سنة واحدة تكفي… هاشم غرايبة يروي سيرته الذاتية

Views: 905

سلمان زين الدين

لعلّ الإيجابية الوحيدة التي تتمخض عنها ظاهرة الاعتقال السياسي في العالم العربي هي تبلور حقل أدبي جديد يُسمّى «أدب السجون»، وهو ذو جذور في تاريخ الأدب العربي. غير أن تبلوره كحقل أدبي يرتبط، حسب بعض الدارسين، بظهور الدولة الوطنية في هذا العالم، وبناء السجون، وفتح أبوابها لأصحاب الرأي المخالف، ما يترتّب عليه تعبير هؤلاء عن تجاربهم المختلفة، وصدور عشرات الكتب، حتى يمكن الكلام عن مكتبة عربية صغيرة في هذا الحقل. على أنّ تمظهرات التعبير عن هذه التجارب، لم تقتصر على نوع أدبي معيّن، بل تعدّته إلى سائر الأنواع، بدءًا من السيرة الذاتية، مرورًا بالقصّة القصيرة والرواية واليوميّات والمذكّرات، وصولاً إلى الشعر. وإذا كانت تجارب السجن في العالم العربي تتشابه في أساليب التحقيق وتقنيات التعذيب وآليّات المقاومة، أي في النوع، فإنّها تختلف في الدرجة من دولة إلى أخرى. والتعبيرعنها يختلف من كاتب إلى آخر.

يعبّر الكاتب الأردني هاشم غرايبة عن تجربته في هذا المجال، من خلال كتابه «سنة واحدة تكفي» (نوفل)، وهي تجربة امتدّت طيلةّ عشر سنوات، في السجون الأردنية، بسبب انتمائه إلى الحزب الشيوعي الأردني. والكتاب الذي يحمل على غلافه مصطلح «سيرة ذاتية» كان قد صدر عام 2011 تحت عنوان «القطّ الذي علّمني الطيران» ومصطلح «رواية»، عن دار فضاءات الأردنية. فهل يصحّ تغيير العنوان والمصطلح ودار النشر ليصبح الكتاب جديدًا؟ ولماذا لم يصدر، في طبعة جديدة، بالعنوان نفسه والمصطلح ذاته حتى إن تغيَّر الناشر؟ وهل هو سيرة ذاتية أم رواية؟ إذا كانت الإجابة عن السؤالين الأوّل والثاني تتعلّق بالكاتب نفسه، فإنّ الإجابة عن السؤال الثالث تتعلّق بالقارئ إلى حدٍّ كبير، شاء الكاتب ذلك أم أبى. وعليه، نرى أن الكتاب أقرب إلى الرواية منه إلى السيرة الذاتية. ولا يكفي تغيير اسم الراوي من عماد إلى هاشم ليتطابق مع اسم الروائي ليتغيّر نوعه الأدبي. ودليلنا على ذلك أنّه لا يقوم بتوثيق سيرة كاتبه، ولا يتناول تاريخه الذاتي، بقدر ما يَنفتح على المتخيّل، ويُقدّم الحكاية بتقنيات روائية، توازن بين السرد والحوار، وتقطع هذين النمطين الكتابيين أنواعٌ أخرى، كالقصّة والحكاية والرسالة والخاطرة والشعر والأغنية والتقرير الإخباري والنص التاريخي والمقتبسات من كتب أخرى، ما يتعدّى تاريخيّة السيرة إلى روائية الرواية. وعلى هذا الأساس، سنتعاطى مع الكتاب باعتباره رواية فيها أشياء من سيرة صاحبه الروائية.

تطرح الرواية سؤال الاعتقال السياسي في العالم المرجعي، الذي تُحيل إليه، وتدور أحداثها في مدينة إربد الأردنية، في النصف الثاني من سبعينيّات القرن الماضي. وتتمحور حول شخصية الكاتب/ الراوي المحورية، والشخصيات الأخرى الثانوية التي تدور في فلكها، أو ترتبط بها، بشكل أو بآخر. ولعلّ، من المفارقات، الإشارة إلى أن سير الأحداث يتمخّض عن تظهير صفات الشخصية المحورية والشخصيات الأخرى الدائرة في فلكها، أكثر ممّا يُظهّر تجربة السجن ووطأتها الثقيلة على الشخصيات المختلفة، وكأنّ الكلام على هذه التجربة لم يكن مقصودًا كغاية، بحدّ ذاتها، بقدر ما كان وسيلة لإضاءة الشخصيات الرئيسية والثانوية.

 

في «سنة واحدة تكفي»، نتعرّف إلى أصناف التعذيب التي يتفتّق عنها ذهن السجّان العربي، تلك التي تتّفق في النوع، وتختلف في الدرجة بين بلد وآخر. فتطالعنا مصطلحات من قبيل: الفلقة، الفرّوج، الشبح، الدولاب، الضوء الساطع، التعرية، الصلب، وغيرها، ما يشكّل إضافة نوعية إلى معجم الحضارة. ولكلٍّ من هذه المصطلحات معناه الذي لا يدركه إلاّ «الراسخون في العلم»، من دهاقنة أنظمة الاستبداد. ونتعرّف، من جهة ثانية، إلى آليّات المقاومة التي يصطنعها السجناء السياسيون للبقاء على قيد الحياة، فيطالعنا: التنويم الذاتي للحواس، أحلام اليقظة، الحكايات، السخرية من السجّان، التكيّف مع المكان، الذكريات، الألقاب، التفاصيل المستعادة، القراءات السابقة، تضخيم الذات، التمثيل الكوميدي، وهم العفو، الحلم، التلفزيون والتحدّي وغيرها… ممّا تجترحه المخيّلة التي تعصى على الأسر، والذاكرة التي تعاند النسيان، والحنين الذي لا يخبو له أوار.

هذه الأصناف والآليّات تتمظهر في الرواية، من خلال حركة الشخصية المحورية، والشخصيات الأخرى الواقعة في حقلها المغناطيسي. والملاحظ أنّ لكلِّ سجين لقبه الذي يُعرف به، ففي السجن تحلُّ الألقاب محلّ الأسماء، فنقع على ألقاب من قبيل: الرفيق، القطّ، العصفور، أبي حديد، الختيار، الكرزم، بو زهرة، الكناري، وغيرها. ويتمّ تشبيه السجين بحيوان معيّن يشترك معه في صفة رئيسية. ولعلّ آليّتي التلقيب والتشبيه تعكسان حاجة السجين إلى السخرية والمزاح، من جهة، وتومئان إلى مفارقة عالم السجن للعالم الخارجي، ما يقتضي معها إطلاق أسماء جديدة على نزلائه، من جهة ثانية.

بالعودة إلى الشخصية الرئيسية في الكتاب، سواء أكان الراوي أم الروائي، هاشم أم عماد، نشير إلى أنّها أقرب إلى المثالية منها إلى الواقعية، وتتمظهر مثاليّتها في: المبدئية والعناد والقيادية والتواضع والشجاعة والتحدّي والإصرار على الموقف. وهو ما يتمّ التعبير عنه بالوقائع الآتية: يرفض الراوي توقيع عريضة تنكّره لانتمائه الحزبي مقابل العفو عنه. يرفض الامتثال لبروتوكول المحكمة. يقود تمرّد السجناء لإطالة فترة الاستراحة. يتفاعل مع بسطاء المساكين ويتعاطف معهم. يحترم ذاته في التعامل مع سجناء «النخبة». يغلّب المبدأ على المصلحة في التعاطي مع عرض الإفراج عنه. يتصدّى لمدير السجن الظالم ويدفع الثمن. وبذلك، يرسم غرايبة لذاته سيرة شبه نموذجية، هي أقرب إلى المثال منها إلى الواقع، ويُمارس دور البطولة في السجن، فيبرز هذا الجانب على حساب عذابات السجن ومعاناة الأسرى، ويحوّل الفضاء السجني إلى مكانٍ لتظهير إيجابيات الشخصية وقوّة احتمالها.

إلى ذلك، تتعالق مع الشخصية الرئيسية شخصيات أخرى ثانوية، لكلٍّ منها دورها في سياق الأحداث. فالقطّ لص ظريف يُفلسف الأمور، ويُشكّل مصدر بهجة لزملائه، ويُمثّل روحًا حرّة كطائر غرّيدٍ في قفص. وعسّاف نصّاب مراوغ، ينصب على مدير السجن، وهو ناعمٌ أملس كأفعى. وأبو حديد تُطارده المآسي منذ نعومة أظفاره، يموت والداه، ويطرده عمّه، ويقوده تشرّده إلى الاغتصاب، فالسجن. والختيار عاقل، هادئ، وصبور كجمل. والكرزم يتكيّف مع بيئته، يتربّص كثعلب، يضرب ويهرب. وبو زهرة ضعيف، مذعور، يخشى كلّ متحرّك كسحليّة. أمّا سجناء «النخبة» فكانت لهم امتيازاتهم وجناحهم الخاص داخل السجن. وهكذا، نرى أن الطبقية التي حاول الراوي التصدّي لها، خارج السجن، بانتسابه إلى الحزب الشيوعي الذي يؤمن بالصراع الطبقي، تستقبله في الداخل، ويكون له أن يتنعّم ببعض امتيازاتها.

يسند هاشم غرايبة مهمّة الروي، في سيرته الروائية، إلى راوٍ مشارك يستخدم صيغة المتكلّم، وهي تقنية تناسب السيرة الذاتية، غير أنّه قد يروي بصيغة الغائب، حتى في حالة التكلّم عن نفسه، فيجمع بين تقنيّتي الراوي المشارك والراوي العليم. على أنّ الروي يتوزّع على السرد والحوار بالتناوب مستخدمًا المستوى اللغوي المناسب لكلٍّ من هذين النمطين الكتابيّين، فتأتي لغة السرد رشيقة، حيّة، تجمع بين سلاسة التراكيب وطرافة بعض المفردات، ومحكيّة بعضها الثاني، وتقنية بعضها الثالث، ولا تسقط في المطبّات البلاغية ووحل الإنشاء. فترد في السرد مفردات مثل: الحوش، شبشب، ضرّيب، كعبل، عفش، نبّش، الشاويش، التنبل، الجينز، وسواها. وتأتي لغة الحوار محكية، مقتضبة، حارّة. وفي النمطين السردي والحواري، نقع على عدد كبير من الأمثال الشعبية التي تشي بطبيعة العالم المرجعي، وتوهم بواقعية النص، وتضفي عليه الحرارة والحياة. وتأتي الأنواع الكتابية الأخرى التي يُلقّح بها الكاتب روايته، ويَكسر بها نمطيّة السرد، ممّا سلفت الإشارة إليه، لتُغْني النص، في الشكل والمضمون، وترفده بالمتعة والفائدة.

وبعد، سواء أكان النوع سيرة ذاتية أم رواية، وسواءٌ أكان العنوان «سنة واحدة تكفي» أم «القطّ الذي علّمني الطيران»، وسواء أكان الاسم هاشم أم عماد، فإنّنا إزاء كتاب يستحق القراءة، ولعلّ الرسالة الأهم التي يحملها تكمن في جملته الأخيرة التي تقول: «إذا صمدت ولم تنكسر فأنت حر». وتعني أنّه قد تكون حرًّا وأنت داخل السجن، وقد تكون سجينًا وأنت خارجه. فالحرّية هي عدم الانكسار.

***

(*) القدس العربي

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *