نظريّة العدالة كسلام

Views: 887

حسن عجمي

     تتنوّع نظريات العدالة وتتصارع. لكن لا تتحقق العدالة بأي من أنواعها أو بكافة أنواعها من دون وجود سلام. لذلك تكمن العدالة في السلام. وهذا أساس نظرية العدالة كسلام.

     من نظريات العدالة نظرية الفيلسوف أفلاطون التي مضمونها أنَّ العدالة هي الانسجام كالانسجام بين الطبقات الاجتماعية. يعتبر أفلاطون أنَّ العدالة كامنة في أن يقوم كل فرد بما هو مُؤهَّل للقيام به ما يحتِّم أن توجد ثلاث طبقات اجتماعية لا بدّ من وجود انسجام فيما بينها لكي تتحقق العدالة الحقة. الطبقة الأولى طبقة الحكّام الفلاسفة والطبقة الثانية طبقة المحاربين والطبقة الثالثة طبقة المُنتِجين كالمزارعين والعمّال. ولا توجد العدالة كانسجام، بالنسبة إلى المدينة الفاضلة لدى أفلاطون، سوى بأن يحكم الفلاسفة (بسبب امتلاكهم للمعرفة الحقة) وأن تأتمر طبقة المحاربين بأوامر وقوانين الفلاسفة الحكّام وأن تطيع طبقة المُنتِجين أوامر طبقة المحاربين فأوامر الملك الفيلسوف أو الملكة الفيلسوفة. 

     فقط من خلال هذا الانسجام بين هذه الطبقات المبني على طاعة الأقل معرفة لصاحب الأكثر معرفة توجد العدالة. في مدينة أفلاطون الفاضلة كل فرد يقوم بما هو مُهيَّأ للقيام به طبيعياً وتربوياً ما يؤدي إلى الانسجام الاجتماعي والعدالة معاً. فالمُهيَّأ للحكم (بسبب أنه  فيلسوف عالِم) يحكم والمُهيَّأ للعسكر يتعسكر بسبب قدرته على ذلك بينما المُهيَّأ للانتاج الزراعي أو الصناعي إلخ فيُنتِج ما هو قادر ومُهيَّأ لانتاجه ما يحتِّم وجود الانسجام بين هذه الطبقات من جراء أنَّ كل فرد يقوم بما يجيد القيام به على ضوء ما هو مُهيَّأ له بطبيعته وعلومه. 

     تطوّر مفهوم العدالة عبر التاريخ واتخذ مضامين متنوّعة كالعدالة المتمثلة في احترام الحريات بأنواعها كالحرية السلوكية والفكرية. مثل ذلك نظرية العدالة كحرية لدى الفيلسوف روبرت نوزيك الذي يصرّ على أنَّ العدالة كامنة في احترام حريات الأفراد وعدم التدخل في شؤونهم وأنَّ الضامن الوحيد لحريات الفرد هو عدم فرض إعادة توزيع الثروة في المجتمع ومحدودية السلطة الحاكمة وحق كل فرد بالتصرّف كما يشاء بما يملك وإلا خرقنا حق كل فرد في أن يكون حُرّاً في فعل ما يريد بنفسه وبما يمتلك. يعتبر نوزيك أنَّ فقط الحكومة الصغيرة والمحدودة الصلاحيات والمهتمة فقط بحماية المواطنين من ممارسة القوة والقمع والاحتيال والسرقة مُبرَّرة حقاً لكونها لا تخرق حقوق المواطنين كحقهم الأساسي في التصرّف بحرية مطلقة بلا اعتداء على الآخرين. وبذلك، من منظوره الفلسفي، توزيع الثروات هو توزيع عادل فقط متى تمّ بالتبادل الاقتصادي الحُرّ وإن أدى إلى اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية. هكذا، بالنسبة إلى نوزيك، الرأسمالية الخالية من أية قيود هي الكفيلة بتحقيق العدالة الحقة القائمة على احترام الحريات أولاً وأخيراً. 

     ثمة عدالة أخرى هي العدالة كإنصاف. يقول الفيلسوف جون رولز إنَّ العدالة تتكوّن من مبدأيْن هما أولاً المساواة في الحريات الأساسية وثانياً مبدأ أنَّ اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية مقبولة فقط إذا أدت إلى تحقيق النفع الأكبر للأقل حظاً في المجتمع بالإضافة إلى المساواة في الفُرَص. وهذا ما يسمّيه رولز بالعدالة كإنصاف. بالنسبة إليه، اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية غير مقبولة في حال أدت إلى عدم إفادة الأقل حظاً اجتماعياً واقتصادياً. وبذلك العدالة كإنصاف تسعى إلى إقلال درجة اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية ما يجعل هذه العدالة حقاً عدالة كإنصاف. مثل ذلك أنه في نموذج العدالة كإنصاف يجب أن تُبنَى المؤسسات على أساس إفادة الأقل حظاً وإلا أمست اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية مرفوضة. فحين تُبنَى المؤسسات لنفع الأقل حظاً تتقلص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية ما يحتِّم نشوء العدالة كإنصاف. وهذا نوع من أنواع الاشتراكية الممكنة.

     أما العدالة لدى الفيلسوف كارل ماركس فهي العدالة كمساواة بمعنى المساواة في الحقوق والواجبات والمساواة المتحققة من جراء القضاء على الحكم الطبقي. في الماركسية، فقط المجتمع الذي بلا طبقات هو المجتمع العادل. وبذلك لا تتحقق العدالة الحقة سوى بتأميم وسائل الانتاج والغاء الملكية الفردية. هذا لأنَّ أي حكم لأية طبقة اجتماعية يُسبِّب عدم المساواة بين الأفراد المنتمين إلى طبقات اجتماعية مختلفة ما يدلّ على أنَّ العدالة كمساواة لا توجد إلا بالقضاء على الطبقات الاجتماعية المتصارعة فسيادة المساواة الاقتصادية بين الجميع ما يحرِّر كل فرد من سلطة الرأسمالية وتناقضاتها. هكذا لا عدالة حقة بلا مجتمع شيوعي ودولة شيوعية خالية من الطبقية وحكم رؤوس الأموال. بالنسبة إلى الماركسية، المساواة الاقتصادية هي الأساس لكل أنواع المساواة الأخرى وبذلك هي أساس العدالة كمساواة. فمثلاً، من المستحيل وجود مساواة في الفُرَص بلا أن نبدأ بمساواة اقتصادية بين جميع الأفراد فبلا مساواة اقتصادية يمتاز فرد على آخر فتزول المساواة في الفُرَص.

     لكن لا تتحقق العدالة كانسجام من دون سلام. فالأوطان الخالية من السلام تعاني من عدم الانسجام فالحروب تدمِّر المجتمعات فتقضي على أي انسجام اجتماعي. كما أنَّ الشعوب الفاقدة للسلام فاقدة للحريات. في زمن الحروب يخسر الفرد حرياته وحقوقه من جراء أنَّ الحروب تقيِّد تصرّف الأفراد وتقتل آخرين. من هنا، من المستحيل تحقيق العدالة كحرية بلا وجود سلام أولاً. من المنطلق نفسه، من غير الممكن وجود العدالة كإنصاف مع وجود صراعات وحروب بما أنَّ الحرب تمنع احترام الحقوق الإنسانية بقتلها للمواطنين وتقييد حركتهم فتمنع توزيع الحقوق بتساوٍ وتقضي على إمكانية إفادة الأقل حظاً تماماً كما تلغي إفادة معظم أفراد المجتمع بسبب ما تنتج من دمار وقتل. بذلك لا توجد العدالة كإنصاف من دون وجود سلام.

     هذا ما يصدق أيضاً على العدالة كمساواة. في زمن الحرب تزول كل أنواع المساواة الممكنة بين الأفراد لأنَّ الحرب عبارة عن قاتل ومقتول ومُدمِّر ومُدمَّر ومنتصر ومنهزم ولذا تتصف الحروب بالضرورة بخرق المساواة بين البشر وخرق الحقوق الإنسانية كافة من جراء ما تنتج من دمار وانهيار اجتماعي واقتصادي وأخلاقي. من هنا أيضاً لا عدالة كمساواة بلا سلام. كل هذا يرينا أنَّ السلام هو أساس إمكانية تأسيس العدالة كانسجام وكحرية وكإنصاف وكمساواة. وبذلك تكمن العدالة الحقة في السلام لأنَّ السلام هو الطريق الوحيد لبناء العدالة بأنواعها كافة كالعدالة كانسجام وحرية وانصاف ومساواة. على هذا الأساس، العدالة الحقة ألا وهي العدالة كسلام تؤسِّس للعدالة كانسجام وحرية وانصاف ومساواة تماماً كما أنَّ  الانسجام والحرية والانصاف والمساواة تؤسِّس للسلام. إنسانٌ بلا سلام إنسانٌ بلا عدالة. وإنسانٌ بلا عدالة وسلام شبهُ إنسان.

     من الممكن التعبير عن نظرية العدالة كسلام من خلال معادلة رياضية فلسفية هي التالية: العدالة = السلام x الحرية x المساواة (أي العدالة تساوي السلام مضروباً رياضياً بالحرية المضروبة رياضياً بالمساواة). تمتلك هذه النظرية الرياضية في العدالة فضائل معرفية عديدة تدعم صدقها. من تلك الفضائل نجاحها في التعبير عن أنَّ العدالة مسألة درجات. فبما أنَّ العدالة = السلام x الحرية x المساواة، إذن متى ازداد السلام وازدادت الحرية والمساواة ازدادت العدالة، ومتى تناقص السلام وتناقصت الحرية والمساواة تناقصت العدالة. وبذلك العدالة مسألة درجات قد تزداد أو تتناقص. ومن فضائل معادلة العدالة أنها تُعبِّر عن المُكوِّنات الأساسية للعدالة ألا وهي السلام والحرية والمساواة. فلا عدالة بلا حرية ومساواة. ولا حرية ومساواة بلا سلام. 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *