملكةالمتحدة،بالدعوة إلى إلغاء الديون غير العادلة وغير المستحقة للبلدان الأشد فقرًا، لاسيما ديون الدول النامية.

وفي السياق نفسه يقول الخبير الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد السابق بجامعة عمّان أحمد عبدالجواد، وهو موظف سابق لدى صندوق النقد الدولي: “إن الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي على الدول، الراغبة في الحصول على تمويل أو قروض، تتسبب في الغالب في إضافة مزيد من الفقر لمواطني هذه الدول، بسبب الالتزامات الكبيرة التي تُلقى على عاتق الحكومات، وهي التزامات مقيِّدة يفرضها الصندوق. هي شروطٌ تؤدي إلى زيادة نسبة البطالة في الغالب، وتضر بأسواق العمل، وتتسبب في تقلُّص الإمكانيات الصحية، من خلال الإصرار على عدم دمجالدعم والقروض فيالميزانيات الأساسية للدول، كما أنها تفرض، وتصر على، مشروعات بعضها مفيد للصندوق ويضمن حقه ولكنه غير مفيد للدولة ويهدر طاقاتها وجزء من إمكاناتها”.

 

ويرى خبراء كثيرون، لبعضهم تاريخٌ طويل من العمل في دهاليز البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أنه ما من دولة حصلت على قرض من صندوق النقد الدولي وتمكنت من إعادة اقتصادها إلى الحالة التي كان عليها، حيث تعجز تلك الدول في معظم الحالات عن تحقيق نهضة اقتصادية أو تنموية، فالقرض يدمر الاقتصاد الوطني لأي دولة، ويتسبب بشكل مباشر في تآكل الطبقة الوسطى، ويلقي بها في أحضان الفقر، وبالتالي يتحولون إلى فقراء، وفي الوقت نفسهتنقسم طبقة الأغنياء، بعضها يهبط والبعض الآخر تتضخم ثرواته بشكل كبير.

وهنا يمكن أن نشير إلى القروض التي منحها الصندوق إلى كل من مصر والعراق في منتصف تسعينيات القرن الماضي، حينما فرض “روشِتّة” للإصلاح الاقتصادي تتضمن خصخصة القطاع العام، وكانت النتيجةُ،إضافةً إلى استشراءالفساد، تزايد البطالة والفقر، بعد أن فقدت أعدادٌ كبيرة من مواطني الدولتين،وظائفها.

هذا الصندوق، الذي تتحكم فيه الولايات المتحدة، نظرًا لامتلاكها الحصة الأكبر من رأس ماله، وتقدر بنحو 17.6%، كان لعنة على دول أخرى، من أبرزها اليونان والبرازيل وغانا وزامبيا وتركيا.

فالبرازيل،على سبيل المثال، اقترضت من الصندوق في بداية الثمانينيَّات من القرن الماضي، ونفذت شروطه كاملة، أملًا في حل أزمتها الاقتصادية، غير أن تلك الشروط أدَّت إلى تسريح ملايين العمال، وخفض أجور باقي العاملين، وإلغاء الدعم المخصص للتعليم، وانتهى الأمر إلى تدخُّل دول أخرى في السياسات الداخلية للبرازيل، بل إن البنك الدولي فرض على الدولة إجراء تعديلات دستورية، تسببت في اشتعال الأوضاع السياسية الداخلية.

وقد تكررت الأزمة نفسها مع اليونان، التي سقطت في فخ الاقتراض والمقرضين فور انضمامها إلى منطقة اليورو، بحجة دفع عجلة التنمية. وكانت معدلات الفائدة على تلك القروض في البداية منخفضة، غير أن الوصفة لم تنجح، حيث واصلت نسبة الدين للناتج المحلي الإجمالي الارتفاع حتى وصلت الأزمة إلى ذروتها عام 2015، مع وصول ديون اليونان إلى أكثر من 175% من الناتج المحلي، وارتفاع معدلات بطالة لأكثر من 25%، الأمر الذي تسبب في اضطرابات سياسية كبيرة، انتهت بإعلان أن اليونان عجزت عن سداد ديونها للصندوق.

هذه التجارب السالفة المريرة ،جرت في دول تختلف أوضاعها الاقتصادية عن الأوضاع الاقتصادية في لبنان، حيث تمتلك تلك الدول، أو كانت تمتلك وقتها،الكثير مما لايمتلكه لبنان اليوم، ومايصعب أن يمتلكه في الغدالقريب، وفي ما يلي تفصيل ذلك:

  • في لبنان، تمارَسُ أبشع صور الاقتراض المتهوِّر، دون تشجيع، ولا تحفيز، من اللِصَّيْن الدوليَّيْن.
  • في لبنان، لا يوجد دعمٌ حقيقي يمكن رفعه، وإن وُجدت بعض صور الدعم، فهي ضئيلة إلى الحد الذي يَحول دون إحداث فارق اقتصادي حقيقي، لو رُفعت، حيث سيتوقف التأثير عند حدود زيادة الحياة صعوبةعلى البسطاء.
  • في لبنان، ودون توصية من اللِصَّيْن الدوليَّيْن، تُفرض الضرائب بمناسبة ودون مناسبة، دون جدوى.
  • في لبنان، تَحول دون صرف الموظفين محاذيرُ كثيرة، لأنه يحتاج إلى معادلات حسابية وهندسية بالغة التعقيد، حتى تكون أنصبةُ كل الطوائف من التسريح والإفقار، متساوية.

هذه الحقائق التي لا يمكن تجاهلها، أو القفز عليها، لا تترك لأية حكومة تكنوقراطية لبنانية سوى خيار واحد، من الخيارات المحبَّبةإلى اللِصَّيْن، وهنا أقصد الخصخصة. والخصخصة، في أبسط صورها، هي عملية يتم من خلالها تسييل الأصول السيادية الإنتاجية، التي تملكها الدولة، عن طريق بيعها إلى المستثمرين، مواطنين وأجانب، أفرادًا ومؤسسات، بهدف إعادة توجيه حاصل ذلك البيع إلى مجالات أخرى.غير أن تلك المجالات سوف تُقتَصرفي الحالة اللبنانية، على مجالٍ واحد فقط، هو سداد الديون، خارجية وداخلية.

 

السؤال المهم هنا هو: هل يملك لبنان أصولًا سيادية إنتاجية يمكن تسييلها من خلال البيع؟

الإجابة هي: لا.

لبنان لا يملك أصولًا سيادية إنتاجية يمكن تسييلها من خلال البيع، فالدولة لا تمتلك مصانع، ولا مناجم، ولا تمتلك حتى الآن حقول نفط حقيقية، كما لا تملك حتى كثيرًا من المقرَّات التي تشغلها وزارات وإدارات حكومية.

سؤال آخر، لا يقل أهمية عن السؤال الأول:هل يملك لبنان أصولًا سيادية، غير إنتاجية بالمعنى التقليدي، يمكن تسييلها من خلال البيع؟

الإجابة هذه المرَة: نعم، لبنان يملك ما يمكن بيعه.

لبنان يملك منافذه الدولية، يملك، على وجه الخصوص، المطار والمرفأ، وهما هدفان كبيران لمَن يحلمون بالاستيلاء على هذين المرفقين، من خلال الخصخصة، من أجل الاستحواذ على مفاتيح الدخول إلى لبنان والخروج منه، لأسباب لا تمت للاقتصاد بأية صلة. بعبارة أكثر وضوحًا، لأسباب تتعلق بإحكام الحصار على حزب الله، ومنع وصول السلاح إليه.

إن المطارو المرفأ أولًا،والغاز الذي لا يزال افتراضيًا ثانيًا، هي الأهداف الحقيقة لمَن زرعوا شعار الخصخصة في ميادين لبنان وساحاته، فتلقَّف دعوتَهم مئاتُ الألوف من المواطنين ذوي النوايا الطيبة، وعشراتٌ من السياسيين ذوي الأجندات الخبيثة.فهل اللبنانيون مستعدون للتخلّي عن كل ما يملكونه ملكيةً عامَّة من أصول استراتيجية، وتحمُّل عقبات ذلك التخلّي، سياسيًا، واقتصاديًا، وأمنيًا؟ وهل اللبنانيون مستعدون لقبول فكرة خنق حزب الله، بل والمساهمة في تنفيذها، من أجل أن ينضم بلدهم إلى نادي التكنوقراط؟

الظاهرة الثانية، تتمثل في تزايد أعداد مَن يتصدّون للمُطالبين بسرعة إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وارتفاع أصواتهم في وجه المعارضين لاستمرار هؤلاء اللاجئين، وتغليف ذلك الموقف بشعارات إنسانية أحيانًا، وبشعارات ماركسية عفا عليها الزمن أحيانًا. هذه مسألة، أرى، أنه لا يصح أن نعبرها بصمتٍ، ناهيك عن الاستحسان أو المشاركة. فعندما يرفع ناشط لبناني شعار وحدة الطبقة العاملة في العالم كله، في وجه سائق تاكسي لبناني، يشكو من أنه فقَدَ عمله بسبب سائقٍ سوري يُفترض أنه لاجئ، لابد وأن نشعر أننا أمام منطقٍ مشبوه وإنْ بدا إنسانيًا، وأننا أمام مغالطة سياسية لا يمكن إلَّا أن تكون مقصودة ومحسوبة بدقة.

الظاهرة الثالثة، تتمثل في تزايد أعداد اللبنانيات المتزوجات من غير لبنانيين، المطالِبات بتجنيس أبنائهن وبناتهن، وتصاعُد تأييد هذه المَطالب من قِبَل كثير من الجماعات الحقوقية، خاصة النسائية منها، تحت شعارات برَّاقة مثل “جنسيتي كرامتي”. هذه مسألة أخرى، لا يمكن أن تكون قد وُلِدت وطُرِحت، ورُوِّج لها مُصادَفةً، ولا يمكن أن تكون مجرّد قضية إنسانية، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار قِدَمَها وتَجذُّرها، لا سيما وأن الغالبية العظمى من هؤلاء الأزواج هم فلسطينيون، وأن أبناءهم يشعرون فجأة بالإهانة لأنهم ليسوا لبنانيين، رغم أن أعمار كثيرين منهم قد تجاوزت الثلاثين عامًا. نحن، بوضوحٍ لا يحتمل خجلًا، أمام خطوة قصيرة، وخجولة، على طريقٍ طويل وشاقّ ينتهي إلى التوطين.

الظاهرة الرابعة، تتمثل في محاولات واضحة من أطرافٍ لم تتضح هويتُها بعد، لدفع الأوضاع في لبنان، وإنْ بحذر مؤقتًا، في اتجاه حرب شوارع. حرب تبدأ بصدام محدود بين شارع وشارع، يتحوّل، بإرادة المحرِّك المجهول، إلى صدام بين طائفة وطائفة، تمهيدًا لتحويله إلى صدام فوضوي، متعدِّد الأطراف، يُزجّ بالجيش في أتونه، في مرحلة من مراحله المتقدمة، إمَّا من خلال استخدام القوة بشكل مباشر، أو من خلال الاستيلاء على الحكم وتشكيل حكومة عسكرية، برعايةٍ وموافقةٍ دولية، تحت شعار حماية الوطن والمواطن.

 

إن صورة الأوضاع في لبنان، كما أراها اليوم، لا يمكن أن توصَف بأنها صورة ورديَّة، ولا يمكن أن تبعث على التفاؤل.

إن قطع الطرقات المتكرر، وغير المبرَّر، المتزامن وغير المتزامن، لا يمكن أن يوصَف بأنه صورة ورديَّة، أو حادثة فرديَّة.

إن هجمات مناصري حركة أمل وحزب الله على المتظاهرين والمتظاهرات عند تقاطُع الرينغ، لا يمكن أن توصف بأنها صورة ورديَّة، أو حادثة فرديَّة، خاصة عندما تجري تحت علمَيْ الحركة والحزب، وعندما تُنَفَّذ مصحوبةً بصرخاتٍ هستيرية يردد أصحابُها: شيعة، شيعة، شيعة.

إن تبادل الهجمات بين أنصار حركة أمل وحزب الله من ناحية، وأنصار تيار المستقبل من ناحية أخرى، لا يمكن إن يوصف بأنه صورة ورديَّة، أو حادثة فرديَّة، خاصة أنها تتم تحت العلمَيْن الحزبيَيْن، مصحوبة بصرخات طائفية، لا مبرِّر لها.

إن الصدامات المتكررة بين مناصري التيار الوطني الحر وبقية فصائل الحراك/ الانتفاضة/ الثورة ، أمام أو حول قصر بعبدا لا يمكن أن توصف بأنها صورة ورديَّة، أو حادثة فرديَّة.

إن إصرار مناصري التيار الوطني الحر على المرور بشوارع بِكْفيا، عرين حزب الكتائب اللبنانية، وهم يرفعون علم التيار لا العلم اللبناني، لا يمكن أن يوصف بأنه صورة ورديَّة، أو حادثة فرديَّة.

إن إصرار مناصري الكتائب اللبنانية على منع مناصري التيار الوطني الحر، اللبنانيين، من المرور في شوارع بِكْفيا، اللبنانية، لا يمكن أن يوصف بأنه صورة ورديَّة، أو حادثة فرديَّة.

إن الدور الغامض الذي يلعبه حزبا القوات اللبنانية والاشتراكي، في توافق غير معلن، يتنافى مع ما بينهما من تناقضات تاريخية معلَنة، لا يمكن أن يوصف بأنه صورة ورديَّة، أو حادثة فرديَّة.

إن اعتصام أسرة، والتهديد بقطع الطريق لأن مسؤولًا استولى منذ أكثر من ثلاثين عامًا، على قطعة أرض يملكونها، لا يمكن أن يوصف بأنه صورة ورديَّة، أو حادثة فرديَّة.

إن الصورة قاتمة، ودفن الرأس في الرمال لن يزيد إلا ظلامها، وعتمتها.

إن الطائفية التي تَصوَّرنا أنها سقطت تحت الأقدام في الساحات والميادين، تستعيد الآن توازُنها، وتستردّ عافيتها، وتلملم أطرافها، وإنْ على مهل، بعد أن بدأت في التخلُّص من صدمةِ مفاجأةِ السابع عشر من تشرين الأول، بل إن بعض فصائلها المتقدمة عادت تطل بوجهها القبيح، واستأنفت ممارساتها المدمرة في الأحياء البعيدة، والشوارع الجانبية، بعد أن قررت أن تترك الساحات والميادين لحَسَني النية، فترة من الوقت.

 

وأخيرًا…

أهلي وأصدقائي وأحبتي في لبنان…

لبنان مستهدفٌ منذ زمن بعيد، غير أن الفارق هذه المرة كبير جدًا، فالمستهدِفون من الخارج لم يعد لديهم مزيد من الصبر، والمنتظرون في الداخل أقل صبرًا، والطرفان يعتقدان أن الثمرة قد أينعت، وحان قطافُها.

إن الخطر الحقيقي على الثورة لا يتمثل في أعدائها في الخارج، ولا في أنصار هؤلاء الأعداء في الداخل. الخطر الحقيقي يتمثل في أمرين، لا يقلّ أحدُهما عن الآخر خطورة:

الأمر الأول، الخلط بين العداء للثورة والتحفظ تجاهها بسبب معطيات تغيب عادة عن عقول جميع البسطاء، وكثير من المثقفين.

الأمر الثاني، الإغراق في نشوة انتصار غير حقيقي، فالثورة التي تتحول إلى أغنية ورقصة في الميادين، ومهرجانات إعلانية تلفزيونية لتخفيضات تقدمها المطاعم وباعة مستحضرات التجميل، قبل أن تحقق هدفًا حقيقيًا من أهدافها على الأرض، لا بد وأن تصيبني بالرعب، أو الخوف، أو القلق، وهذا أضعف الإيمان.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *