أنطوان غصين… يدٌ ذهبية ومبضع إنساني

Views: 1095

جورج سكاف

(وزير سابق)

                     أطلّ على زحلة كإشراقة أمل وطموح للشباب الزحلي.

           مذ تخرّج طبيبا جديدا لامعاً، كان مُميَّزاً بالعلم والمهارة، وبالوسامة والبشاشة، وبالاندفاع في خدمة المرضى والأصحاء…  فصار الأكبر شهرةً ومقدرة والمتقدّم مركزاً وتقديراً بين أترابه في لبنان والخارج، وبقي وفيّاً مخلصاً ومحبّاً لزحلة والزحليين، بحضوره المتواصل، وكأنه الملازم لهم دوما عند كل حاجة… وهو القدوة والمثال لكل زحليّ وثّاب، زينة شباب زحله وقبلة انظار مدينة المُجلّين… إنه الدكتور انطوان غصين.

         لم استطع ان أفرق بين ما يُميّز الدكتور انطوان غصين من شِيَم: هل هو الطبيب الأفضل ام الصديق الأوفى؟.. هل هو المواطن الأحب، بوعيه ونبله، ام هو العالم الانساني الذي يكرس حياته لتقدُّم العلم وخدمة البشرية، بروح انسانية سامية… انه صاحب اليد الذهبية، كأقدر جرّاح، وصاحب المبضع المترسّل للصحّة والشفاء.  

       كثيرا ما رأيته، عندما أصبح رئيساً لمستشفى اوتيل ديو الكبير، يخرج من غرفة العمليات منشرحاً وكأنه عائد من سهرة بهية بأجمل الصور وأوضحها، ومنتشيا كما لو انه قام بنظم قصيدة عصماء، في حديثه الشيّق عن أدق تفاصيلها. وظلّت متعته الكبرى في حضوره سنويّاً المؤتمرات الطبية العالمية، لا ليطّلع فيها على أهم ما أنجز زملاؤه الكبار، من معجزات طبية وحسب، بل ليُطلعهم على ما قام به هو من عمليات مستعصية، تتناقلها النشرات الطبية المتخصصة باهتمام بالغ… فكأن الطبيب الماهر، بنظره، هو الذي يعرف اشياء يسيرة من كل شيء، ومنها الطب، ومنبع سعادته في تمكنه من اعطاء الصحة. 

الدكتور أنطوان غصين وزوجته يتحدثان الى الصحافي الفرنسي الكبير كاستيون بابلو في حفلة تكريم مدير مجلة باري ماتش في كرم علين وبينهم صاحب الدعوة جورج سكاف (1964).

 

        الدكتور انطوان غصين هو بالنسبة اليّ الصديق المنقذ، أكثر منه الطبيب المعالج، أجرى لي أغرب العمليات، عندما كنت من أغرب المرضى، مريض الوهم. فأنقذني بلمسة سحرية او كلمة مقنعة أفعل من اي دواء. وهكذا خلصني من مخاطر الادمان دون الشعور بأسى الحرمان، فتخليت، منذ نصف قرن، عن عبودية التدخين الآلي للسيكارة الى متعة السيكار في المناسبات. كما انقذني من أخطر العمليات عندما استهدفني مبضع لا يرحم .                                                                                              

        عندما انتقلنا، معشر الرفاق الزحليين، الى بيروت للدراسة في معاهد مختلفة، كنا نلتقي في بعض الأمسيات، في اوتيل ديو عندما يكون دور الطبيب المتمرن روبير جريصاتي في المناوبة فنلعب الورق. ويحضر أحيانا الدكتور انطوان غصين عندما تستدعيه حالة طارئة كولادة مستعجلة او اجراء عملية استئصال زائدة او مرارة التهبت او انفجرت. وقد سمعت كيف تكون عوارض التهاب الزائدة. انتابتني، وانا في البيت، آلامها المبرحة، فاتصلت بالدكتور غصين مستغيثاً، فاسرع وارسل سيارة اسعاف لنقلي الى المستشفى حيث باشر بتجهيز غرفة العمليات. وعندما أُدخلت محمولا سارع الي مطمئناً وباهتمام بالغ، وسألني عن الطبيب الذي كشف عن التهاب الزائدة. فأجبته: أنا. فصرخ بي: وله أنت. وفجأة طار مني الألم وقفزت عن الحمالة ونزلت الادراج راكضا الى البيت… وهكذا في كل مرة كنت آتيه شاكياً من ألم او انزعاج، كان يأخذ في الحديث الى مختلف جوانب حياتي، وعندما اقوم مودعا  يقول لي: لا تحرم نفسك من شيء ولا تبالغ… وكم اراحني من هواجس مرض صدري او زهري، ومن الاعيب حُمى مالطيه.  

       عندما أُصِبتُ في انفجار عوكر (الجبهة اللبنانية) ونُقلت الى مستشفى جونيه بين حَيٍّ وميت، اسرع الدكتور انطوان غصين، تلقائيا، لانقاذي ومعه فريقٌ طبّي كامل من اوتيل ديو، فمنهم من قام بترميم عظام وجهي، واعاد آخر عيني الى موقعها، وقام ثالث بعمليات تجميل حتى لا يبقى من أثر… وعندما اطمئن الى نجاح مختلف العمليات همس الدكتور الصديق في اذني  بارتياح: لقد كنت مُحظاً في سؤ حظك… وشرح قائلا: من سؤ حظك انك الوحيد الذي أُصيب إصابة خطيرة، ومن حُسن الحظ ان الضربة التي أصابتك لو انحرفت قليلاً الى أعلى لكانت قلعت العين، او الى يسار لاصابت منك مقتلا في الصدغ، او الى تحت لقضت على الفك الاعلى بكامله.   

                                                                         

          اما عمليته الانقاذية الكبرى، فكانت بأن جنَّبني أخطر عملية جراحية مستعجلة كدت اتعرض لها… ففي بداية السبعينيات، عندما تملكت “الجريدة” وتزوجت وسكنت في بيت  حديث، في شارع جديد، مواجه لبيت الدكتور غصين. ذهبت كعادتي كل صباح، الى المكتب للأجتماع بكبار المعاونين، واذا بمدير الادارة، وهو رجل أعمال قدير وذو مركز اجتماعي مرموق، ينظر باستغراب الى ورم تحت ذقني لا انفك عن تحسسه، فلم يرقه الامر واصر على ان يذهب بي الى طبيب، من كبار الاختصاصيين في الرأس، استجاب لإلحاحه فاستقبلنا على الفور، في المستشفى، وبعد فحص سريع قرر ان يجري لي جراحة سريعة لاستئصال الورم، وقد يكون الأمر أكثر خطورة اذا ترك الى الغد. فقلت: بل الى ما بعد الغد حتى أتمكن من تخفيف وقع الصدمة على زوجة حديثة، وتدبر شؤون العمل. وجئت الى البيت مهموماً، ووقفت على الشرفة أفكر بمصيري، واذا بالدكتور انطوان غصين يلوح  من شباك بيته، كما ليمر بي في طريقه الى المستشفى، فاتصلت به لاقول له ان ينتظرني برهة حتى أراه لوحده، واجتزت الشارع مسرعاً، لأروي له،عند مدخل البيت، كل ما حصل معي، وتمنيت عليه ان يكون الى جانبي عند اجراء العملية، واني مدرك لمدى خطورتها. وبهدؤ كلي، وابتسامته المحببة اخذ يحدثني في كل ما هو مبهج في حياتنا الخاصة، بينما يتفحص حجم الورم واذا من ورم في مكان آخر، ثم قال: هذا الورم الذي ظهر اليوم فجأة سنرى ماذا يبقى منه في الغد وعندها نبحث في الامر، واضاف: اذهب  الان وكأن شيئا لم يكن، وكل ما اطلب منك ان تضع يدك في جيبك فلا تظل تتحسس ذقنك… وفي الصباح مر ليتأكد ان الورم لم يعد له من اثر، وقال لي: كثيرا ما تدخل قشة من حبة زعتر مثلا في مجرى اللعاب، وبفعل حكه تتضخم الغدة، وعندما ترتاح تعود الى حجمها الطبيعي… فنزلت الى المكتب مطمئنا بينما مدير مكتبي يكتم قلقه ليُشدد من عزيمتي في مواجهة العملية، فنزعت يدي عن خدي ليرى بذهول كيف ان العملية قد تمت بسحر ساحر، وزال الورم بوعي مبضع صديق.

         لقد تقدم البروفسور انطوان غصين كثيرا في مهاراته الطبية وفي الحكمة، وتخطى بشهرته وعلمه حدود الوطن وحدود المهنة، ولكنه ظل في نظر الزحليين جميعا ذلك الشاب  المثالي لكل زحلي مقدام، وزين شباب زحله الدائم، زحلة التي تحبه كثيرا وتفخر به أكثر،  فأحلّته في موقع القلب، لكثرة ما اعطاها من قلبه الكبير، وامسك بيدها في يده الذهبية، ورافق كل خطواتها بمحبة انسانية فائقة…  

 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. البروفسور انطوان الغصين
    ( شربة ماء )
    ***-
    كنت في الثانية عشرة من عمري, يوم وفد الى قريتنا مجموعة من الشباب في سيارة ابهجتنا بلونها المميز وكانها وردة حمراء , وكانت رحلة الشباب للصيد في احراج قريتنا, الرعيان في الاحراج مع قطعانهم وكلابهم المسعوره بنباحها لدخول كلاب الصيد الى حماهم .
    كان اخي عادل قبيل هجرته الى بلاد البرازيل يرعى قطعان الماعز والغنم , وفي طريقي اليه حاملا جراب الراعي الذي كان قد تركه يومئذ في المنزل اضرابا عن الطعام احتجاجا لامر ما , وعلى كتفي الاخر معلقا صفيحة مخصصه للماء كان يستعملها والدي خلال خدمته العسكريه , اسير بحملي هذا متثاقلا متعبا من المسافه الطويلة التي مشيتها صعودا الى اعالى الاحراج , غافلا عما يدور حولي بانشغالي بالمغاره الحجريه المنحوته في الصخر, وكاني لاا سمع طلقات الصيادين وتعليماتهم لكلاب الصيد.
    افقت من رحلتي الى العصر الحجري على صوت صياداطل من خلف صخرة كانت تحجب رؤيته, قائلا:بونجور عمو , فهمت كلمة عمو وكانت رقيقه هادئه انعشت خوفي واسكنت وحشتي لاقول اهلا وسهلا هذه الكلمة التي تتكرر كثير في بيتنا واحبها لسهولة حفظها في ذاكرتي, كان شابا اشقر الشعريلبس ثيابا شبيهة برسم نابوليون الذي اراه في كتاب التاريخ خاصة القبعه, وسيما انيقا طمأنني شكله المحبوب حين قال هل تسقيني شربة ماء.
    قلت وأطعمك من الزواده اهلا وسهلا ,قال ما اسمك : قلت : عقاب ؛؛؛؛؛
    ضحك ضحكة حلوة ,(بدي عقاب بالجو ) وتناول عن كتفي صفيحة الماء وكم عجبت ان يشرب
    وهي بعيده عن فمه,انهى شربته قائلا مرسي ولم افقه ان اجيبه بشيء على كلمته ولكني قلت له صحه وعافيه لانها من البديهيات في حياتنا اليوميه.
    اكملت طريقي وكان شيئا لم يكن وتابعت حياتي اليوميه طفلا في مدرسة الحياة وفي مدرسة ابي فؤاد.
    هاجراخي عادل وترك قطيعه,ولحق باشقائي الثلاثه الذين سبقوه في الهجره الى بلاد البرازيل تاركين زوجاتهم واولادهم بانتظار ان يكون نصيبهم النجاح لتامين معيشتهم, وكان لاحدهم ابنة عمرهاخمس او ست سنوات سمراء لطيفه ناعمه وحيدة امها تعاني من هزال لقلة التغذيه, وكنت احنو
    عليها اوفر لها من طعامي وارفدها بما يتيسر لي من حلويات كانت نادرة
    الوجود, حتى السكر كان يباع بالقطعه وهي على شكل قرطاس لايتوفر الا
    با لمناسبات الهامه.
    الت قطعان الغنم والماعز بعد هجرة الاخ الاوسط بين الاخوه السبعه الى
    (البطل) وهو الاسم الذي كان يطلقه الوالد على متسلط البيت( عنتر زمانه
    )عنده قساوة وغلاظه في الجسم والتصرفات , وكان ان تزوج
    وبحكم هذا الواقع الجديد اصبحت مستعمرا من الحاكم الجديد انفذ اسوة بكل افراد الاسره للفرعون طلباته وهمايونياته
    لا مدرسة لالعب لافرصه لالالا .
    التزمت بواقعي الجديد مكرها, وكان ما يتيسر لي من جريده او مجله او بقايا كتاب هو سلوتي ورفيقي بالاضافه الى صغيرتي ابنة اخي احنو عليها وهي
    تبادلني بنظراتها الطيبه العرفان والمحبه, وكان ان وقعت في المعصيه القاتله يوم تصرفت ومونت امراة اخي بكاسة حليب لتسقيها الطفله السقيمه, ومع قساوة قلبه كانت لي علقه
    قاسيه تركت في ساقي اليسرى تحت الركبه شعرا في احدى العظمتين تفاعل مع مرور الوقت لادخل المستشفى الحكومي محموما غائبا عن الوعي متورم
    الرجل اليسرى, كانت المصحه لاتجهيزات حديثه ولا اطباء اختصاصيون بل
    علاجات بالمهدئات وحبوب الكينا والاسبرو.
    اما في حالتي فقد قرر كبير الاطباء بتر الساق وتم التحضير والاستعداد لاجراء العمليه, وكانت والدتي رفيقة المي ومحنتي تبكي بحرقة الام ولوعتها
    حين مرت كوكبه من الاطباء المتمرنين في جوله من مستشفى المدينه حيث الجامعه لتدريس الاطباء, وكان الشاب الاشقر معهم حين تداولوا الاسم وسمع بكلمة عقاب فاستفسر من الوالده عن اسم البلده ليتأكد بان المريض هو الذي قابله في حرش البلده, تبرع الطبيب المتمرن ( الدكتور البروفسور انطوان الغصين ) بنقلي الى مستشفى المدينه واجرى الفحوصات اللازمه والصور الشعاعيه وساهم مع رفاقه في اجراء عمليه انقذت رجلي من البتر. والثمن شربة ماء
    ***-

    الشاعر اللبناني
    ابو شوقي