الاستقلال في زمن الانتفاضة الشعبية

Views: 720

النائب السابق غسان مخيبر

عشية ذكرى الاستقلال ومئوية اعلان دولة لبنان الكبير، تتكاثر الخطب والمناسبات، تهب في وجهك المقالات لتنفخ فيك العزيمة او الإحباط اولتدغدغ الشعور الوطني، في زمن الانهيار المالي والاقتصادي، والانتفاضة الشعبية الكبيرة الناقمة على كل شيء وعلى الجميع في مواجهة سلطات دستورية تتمسك بمواقع وحصص وتستفيد من الفساد البنيوي المنتشر كالسرطان.

 فتتردد كلمات على كل لسان، في الشارع وفي المؤسسات،في فصائل الموالات والمعارضة المختلفة، كطنين الاجراس ايام العيد، او كمثل قرع الطبول والطناجر وسائر أدوات الطبخ المنزلية، كلماتتتردد كدعاءات الحجابات السحرية لمنع صيبة العين او لتحقيق الحلم المرتجى: استقلال، سيادة،حرية،ثورة ثورة ثورة، كرامة، ديمقراطية، ولبنان والحريات صنوان متلازمان لا ينفصلان، … كلمات …كلمات … كلمات.

 فبالنسبة للبعض، الاستقلال ناجز وكل شيئ على ما يرام باستثناء احتلال مزارع شبعا، وبالنسبة للبعض الآخر، لا استقلال ولا من يحزنون، في ظل تواجد السلاح المنظم بيد البعض خارج اطار القوى الأمنية  بل احتلالات متعددة الأطراف، واستعار صراعات الطوائف والمحاور الممتدة من الصين الى الولايات المتحدة، مرورا بتركيا، وريثة السلطنة العثمانية، وأيران والسعودية وسوريا وما بينهما.

في خضم هذا الجو الملبد، وترقب جميع اللبنانيين الطيبين ليوم الفرج، دعوتموني اليوم للتفكير معكم لإحياء ذكرى الاستقلال، فدعونا نبتعد قليلا عن هذه الضوضاءالكلامية، لنستعيد الذكرى، ونستشف المستقبلبأدوات العقل والقلب معا.

أولا: في المفاهيم العامة

ان الاستقلال وسيلة من وسائل نشأة الدول، والتعبير الأسمى عن حق الشعوب في تقرير مصيرها. ويطرح هذا الاستقلال مسألة بناء الدولة وتعزيز وجودها؛ بما فيه بالنسبة للدول ذات التعددية الدينية او العرقية او اللغوية، كيفية تجاوز منطق التطابق بين الدولة والأمة وادارة الإختلافات والتعددية ضمن الوحدة وتأمين حقوق الأقليات، ومواجهة خطر الاستقلالات المتكررة، أي خطر الإنقسامات والتفتت.

كما أن الاستقلال عبارة مرادفة “للسيادة الخارجية”، بمعنى ان القرارات التي تتخذها مؤسسات الدولة المختلفة، المعبرة عن ارادة الشعب صاحب السيادة، يفترض ان تتمتع باعلى درجات السلطة Summa Potestasفلا يمكن ان تعلو عليها ولا ان تشاركها او تنافسها او تفرضها اية سلطة اخرى خارجية. فتتمتع الدولة وحدها بحصرية استعمال القوة المشروعة دون سواها من الدول او القوى أو المجموعات الخارجية او الداخلية.

لا يمكن ان يحد الاستقلال، بما هو تعبير عن سيادة الدولة الخارجية، سوى القانون الدولي؛ أي ما ترتضيه الدولة بالذات بتعبير حر ومتكافئ عن ارادتها عبر الإتفاقات الدولية التي تعقدها: اما ثنائيا أو جماعيا، مثل اتفاقيات حقوق الإنسان، والبيئة، وتنظيم التجارة الدولية. وبالتالي، فان عناصر عديدة يمكن ان تجعل من الإتفاقات الدولية شبه اتفاقيات اذعان، بسبب هيمنة دولة او اكثر على دولة اخرى او مجموعة دول هي اضعف منها عسكريا او اقتصاديا، خاصة بالنسبة لدول العالم الثالث، كما نحن. واذا كانت المفاوضات المتعددة الأطراف توفر فرص اكبر لتحقيق شرطي التعبير الحر والمتكافئ، فان هذه الفرص تتوفر بمستوى ادنى في المفاوضات الثنائية، او هي تنعدم في حالة هيمنة دولة على اخرى. ففهي هذه الحالة، تكون مثل هذه الإتفاقات مخالفة لمبدأ الاستقلال وتنتقص منه.

ثانيا: في الأحوال اللبنانية

ان معاني الاستقلال التي استعرضتها بأيجاز، تضع استقلال لبنان ضمن اطارات تاريخية ومفاهيمية ثلاثة، اسميها الاستقلالات الثلاثة:

الاستقلال الأول: كان عند اعلان دولة لبنان الكبير بانفصاله عن السلطنة العثمانية، في حدوده الحالية المعترف بها دوليا، بشعبه ومؤسساته التي تحددت في دستور ١٩٢٦ وجميع تعديلاته. وقد تكرس استقلال لبنان، كدولة وكأمة لبنانية (بحسب نص الدستور)، في خضم، لا بل في مواجهة، مطالب متضاربة: من تبعية للشرق أو للغرب، أو لنزعة الى وحدة سورية واسعة او وحدة عربية أو اسلامية اوسع.

وقد قوي عود استقلال لبنان الدولة مع الزمن، ولم تستطع الحروب المتعاقبة، خاصة منذ العام ١٩٧٥ تفكيك لبنان او ضمه، بل ثبت ان “العقد الإجتماعي” بين اللبنانيين هو رابط سياسي واجتماعي حقيقي. وقد ترجم ذلك في مقدمة الدستور الذي اضيف عام ١٩٩٠ عقب اتفاق الطائف، فتكرست “نهائية لبنان” كركيزة اساسية للوفاق الوطني التي “لا شرعية لأية سلطة” دون تحققه.

الاستقلال الثاني: كان استقلال لبنان عن الإنتداب الفرنسي وتعديل الدستور اللبناني لتنزيهه من جميع الأحكام التي كانت تعطي صلاحيات لسلطة الإنتداب والمفوض السامي الفرنسي. هذا هو الاستقلال الذي استقر التقليد السياسي على الإحتفال بذكراه في 22 تشرين الثاني من كل عام منذ 1942.

هذا الاستقلال الثاني تتمحور معانيه حول التعريف الكلاسيكي للسيادة الخارجية، اي رفض أية سلطة اجنبية تنافس السلطة الوطنية في الصلاحيات، أو تتجاوزها وتعلو عليها، والتوق الى السيادة الكاملة في اتخاذ القرار بعيدا عن أي تدخل خارجي اجنبي، من أية جهة أتى. وقد تكرس الاستقلال الثاني واستكمل بجلاء جميع الجيوش الفرنسية عن لبنان، ولاحقا بجلاء جيوش الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة السورية عن لبنان. ويبقى تنزيه التشريع اللبناني من الإتفاقية المنشئة للمجلس الأعلى اللبناني السوري على ان تنتظم هذه العلاقات ضمن اتفاقيات تحفظ المصالح الثنائية المشروعة للدولتين الجارتين الشقيقتين في جميع المجالات. وكذلك ضرورة تحييد لبنان إيجابيا عن صراعات المحاور الدولية والإقليمية، بما فيه ضرورة الاتفاق على سياسة دفاعية تصدر بقرار من الدولة اللبنانية عقب حوار صريح وشفاف.

 الاستقلال الثالث: هي عملية دائمة ومستمرة، لا تأخذ اشكال قانونية او دستورية، انما هي توق للإستقلال الدائم في اتخاذ المؤسسات الدستورية للقرارات المناسبة، بعيدا عن هيمنة أية جماعة سياسية او طائفية داخلية على مقدرات الدولة، ذلك ما يتطلب تطوير النظم السياسية لتحويل لبنان الى المرتجى المعبر عنه في الدستور: دولة مدنية ديمقراطية فعالة، لا تمييز فيها بين المواطنين والمواطنات المتساوين في الكرامة والحقوق على أساس القانون الوضعي غير الطائفي. دولة النزاهة المبنية على أساس اطر ونظم فعالة لمكافحة الفساد البنيوى الذي يحطم المساواه ويحطم الكرامة، ويحول المواطنين الى رعايا زعماء سياسيين طائفيين.

هذا الاستقلال الثالث يتطلب العمل الدؤوب حتى قيام دولة المواطنة. ومن ابرز الأعمال المطلوبة:

  • تطوير السلطات الديمقراطية، لا سيما في اطار مجلس شيوخ ومجلس نواب ينتخب اعضاؤهما في انتخابات حرة ونزيهة؛
  • تطوير نظام فصل السلطات، بما فيه تفعيل الوظيفة الرقابية لمجلس النواب، المعطلة حاليا، وتطوير استقلالية السلطة القضائية النزيهة والفاعلة؛
  • قيام الدولة المدنية يواكبها حسن تطبيق المادة ٩٥ من الدستور، وتعيين الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، مع احترام حقوق المذاهب والطوائف دون استتباع المواطنين الأفراد لطوائفهم؛
  • تعزيز الدولة الواحدة في اطار اللامركزية الإدارية الموسعة؛
  • تطوير فعالية الإدارة ومؤسستها عبر تنزيه سائر احكامها الدستورية والقانونية المعرقلة لحسن اتخاذ القرارات؛
  • تطوير الدولة النزيهة، عبر مؤسسات شفافة وقدرات وإرادة سياسية على مكافحة للفساد والوقاية منه.

 يجب ان نحمي هذا الاستقلال الثالث عبر تعزيز الوحدة الوطنية ضمن التعدد الذي يغني لبنان، فيحوله من دولة الى رسالة، (كما وصفه قداسة البابا الراحل القديس يوحنا بولس الثاني). هذه الوحدة التي لا تستقيم الا عبر احترام النظام الديمقراطي، وتتجذر في دولة القانون، القائمة على احترام الحريات الأساسية وحقوق الإنسان التي يحميها قضاء حر وفاعل، ويحميها مجتمع مدني (بما فيه الإعلام) متحرك ومتحرر ومؤثر في حماية الديمقراطية.

ان ذكرى الاستقلال هي حافز لنا اليوم، وهذه السنة اكثر من أي يوم وأية سنة في تاريخ لبنان، على ان ننطلق في المئوية الثانية لقيام دولة لبنان الكبير في المشوار الشيق والشاق لبناء دولة المواطن.

 فعسى ان تكون انتفاضة شعبنا اليوم في لبنان مخاض ولادة الدولة المدنية الفعالة على طريق المئويات المقبلة، المكرسة لنهائية لبنان، كما ازلية جباله وشموخ ارزه.

***

(*) القيت في  ندوة “الاستقلال والعاميّة/الانتفاضة”  في الحركة الثقافية- انطلياس

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *