نعيم تلحوق في “شهوة القيامة”: قلق المنحنى الشخصي بطريقة تخطيطية

Views: 789

د. قصي الحسين(*)

تميزت الفلسفة الشخصية لدى الشعراء والكتّاب، ابتداءً من “رونوفيه” عند الغربيين حتى “محمد إقبال” في الهند بتجلياتها في مجموعة المتأدبين بوحدات ذاتية مولدة، وفقاً لأنواع التفاضل الشخصي. ولهذا ربما، أخذت فكرة “المنحنى الشخصي لحياة ما” تبرز شيئاً فشيئاً في كتابات المؤلفين في علم النفس الاجتماعي، فتحتل مكانة خاصة في تسجيلاتهم الاكلينيكية وتحليلاتهم العلمية، بغية تحديد نوع القلق وظل الهاجس الذي يشي بفردانية مخصوصة وشخصانية ممهورة في حالات الأشخاص العصابيين الذين يصدرون عن ثقافة القلق.

لا يمكن أخذ الشاعر نعيم تلحوق، إن في دواوينه العشرة، أو في ديوانه الأخير “شهوة القيامة” إلاّ بالجملة. وعلى علم الاجتماع، إن شاء أن يستقصي الأطراف حقاً في شعر هذا الشاعر الفرداني، أن يتمكن أولاً من تحديد عقلية “وسط إنساني ما”، يتقمص نعيم تلحوق تجربته، وذلك من خلال اتباعه طريقة تجريبية علمية دقيقة، تبدأ بإجراء “عملية تكامل بين المتفاضلات الفردية” عنده، ولا تنتهي فقط بجمع “منحنيات المصائر الشخصية الجمعية” بل بتجاوز ذلك إلى وضعها موضع الملاحظة الدقيقة وتسطير بيانات دقيقة من استناباته الشعرية وتعرجاته النفسية التي تـتبيء في جيوب حلزونية، في هذه الدواوين العشرة التي يلخصها لنا ديوانه الأخير الموسوم “شهوة القيامة” ( **): “كنت مشغولاً بفضّ رؤاك/ وقلت تلمحني خلف عصاك/ وأني أعمى، لا أرى تعباً يرضاني/ وبأنك مثل قهري تراني/ وبأني لا أراك/ (ص 11).

الشاعر نعيم تلحوق

 

ولعل المنحنيات الشخصية في أدب تلحوق “المختلف”، لو أخذت بنفسها منفردة، ودرست بطريقة اكلينيكية وفق المعالجات العلمية الحديثة لسحْب “الشعري” على علم الشعر النفسي الاجتماعي المرضي، لأمكننا من خلالها تلمس إيضاحات جديدة غير مسبوقة لأنواع السلوك الإنساني، أكثر مما تفعله التحديدات ذات المكونات المتغيرة للقيم الجمعية سواء كانت متجسدة في رغبات أم فضائل. يقول: “أنا هو/ المغني الوحيد/ أبحث عن سرٍّ خلف السرّ/ لأستنطق عدمي/ فمن يا هُو، يجافيه ندمي/ كيف أغفو على صُرّة خلق؟” (ص 30).

ولعل “جالتو Galton” ومن بعده “بواييه Poyer” كانا قد اقترحا تصنيف منحنيات الحياة بطريقة تخطيطية تباعاً لنقاطها الرئيسة والعديدة وأهمها: 1- الإنحرافات. 2- العود على بدء. 3- العقد في المصير المحسوس. 4- الأحداث المجتمعية. 5- الأزمات المتعاقبة والمتداخلة. 6- تصرفات الماضي الإنساني. 7- تعريفات الحاضر الصادق أو الكاذب. 7- مخاطر الصدق. 8- مخاطر الواقعية الحتمية. 9- حدود الفجيعة الإنسانية. 10- صيغة النجاة.. إلخ

وفي هذه المنحنيات الحياتية ذات الطبيعة التخطيطية في شعر نعيم تلحوق، إنما نرى كيف تأذن لنا بتصنيف المواقف الدرامية، وهو الذي يقول في المقدمة: “كلنا نبدأ وننتهي، والشعر يُبدي ولا يبدأ”. ويقول أيضاً: “لهذا اتحد الحلاج به. وأعاره ابن عربي قميص شجاعته، ليفتح باباً للسجال حول الشعر. قضية سؤال وجمال في آن واحد فلا بأس إن دخلت الصوفية والفلسفة كنف اللعبة الشعرية، كما سمحنا للسرد والدراما والمسرح أن يدخلوه. إنه استعراض مسرحي تتوافر فيه لغة السؤال الجمالي بأبعاد فلسفية ورمزية ليبقى البحث قلقاً عن الصورة والمعنى، لا أن يقف عند مكان” (ص 8).

 

فمنذ كتاب “الشعر” لأرسطو، يمكن لنا أن نقع على عدد قليل من النماذج الشعرية الغريبة بطبيعتها عن الشعرية المعتادة، بحسب نظرية “بولتي Polti” كما يبيّن لنا “جوتسي Gozzi” و”غوتيه”، وهذا يفترض مقدماً، بحسب نظرية علم الجمال النفسي والاجتماعي، وضع “طوبيقا” جديدة للخيال. وفي مثل هذه الحالة، ولأجل تركيب مثل هذا “المنحنى الشخصي لحياة ما”، كما يقول علماء النفس، لا بد أيضاً أن نختار، بالنسبة إلى كل فرد “محور التشخيص” الذي اختاره لنفسه.

ولنتحدث بهذه المناسبة عن مراحل فكرة التشخصيّة و الشخصانية اللتان تظهران أولاً على هيئة قناع زمني يسمح بالمشاركة في “وثن معبود” عند تلحوق، ثم بمثابة دور يشابه نموذجاً “اللّه”. وأخيراً كشعور دائم بِشُرْكَةٍ نهائية مع المجموع في البشرية. بفضل اسم شخصي لدين ما. يقول تلحوق: “ليس حول البيت إلاَّي/ شيء من مذاق قديم/ تلبس رؤيتي/ وأنا في حيرة مني/ أطهو لعابي/ وأعلك الماء/ كأن من بين الذين فقدتهم غربتي/ وأوقاتي/ كان لي وقت قبل الرقص/ أستعجله دمي/ فخاط من شجونه قميص عمري”. ثم يقول: “سأقلق كثيراً، إذا ما وطأني القدر دون سؤال، أو بتحقيق ذهني عن معنى صفاقتي/ سأقلق جداً/ إذا لم أقل أني نزيل/ الصدف الكافرة/ حينها سأشعل حول البيت أغنيتي/ وأعلن بنارها تعبي/ وهذا الليل (ص 77-79)

تلحوق في الجزائر يقرأ من “شهوة القيامة”

 

ونحن نرى أن هذا التطور التدرجي عند تلحوق في النظر إلى الحياة بطريقة تخطيطية هو ما تحدث عنه “موس Mouss” من حيث مظاهره الخارجية على ضوء القانون العام للطبيعة، وهو الذي شرحه وبينه “مار Marr” من الوجهة اللغوية والنحوية، مع تدرج تملك الشخص المتكلم للفعل بطريقة تدرّجيّة، بحيث جعلنا نشعر تجريبياً، من حيث الفعل الباطن، كما يقول: “أثقل العمر يدي بالأمنيات/ كتب لي بعد صراخه، الأوقات/ ومضى/ تناول الوقت بعض أناملي/ وأعارها إلى حبيبتي/ لتكسر بها الأزمات/ لتشتري خبز العمر/ من طاحونة الأيام. ثم يقول: عدت إلى مجرتي/ أسأل عن وجهها/ إذا ما وصل قبلي/ أو قبل الزمان” (ص 87 و88)

برأينا إن منحنيات “نتاج القيم” وضروب “النشاط الإنساني” عند نعيم تلحوق، بالإضافة إلى المراحل الأسرية والتنقلات المشهدية والحياة المهنية، سواءً كانت سياسية أم ثقافية ام فكرية أم اجتماعية، هي التي جعلت عود الشاعر على هيئة منحنيات متكسِّرة في صفحة الماء، بشكل نواقيس شعرية تبدأ من الميلاد وتنتهي بالموت. ولكن حين يشع في المجهود الحيوي للشعر، فإن منحنيات خط الشاعر تصير، كما طريق صاحبها، تعرجات حلزونية جيبية، وهي إذا فردت تبدو كخط مقارب، ترسمه كمية مشبعة بالشعر، متجهة في صعودها. مستقيمة في ذلك الصعود. فأيهما يكون الشعر إذاً، ما كتبه نعيم تلحوق في شهوة القيامة، أم ما كان يعود عنه ويمحوه؟

***

* – أستاذ في الجامعة اللبنانية

 ** –  نعيم تلحوق: شهوة القيامة. درا الفرات. بيروت 2013.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *