نقد مقولات إيديولوجيّة عربيّة
د.كرم الحلو
إزاء الفوات الحضاريّ العربيّ وعجْز العرب عن مُواجَهة التحدّيات المُعاصِرة، الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة والمَعرفيّة، حفل الفكر الإيديولوجي العربي بمقولاتٍ تكرَّرت منذ القرن التاسع عشر، حتّى بَدت وكأنّها من المسلّمات التي لا يدانيها الشكّ لتكرار تداولها، واستعادتها كلّما فشل ذلك الفكر في تجاوُز مآزقه وأزماته. ما بات يتطلَّب قراءة نقديّة لهذه المقولات، قراءة يتكشَّف معها زيفها، وجفاؤها للواقع التاريخيّ والمشروعيّة العقلانيّة ، فضلاً عن أثرها السلبيّ على المشروع النهضويّ العربيّ.
لعلّ في مقدّمة هذه المقولات، مقولة التأصيل المُتداوَلة في فكرنا النهضوي، التي تمَّ استحضارها على نحوٍ لافِت في نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الحالي. تأسيساً على هذه المقولة، أرجعَ النهضويّون العرب حداثة الغرب إلى أصولٍ في الحضارة العربيّة، عليها تأسَّست ومنها انطلقت، ومضامينها وأهدافها وغاياتها واحدة، حتّى أنّهم ذهبوا إلى حدّ اعتبار العرب أساتذة الغربيّين. قال الطهطاوي : “إنّ الإفرنج يعترفون لنا بأنّنا كنّا أساتيذهم في سائر العلوم وبقدمنا عليهم”. ورأى خير الدّين التونسي أنّ “مُخالَطة الأوروبيّين للأمّة الإسلاميّة كان ابتداء التمدُّن عندهم”. وذهب محمّد عبده إلى أنّ أوروبا “لم تُحقِّق نهضتها ومدنيّتها إلّا بأخذها من مدنيّة الإسلام”.
وإذ تردَّدت مقولة التأصيل في فِكرنا المُعاصِر، أُقيمت صِلاتٌ إيديولوجيّة تبيِّن فكر الحداثة وقيَمها ومبادئها والفكر التراثي وقيَمه ومبادئه ومسلّماته، وتمّ القفز فوق هوّة هائلة بين الوعيَين التراثي والحداثي ومُنطلقاتهما المُتناقِضة في الجوهر والأساس. فرأى راشد الغنّوشي أنّ قيَم الحداثة ما هي إلّا “بضاعتنا ردَّت إلينا”. وزعمَ محمّد عابد الجابري أنّ الدولة في الإسلام قامت على أساس عقدٍ اجتماعي. وذهب بعض الباحثين إلى حدّ اعتبار الإسلام “أوّل مَن قرَّر المَبادئ الخاصّة بحقوق الإنسان”، وأنّ المُجتمع المدني له دلالاته في الإسلام، وأنّه من الخطأ افتراض تناقُضِ الإسلام مع الديمقراطيّة والمجتمع المدني. حتّى أنّ حسن حنفي ساوى بين الحريّة والتحرّر في التراثَين، الموروث والوافِد؛ الفكرة التي تبنّاها المشروع النهضوي العربي 2010، والتي تزعم أنّ حضارتنا العربيّة الإسلاميّة ” زوَّدتنا بالمبادئ عَينها التي قام عليها النظام الديمقراطي، وهي التي عبَّر عنها مفهوم الشورى الإسلامي في دلالاته القرآنيّة”، ما يُبرِّر في رأي الغنّوشي، رفْض عالَميّة الميثاق العالَمي لحقوق الإنسان باعتباره “عَوْلَمة مفروضة من قبل حضارة غربيّة سائدة”، وفي رأي محمّد عابد الجابري، الاحتكام إلى ابن رشد من موقعه كفقيه، في التعامل مع الحداثة بـ”وضْع قضاياها واحدة واحدة في ميزان الشرع”.
إلّا أنّ مقولة التأصيل، بقدر ما هي فائتة وخارج السياق التاريخي، هي مَوضع سجال في فكرنا المُعاصِر. فأبو يعرب المرزوقي رأى أنّ الرشديّة لم تعُد ذات دلالة بالنسبة إلينا، وما هي إلّا “تنغيص حياتنا من جديد بمشكلات جدودنا”. أمّا محمّد أركون فاعتبرَ أنّ ادّعاء الخطاب الإسلامي امتلاك قيَم الحداثة – الحريّة، التسامح، استقلاليّة الشخص البشري – قبل الحداثة الأوروبيّة، ما هو إلّا مُغالَطة تاريخيّة حقيقيّة وعمليّة تبجيليّة مَحضة.
يرجع هذا السجال في رأينا إلى أنّ التأصيل ما هو إلّا قفز فوق تاريخيّة مفاهيم الحداثة من خلال تأويلات افتراضيّة لا يُمكن أن تَردم الهوّة بين فضاءَين مُختلفَين مُتناقضَين بالكامل: فضاء أساسه “المؤمِن” وآخر أساسه الإنسان بكلّ ما يعنيه من مساواة مواطنيّة وحريّة. فليس بالإمكان إقحام مفاهيم المساواة والتعدّد والحريّة في الفضاء التراثي، كما ليس بالإمكان زجّ مفاهيم الشورى والعدل والحقّ في الفضاء الحداثي؛ إذ ثمّة اختلافٌ جذري جاءت به الحداثة طاول الإنسان ومَوقعه في الكون، والعقل وحريّته المُطلَقة، والنظام السياسي ومصدره وحدوده، والسلطة وعلاقتها بالمجتمع والفرد؛ ما أسَّس لتشكُّل مفاهيم “الفرد” و”العقد الاجتماعي” و”المجتمع المدني” المتناقضة كلّياً مع مفاهيم ما قبل الحداثة، مفاهيم الوصاية والرعاية والطّاعة والانقياد إلى الغَيب واللّامعقول.
مقولات إشكاليّة في فكرنا الإيديولوجي
من المقولات الإشكاليّة في فكرنا الإيديولوجي، مقولة “الدولة” وهي ليست أقلّ إشكالاً وتناقضاً وسِجالاً من مقولة التأصيل. فقد اقترنت بالتسلُّط والاستبداد في الفكر اللّيبرالي، وبالقطريّة والتجْزئة في الفكر القَومي، وبكونها عائقاً أساسيّاً أمام الأُمميّة، إنْ من وجهة ماركسيّة ترمي إلى إلغاء الدول والطبقات أو من وجهة إسلاميّة تتطلَّع إلى الأمّة الإسلاميّة بمعناها الكَوني.
في هذا السياق الإيديولوجي، رأى خلدون حسن النقيب أنّ الدولة القطريّة “مخلوق دخيل ليس له أُسس في التراث، وليست له مقوّمات ماديّة إثنيّة أو لغويّة أو حضاريّة، وإنّما جاء مرتبطاً بفعل قوى خارجيّة تمثَّلت بإدارات الانتداب والقوى الإمبرياليّة”. ولم يتردَّد بعض غلاة القوميّين في تتفيه دور الدولة واعتبارها مَصدر المُعاناة والشؤم، إذ إنّها خُلقت ووُجدت على حساب الأمّة. (www.qualityhotelgander.com)
هكذا كانت الدولة مَوضع ارتياب ومُساءلة باستمرار. والحقيقة التي لم تأبه لها هذه الأدلوجات كلّها، هي أنّ المجتمعات التاريخيّة لا تنشا إلّا في كنف الدول. فالدولة، كما يرى عبد الإله بلقزيز، ليست مُضافاً في تاريخ المجتمع، بل هي ماهيّته من دونها لا يكون مُجتمعاً، بل فضاءً لجماعات مُنفصلة عن بعضها. وهي، وفق محمّد جابر الأنصاري، الواقع التاريخي الوحيد القائم بفعل عوامل تاريخيّة وجغرافيّة وإثنيّة وثقافيّة، وليست نتيجة الاستعمار وسايكس – بيكو فقط. وإذا كان ثمّة أمل في قيام وحدة عربيّة، فإنّها لا يُمكن أن تقوم إلّا على أساس إرادات الدول القطريّة واحترام خصوصيّاتها التاريخيّة.
إنّ الدرس الذي لم تتعلّمه الحركات الإيديولوجيّة العربيّة حتّى الآن، هو أنّ التغيير بأشكاله كافّة، اللّيبراليّة أو الاشتراكيّة أو القوميّة أو الإسلاميّة، يجب أن يتمّ، ولا يُمكن أن يتمّ إلّا في بوتقة الدولة، ومن داخلها. فهي وحدها مقدّمة التغيير وحاضنته. أمّا العَبَث ببناها ومكوّناتها التاريخيّة، أيّاً يكُن هدفه، فلعبة خطرة لن تفضي إلى أيّ غرض إيديولوجي، بل هي جريمة جماعيّة بحقّ الأمّة والأوطان والشعوب، مآلها، مهما تكُن النيّات، تمزُّق العرب وتأجيل وحدتهم المنشودة.
ولعلّ مقولة العلمانيّة، هي المقولة الأكثر إشكالاً والتباساً في الفكر الإيديولوجي العربي الحديث والمُعاصِر، إنْ لجهة المعنى أو الأهداف أو النشأة أو المآل. فهل هي تعني فصل الدّين عن السياسة وتنزيهه عن أغراضها الدنيويّة كما قصد النهضويّون العرب، أو أنّها “الموقف الحرّ للروح أمام مشكلة المعرفة” وفق محمّد أركون؟ أو هي “نتوء شاذّ نظرَت إليه الأمّة دائماً باعتباره رمزاً للخيانة الحضاريّة؟” وفق محمّد عمارة أو هي “طرْح مزيّف يجب استبعاده من القاموس التداوُلي للفكر الغربي” على حدّ تعبير محمّد عابد الجابري؟ أو هي “فلسفة حلوليّة ماديّة لا تستبقي من الإنسان غير جملة من الغرائز” وفق راشد الغنّوشي؟
في سؤال الأولويّات
إلى جانب هذا الالتباس في إشكاليّة المعنى والأهداف، ثمّة التباس يُطاول إشكاليّة النشأة والتشكُّل. فليس ثمّة علاقة تلازميّة بين العلمانيّة والإلحاد كما تصوَّر عمارة والغنّوشي، ولا علاقة بينها وبين تطلُّع المسيحيّين الشوام إلى الاستقلال عن السلطنة العثمانيّة، كما رأى الجابري. فالعلمانيّون النهضويّون المسيحيّون الشوام باستثناء شبلي الشميّل، كانوا متديّنين، وكانوا باستثناء رزق الله حسّون وعبد الرّحمن الكواكبي عثمانيّي الولاء. فارس الشدياق وفرنسيس المرّاش ينتميان الى عائلتَين عريقتَين في التديُّن؛ وبطرس البستاني كان قسّيساً إنجيليّاً، وناصيف وإبراهيم اليازجي وأديب اسحق وفرح أنطون كانوا مؤمنين لا “علمويّين مُلحدين” كما تصوَّر المؤرِّخ علي محافظة. وجميعهم كانوا حريصين على الرابطة العثمانيّة، مدعومين من التنويريّين العثمانيّين، ولم يجدوا تناقضاً بين عثمانيّتهم وانتمائهم العربي، لأنّ الإمبراطوريّة العثمانيّة كانت متعدّدة القوميّات والشعوب.
أمّا المقولة التي أربكت الفكر العربي المُعاصِر وشكَّلت سؤالاً مركزيّاً من أسئلته التاريخيّة، فتبقى مقولة الأولويّات والقوى التي ستضطّلع بالتحوُّل والتغيير. فقد تنازَعت الفكرَ العربيَّ الحديثَ والمُعاصِرَ إيديولوجيّاتٌ مُتناقِضةٌ في تصوّرها للكون والمجتمع والإنسان، رهَنَ كلٌّ منها المستقبل العربي بالانطلاق من أولويّة مركزيّة باعتبارها أساس التحوُّل الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي. فرهَنَ اللّيبرالي العربي الإصلاح بالانتهال من ليبراليّة الغرب وقيَمه السياسيّة والاجتماعيّة، فيما أعطى الإصلاحي الإسلامي الأولويّة إلى التزام النَّهج القويم المركون في التراث العربي الإسلامي كمقدّمة للنهضة، فالأمّة العربيّة لن تتقدَّم اليوم إلّا بما تقدَّمت به سابقاً؛ وإذ أعطى الماركسي العربي الأولويّة للعامل الاقتصادي، باعتباره مناط الوحدة العربيّة والديمقراطيّة والاشتراكيّة وتحرير فلسطين، رأى الثقافوي العربي أنْ لا مناصّ من انقلاب في البنية الثقافيّة العربيّة يُمهِّد للتغيير الفعلي وإدخال العرب من جديد في التاريخ.
عليه، رأى محمّد عابد الجابري إلى إشكاليّة التخلّف العربي من أولويّة “نقد العقل العربي”، ومحمّد أركون من أولويّة “نقد العقل الإسلامي”، وأدونيس من أولويّة نقد الرؤية الدينيّة المؤسِّسة للجسم الاجتماعي العربي، وهاشم صالِح من أولويّة نقْد يقينيّات القرون الوسطى وتحرير الروح الداخلي الذي يجب أن يؤسِّس لكلّ أنواع التحرير الأخرى، الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة أو السياسيّة. أمّا القومي العربي فقد وضع على رأس أولويّاته، أولويّة الوحدة العربيّة، حيث ذهب ياسين الحافظ وإلياس مرقص إلى أنّ الوحدة العربيّة أولويّة مركزيّة للقضاء على الفوات التاريخي، والتأسيس لمجتمع عربي متقدِّم وقادر على الاضطّلاع بالتنمية والتحرير.
تستدعي مقولة الأولويّة هذه، مقولةَ الفئة أو الجماعة أو الطبقة التي أسندَ الفكر الإيديولوجي إليها مَهامّ التحوّل والتغيير. فهل هي “البروليتاريا” كما يذهب الماركسيّون؟ أو هي “الطليعة القوميّة” كما يرى القوميّون؟ أو إنّها “النخبة المثقّفة” كما يتصوَّر الثقافيّون؟
وهكذا بقي الفكر الإيديولوجي العربي أسير مقولاته التاريخيّة المُتوارثة، عاجزاً عن الخروج منها إلى فضاء الحداثة والإبداع والتطلُّع إلى المستقبل، وما ذلك في رأينا إلّا لأنّه تعاملَ مع الإشكاليّات الكبرى التي واجهته برؤية توفيقيّة تلفيقيّة غلّبت المنحى التعميمي الاجتزائي الماضوي على الرؤية التاريخيّة الإبداعيّة التي تتَّجه إلى التصدّي للأسس وتعرية الجذور.
***
(*) كاتِب ومؤرِّخ من لبنان
(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق