وعي النقد ومبادئ التأسيس… خليل مطران أنموذجًا

Views: 38

د. جورج طراد

الأصل في النقد أن يكون منفصلا عن الإبداع، ذلك أن لكل منهما ملَكة لا بد من اتقان مقوماتها قبل الكتابة. لكن طول المراس في كتابة الشعر مثلا، قد يفتح شهية الشعراء، بنسَب متفاوتة بالتأكيد، على مقاربة النقد. وما شهدتْه الأزمنة الحديثة في كل اللغات يؤكد وجود مثل هذا الإتجاه. عِلما بأن معظم الشعراء، كما تدل تجربة سان جون بيرس وايف بونفوا في فرنسا وانسي الحاج وادونيس عندنا تمثيلا لا حصرا، لا يطرحون نفسهم نقّادا بالمعنى الحقيقي للكلمة وإنما أصحاب نظريات يمكن التأسيس عليها لبناء مدارس نقديّة متكاملة. وللتأكد من ذلك يكفي أن نستعرض اسماء أبرز مؤسسي المناهج النقدية المعروفة لنكتشف انهم مفكرون او فلاسفة او علماء نفس ولغة واجتماع وليسوا أبدا شعراء. وليس في هذا ايُّ انتقاص من قيمة الشعراء المنظّرين للنقد، حتى ولو كانوا يغالون أحيانا في طرح نظريات ومبادئ تبرّر اعتمادهم اسلوبا معيّنا في الكتابة الشعرية، على طريقة صاحب أي حرفة وهو يشرح عن ادواته ويبالغ في امتداح طريقة استخدامها في حرفته. 

احمد فارس الشدياق

 

 وقد يكون عصر النهضة العربية الذي يؤرخون بدايته الصوَريّة في العام 1789 هو أول العصور الأدبية العربية التي شهدت تكثيفا واضحا لظاهرة وعي أهمية النقد عند شعراء المرحلة الذين اندفعوا في شبه إجماع غير مسبوق، ليشرحوا طريقتهم في الشعر والأدوات التي يستخدمونها في هذه المهمة. ولأن معظمهم كانوا ناثرين، إلى جانب كونهم شعراء، أمثال احمد فارس الشدياق وابراهيم اليازجي وشكيب ارسلان وغيرهم، فإن مهمة صياغة ما يمكن اعتباره مبادئ لنظريات نقدية كانت متيسِّرة بالنسبة إليهم. 

ابراهيم اليازجي

 

 وفي خطّ موازٍ تقريبا كانت تجري محاولات في المهجر الأميركي لاستخراج مبادئ عامة للنقد مستندة إلى التجارب الشعرية الذاتية، لاسيما على يد كلّ من جبران خليل جبران وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة الذين أفادوا، قدْر ما سمحت به ثقافتهم الشخصيّة، من تجارب الشعراء الغربيين. غير أن محاولاتهم النقدية ظلت محصورة في شكل عام ، إما في بعض المبادئ العامة المتفرقة وإمّا في انطباعية قائمة على قناعات شخصية، لاسيما عند نعيمة في “الغربال”. 

شكيب ارسلان

 

وفي المرحلة نفسها تقريبا، كانت ” جماعة الديوان” تنشط في مصر من خلال نشاط مؤسسيها الثلاثة، إبراهيم عبدالقادر المازني وعبدالرحمن شكري وعباس محمود العقّاد، وكلهم متأثر بالشعر الانكليزي الحديث (يومها) وتحديدا بالمنحى الرومانسي منه. وقد شرحت الجماعة مبادئها الأدبية في كتاب كامل هو” الديوان في الأدب والنقد” ( 1921) من تأليف العقاد والمازني، اللذيْن دعوَا من خلاله إلى التمرّد على النمط القديم السائد في الشعر العربي على مستويات الشكل والمضمون وطريقة البناء واللغة. وحملت هذه الدعوة مبادئ نقدية جريئة للغاية، بمقاييس تلك الأيام، رأى فيها كثيرون مِفصلا حقيقيا في الحركة النقدية العربية الحديثة. 

ميخائيل نعيمة

 

والمعروف أن خليل مطران، من خلال آرائه في الشعر والمعاصرة، قد أثر بشكل مباشر في “جماعة الديوان”، فاعترفوا له بالحث على تجديد قوالب الشعر العربي، لاسيما في مقدّمة ديوانه الذي صدرت الطبعة الأولى منه في العام 1908 في القاهرة، ورأى كثيرون أن تلك المقدمة هي “مانيفستو” متكامل ، أو بيان شعري بكل ما للكلمة من معنى. وقد تتالت من بعده دواوين شعراء “جماعة الديوان” (شكري 1909 – المازني 1913 – العقّاد 1916)، من دون ان يعني ذلك أنهم تأثروا خليل مطران بقدْر تأثرهم الشعر الرومانسي الانكليزي. لكن ما يمكن تأكيده أن “المانيفستو” الذي أطلقه مطران أشاع جوّا من الحريّة بين الشعراء فباتوا أكثر قابليّة لتخطي قيود التقليد الشعري المتوارَث.

خليل مطران

 

 تجربة خليل مطران

يرى الشاعر أدونيس في كتابه ” مقدمة الشعر العربي” إلى تجربة خليل مطران ويجدها مستندة إلى التجديد الشعري وينقل عن الخليل كلاما كتبه في مجلة” الهلال” المصريّة في العام 1933، يؤكد فيه: ” إن الفن ينضج في جوّ من الحريّة. وهذه القيود الثقيلة، قيود القافية الواحدة والوزن الواحد تتعارض مع حريّة الفن”. 

إبراهيم عبدالقادر المازني

 

 ما هي المبادئ النقدية العامة التي أطلقها خليل مطران في المقدمة/ المانيفستو؟

يطرح مطران السؤال المحوري التالي: ” كيف ينبغي أن يكون الشعر”؟ ويجيب شارحا سبب كتابة الشعر وهدفها وطريقتها. فيكون بهذا قد سبق، بإربعة عقود تقريبا، الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي أطلق في العام 1948 كتابه المعروف: “ما هو الأدب؟” وقد بناه على ثلاثة فصول/محاور هي: ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ لمن نكتب؟

أدونيس

 

 بالنسبة إلى خليل مطران ينبغي أن يكون الشعر عصريا بكل ما للكلمة من معنى “وفخره أنه عصري وله على سابق الشعر مزيّة زمانه على سالف الدهر”. ويفصّل مطران في لبّ المقدمة /المانيفستو ملامح الشعر العصري فإذا بها موزعة على النقاط التالية:

 1 – الشاعر سيّد شعره بحيث لا تحمله ضرورات الوزن والقافية إلى غير قصده. 

2 – يُقال فيه المعنى الصحيح باللفظ الفصيح. ( أهميّة التمسك بالفصحى)

3 – لا ينظر قائله إلى جمال البيت المفرد (. . . ) بل إلى جمال البيت في ذاته وفي موضعه، وإلى جملة القصيدة في تركيبها وفي ترتيبها وفي تناسق معانيها وتوافقها. (أهميّة البناء الشعري وتماسكه)

4 – إن شعر هذه الطريقة هو شعر المستقبل لأنه شعر الحياة والحقيقة والخيال جميعا ( مستقبل الشعر العربي لا يكون إلا بالتجديد الدائم كما الحياة)

5 – موافقة العصر في ما يقتضيه من جرأة على الألفاظ والتراكيب لا أخشى استخدامها على غير المألوف من الإستعارات والأساليب. ( الجرأة في استخدام ألفاظ وتراكيب تنتمي إلى العصر)

هذه النقاط التأسيسيّة لم تكن سوى نتيجة وعي أهميّة النقد وضرورة إرساء قواعد ثابتة له قدْر المستطاع، وهو وعي اختمر في رأس خليل مطران وهو يتشبّع من الرومانسيّة الفرنسيّة ويطّلع على الآراء التجديدية من خلال قراءاته لكتاب فرنسيين ومحاوراته مع مثقفين فرنكوفونيين امثال الشاعر جورج شحادة وغيره في كلّ من لبنان ومصر. 

أحمد شوقي

 

 ولم يحتفظ خليل مطران بأفكاره التجديديّة لنفسه، إنما كان يسعى إلى تعميمها في صفوف الشعراء البارزين، وفي مقدّمهم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم. كما أنه تحاور في موضوع التجديد الشعري مع عباس محمود العقاد ورفاقه في ” جماعة الديوان”، حيث كانت ” الصالونات الأدبيّة ” مسرحا خصبا لمثل هذه الحوارات في التجديد والنقد وأساليب الكتابة الجديدة. 

جورج شحادة

 

ينقل ميشال جحا في كتابه” خليل مطران باكورة التجديد في الشعر العربي الحديث” كلاما قاله مطران يشي بحرصه الدائم علىأن يعلن عن موقف نقدي واضح حتى عندما تكون المجاملات مسيطرة على أجواء الجلسة الأدبيّة. قال مطران: ” وذات يوم نظم شوقي قصيدة لا أظن أن أحدا يبرعه فيها من ناحية صياغتها، فقرّظها أديب بقوله إنها جمعت جميع المختارات الشعرية والمحسنات اللفظيّة في شعر العرب، فقلت إن هذا التقريظ هو النهاية في ما يُمدَح به الشعر ولكن بقي أنه ليس في القصيدة من جديد، وبقي أن نعلم أن مبلغ ما وصلنا إليه في شعرنا، وإن ضاهى أرقى شعر العرب، يظل شعرا صناعيا ويظل شعرهم رضاعيا(. . . ) فلا يمكن أن تقول في هذا الزمن شعرا صافيا مثل شعر أبي تمّام، وحتى عندما تأتي بمثله، فإنه لا يكون شعرك أنت”. 

ميشال جحا

 

المقياس الذهبي

 من هنا يتبدّى أن المقياس الذهبي في مفهوم خليل مطران النقدي هو التجديد. فكيف حاول مطران أن يصل إلى مثل هذا التجديد، هذا إن كان قد وصل إليه فعلا، كليّا أو جزئيّا؟

 الحقيقة أن مطران، ولظروف حفّت بها نشأته كما يقول، اعتمد تكتيكا خاصّا به للوصول إلى ما يعتبره تجديدا، وقد أطلقتُ على طريقته تلك صفة ” دبلوماسيّة التجديد”، لأنه لم يكن يريد إغضاب المحافظين وإثارة حفيظتهم على الشعر الجديد، مع حرصه الثابت على إدخال هذا الجديد في عقول الناس. ” قلت إن التجديد يجب أن يشمل الأساس، وكان أمامي صعوبات شتّى لبلوغ هذه الغاية ولكني اعتزمت اقتحامها في شيء من المداورة يساعد طبعي عليه. رأيتُ المداورة خيرا من المباشرة في تحريك شيء تركز جدّا في نفوس الناس وعقائدهم، فمصادمته لا تقنعهم وقد تصرفهم عن الشيء الجديد. أما إذا صدمته من جانب وتركته من جانب فقد تقنعهم ولا تنفّرهم”.

عباس محمود العقاد

 

 فما هي خطة” الإقتحام” هذه، وكيف يريد خليل مطران أن ينجح في المزاوجة بين دبلوماسية المداورة وتكتيك الإقتحام العسكري، لتحقيق النصر في معركة التجديد وإرساء مبادئ النقد؟

 رأى خليل مطران أن الطريقة الفضلى لتحقيق ما يبتغيه من تجديد تقوم على مبدأ ” المقايضة”،بمعنى أن يرتضي التخلي عن طموح مقابل الحصول على آخر، على أن يساعد الزمن على تحقيق ما يكون قد تخلى عنه. يقول: ” أحببت أن يبقى الشعر كما كان من ناحية البحور والروي والأساليب التي أحبّها الناس(. (paradiseweddingchapel.com) . . ) وأن أُدخل مقابل ذلك الوحدة على القصيدة بدلا من أن تكون قصيدة متناكرة بأجزائها، كلّ بيت منها لمعنى أو لغاية. قلت لنفسي سأتعب من ناحية الشكل وألتزم القيود المعروفة، أما من هذه الناحية فسأسير وسيساعد الزمن على تحقيق ما أبغيه”.

 

 من الواضح هنا تأثير المدرسة الرومانسية الفرنسية في موقف خليل مطران من مسألة وحدة القصيدة. لكن هل أن الإكتفاء بوحدة القصيدة يكون تجديدا ؟ يجيب مطران في سياق تأكيده أنه أجرأ من أحمد شوقي وحافظ ابراهيم على التجديد، فيقول: ” ليس قصدي بالتجديد أن نقنع بقليل من الألفاظ والعبارات، إنما أقصد بالتجديدأن يخلق الشاعر موضوعا من أولهلآخره ويصوغه ويصوّره ويفصله على النحو الذي وجدنا كل شعراء الغرب العبقريين قد نحوه في مولدات قرائحهم (. . . ) وهذا أمر لم يقدم عليه ولم يفكر فيه ( عندنا) أحد للآن”.

جبران خليل جبران

 

 هنا أيضا لا بد من العودة إلى التساؤل عن التداخل بين الشاعر والناقد في شخصيّة خليل مطران ، واستطرادا في شخصية كل أديب. والحقيقة أن مطران الشاعر لم يكن في مستوى مطران المبشّر بمبادئ تصلح لإرساء قواعد مدرسة نقديّة متماسكة. ومَنْ يقرأ قصائد ديوان الخليل بأجزائه الثلاثة يكتشفْ أن نسبة الشعريّ فيها أقل بكثير من نسبة النظم، من دون أن يعني ذلك التقليل من قيمة ما حاول مطران تقديمه من جديد على صعيد وحدة موضوع القصيدة وبنائها خصوصا، ما جعله يترك لنا” قصائد من أهم القصائد العربية في النصف الأول من القرن العشرين”، على حد قول أدونيس. 

أمين الريحاني

 

 لكن أهميّة خليل مطران الأكبر تكمن، على الأرجح، في وعيه العميق جوهر النقد والتأمل الدائم في الطرق التي من شأنها تطوير أدوات الشاعر بجرأة وإدراك يساعدان، من دون شك، على بلورة مبادئ واضحة تصلح للتأسيس عليها من أجل بناء مدرسة نقدية متكاملة قدر المستطاع. 

***

 

*كلمة د. جورج طراد في مؤتمر ” النقد العربي الحديث بين التنظير والتأسيس” (المعهد العالي للدكتوراة – الجامعة اللبنانيّة 12/ 12/ 2019) 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *