«ضَهر النَّحلَه»!

Views: 715

  مُورِيس وَدِيع النَجَّار

«إنَّكِ أنا أيَّتُها الأَرضُ…»   (جُبران خَلِيل جُبران)

أَطَلَّ الفَجرُ، وَلاحَت أَشبَاحُ الأَشجَارِ على التِّلالِ المُقَابِلَة لِمَنزِلِه. التَقَطَ عَصَاهُ مِن جانِبِ سَرِيرِهِ، وخَرَجَ، بِتُؤَدَةٍ، إِلى الشُّرفَةِ الأَثِيرَةِ لَدَيهِ، حامِلًا مِنظارًا جاءَتهُ بِهِ ابنَتُهُ المُهاجِرَةُ، أَوَّلَ البارِحَةِ، مِن إِمارَة دُبَيّ حَيثُ يَعمَلُ زَوجُها مُنذُ سَنَتَين. جَلَسَ على مَقعَدِهِ المُنهَكِ مِثلِهِ، وَصَوَّب عَدَسَتَهُ إِلى جُنَينَتِه، «ضَهْر النَّحلَه»، في أَعلَى تَلَّةٍ في الأُفْقِ أَمامَه.

وَإِذ راحَ يُنَقِّلُ مِنظارَهُ مِن زاوِيَةٍ إِلى زاوِيَةٍ، تَوَقَّفَ فَجأَةً، وأَمعَنَ النَّظَرَ، وتَنَهَّدَ وقال: ماذا أَرَى، يا أَلله؟ شَجَرَةُ الكَرَزِ تَبدُو عِيدانًا يَابِسَةً لا وَرَقَ عَلَيها. شَيءٌ لا يُعقَل. ما تُراهُ فَعَلَ، هذا العامِلُ المَلعُونُ الَّذي عَهِدَ إِلَيهِ يُوسُفُ بِالجُنَينَة؟ أَللهُ عَونَكَ، ما الَّذي حَصَل؟!

انتَظَرَ بِلَهفَةٍ، وفَارِغ صَبرٍ، حَتَّى سَمِعَ صَوتَ ابنِهِ يُوسُف وقد استَفاقَ كَعادَتِهِ بَاكِرًا، يَتَهَيَّأُ لِلذَّهابِ إِلى عَمَلِهِ، فَنَاداهُ ما وَسِعَت حَنجَرَتُهُ، فَخَرجَ قَلِقًا: ما لَكَ يا أَبِي؟

– أَلَم تَقُل لِي إِنَّكَ تَدَبَّرتَ لِلجُنَينَةِ عامِلًا يَعتَنِي بِها؟ فَمَا لِي لا أَرَى الأَشجارَ بِوُضُوحٍ، وشَجَرَةُ الكَرَزِ الكَبِيرَةُ، على كَتِفِ خَزَّانِ الماءِ، تَبدُو يابِسَة؟!

– لا يا أَبِي، إِنَّها بِخَيرٍ، فَلا تَحمِلْ هَمَّها، أَلَم تَأكُلْ مِن مَوسِمِها الفائِتِ أَلَذَّ الثَّمَر؟ وهذا المِنظارُ لا يُرِيكَ الأَشياءَ بِوُضُوحٍ مِن مَسافَةٍ قَصِيَّة.

وأَمسَكَ بِالمِنظارِ، مِن يَدِ أَبِيهِ، صَوَّبَهُ نَحوَ الجُنَينَةِ، تَظاهَرَ بِالتَّحدِيقِ الطَّوِيلِ، أَنزَلَهُ عن عَينَيهِ، ابتَسَمَ ابتِسامَةً رَقِيقَةً، وقال: إِنَّها بِخَيرٍ، فَأَنا أَراها جَيِّدًا لِأَنَّ نَظَرِي أَقوَى مِن نَظَرِكَ، وضَحِكَ وهو يَقُول: أَتَظُنُّ نَفسَكَ ما زِلتَ شابًّا؟! وقَبَّلَ رَأسَ والِدِهِ، وَفَتَلَ وجهَهُ عَنهُ، خَشيَةَ أَن يَذهَبَ، هذا، أَبعَدَ في تَساؤُلاتِهِ، وَوَلَجَ البَيت.

غَرِقَ الأَبُ في وُجُومِهِ، وتَغَضَّنَ جَبِينُهُ، وبَدَت أَمَاراتُ الهَمِّ على أَسارِيرِه. لَم يُقنِعْهُ كَلامُ ابنِهِ، وتَوَجَّسَ شَرًّا لا يَتَبَيَّنُ مَأْتاهُ، وغَرِقَ في افتِراضاتٍ وتَحلِيلاتٍ ما أَفضَت بِهِ إِلى يَقِين..

 

***

راحَ يُوسُف يَستَرجِع، في بالِه، كَيفَ دَرَجَ على شِراءِ ثِمارٍ مُشاكِلةٍ لِثِمارِ جُنَينَتِهِم، لِيُبعِدَ الشُّكُوكَ عن والِدِه. فَـ «ضَهْر النَّحلَه» يَبِسَت مُعظَمُ أَشجارِها بَعدَ أَن أَقعَدَ المَرَضُ والِدَهُ عَنِ العَمَلِ. فَما كانَ مِن يُوسُف إِلَّا أَن حَذَّرَهُ، بِناءً لِنَصِيحَةِ الطَّبيبِ، مِنَ الصُّعُودِ إِلَى أَرضِهِ، فَالتَّغَيُّرُ في الضَّغْطِ الجَوِّيُّ بَالِغُ الخَطَرِ عَلَيه. فَعَلَ هذا على مَضَضٍ، فَما مِن أَحَدٍ سَيَعتَنِي بِالأَرضِ وَأَخُوهُ مُسافِرٌ، وهو الوَحِيدُ الحاضِرُ، تَأخُذُهُ وَظِيفَتُهُ في مَعْمَعانِهَا، وهو، أَصْلًا، غَيرُ مُتَعَلِّقٍ بِالأَرضِ ومَشاكِلِها. ومُنذُئِذٍ، راحَ يُخَفِّفُ مِن هَوَاجِسِ أَبِيهِ حَيثُ أَخبَرَهُ أَنَّهُ يُكَلِّفُ عامِلًا يَقُومُ بِكُلِّ ما تَحتاجُهُ مِن حِراثَةٍ وتَنقِيَةٍ وأَسمِدَةٍ وغَيرِها، في الأَوقاتِ المُناسِبَة. ولم يَكُن هذا واقِعًا إِذ إِنَّهُ يَتَطَلَّبُ مالًا يَفُوقُ قِيمَةَ الجَنَى المُنتَظَرِ مِن «ضَهْر النَّحلَه».

وَكَي لا يُرهِقَهُ تَبكِيتُ الضَّمِيرِ، فَقَد كانَ، مِن وَقتٍ لآخرَ، يَطلُبُ مِن جَارِه «جُرجِي»، المُزارِعِ النَّشِط – الَّذي يَعتاشُ مِن الخَدَماتِ الزِّراعِيَّةِ يُقَدِّمُها، لِقاءَ أَجْرٍ، لِأَبناءِ بَلدَتِهِ – أَن يَقُومَ بِفِلاحَتِها، وتَنقِيَةِ أَغصانِها، وَمَدِّها بِالأَسمِدَةِ الضَّرُورِيَّة.

وَلَم يَكُن هذا كافِيًا لِتَبقَى الأَشجارُ على صِحَّتِها ونَضارَتِها، فَبَدَأَت بِالذُّبُولِ سَرِيعًا، وتَفَشَّت فِيها الحَشَراتُ المُمِيتَة. ولكِنَّهُ كان يُعَلِّلُ أَباهُ بِآمالٍ واهِيَةٍ، ويُصَوِّرُ لَهُ أَرضَهُ في أَحلَى حالاتِها، لِأَنَّهُ يَعلَمُ أَنَّ حَياةَ أَبِيهِ مُلتَصِقَةٌ بِحَياةِ أَرضِه.

 

سَكَتَ الوالِدُ على مَضَضٍ، مِن دُونِ أَن يُقنِعَهُ كَلامُ ابنِه. وأَغمَضَ عَينَيهِ ورَاحَ يَتَذَكَّرُ كَيفَ كانَ يَقضِي أَيَّامَهُ على تُرَابِها، يُقَلِّبُهُ في وَجه الشَّمسِ، وبَينَ أَغصانِها يُشَذِّبُ اليَبِيسَ، ويَتَلَمَّسُ الأَفنانَ بِحُنُوِّ أُمٍّ على طِفلِها. وكَيفَ كان، في المَواسِمِ، الَّتِي كانت في مُعظَمِها عامِرَةً، يُغدِقُ العَطايا على جِيرانِهِ مِمَّن لا يَملِكُونَ أَراضِيَ مُثمِرة. أَفَما كان الكُلُّ يَقُولُونَ إنَّه قَيدُومُ الشَّبابِ، الكَرِيمُ اليَدِ، لا يَخذُلُ طالِبًا، ولا يَنكَفِئُ أَمامَ جُلَّى.

أَلله… مَرَّت أَربَعُ سَنَواتٍ على ابتِعَادِي عَنكِ يا «ضَهْر النَّحلَه»، تَأكُلِينَ مَعِي في صَحنِي، وتَضطَجِعِينَ إِلى جانِبِي، ولا تَحلُو اللَّيالِي إِلاَّ مع صُوَرِكِ، وَهانِي أَعِيشُ مَعَكِ في ذاكِرَتِي كُلَّ دَقِيقةٍ مِن يَومِي.

ما تُرَى حَلَّ بِالكُوخِ في زَاوِيَتِكِ؟! أَما تَسَلَّلَتِ المِياهُ مِن شُقُوقِهِ، وتَصَدَّعَت جُدرانُهُ، ونَبَتَت فِيها الأَعشابُ والأَشواك؟!

وَ «عَرِيشَةُ» السَّطْحِ، هل ما زالَت على سَخائِها، أَم يَبِسَت أَغصانُها فَكَفَّت عَن العَطاء؟! أَلله على الحَلاوَةِ المُسكِرَةِ في عَناقِيدِها، وخُصُوصًا في الصَّباحاتِ قَبلَ أَن تَرتَمِيَ عَلَيها شُعُاعاتُ الشَّمس!

والتِّينَةُ، حِذَاءَ الحائِطِ السُّفلِيِّ، ما كان أَشهَى ثِمارَها وقد غَمَرَها نَدَى الفَجرِ البَارِد…

والتُفَّاحُ، في مَواسِمِ الخَيرِ، يَتَدَافَعُ التُّجَّارُ لِشِرائِهِ، لِسَلامَتِهِ وَرِيِّهِ وأَلوانِهِ النَّضِرَة، ما هِي حالُهُ بَعدَ عُكُوفِي في المَنزِل؟!

يَذكُرُ أَبُو يُوسُف والِدَهُ يَومَ استَحضَرَهُ مع إِخوَتِهِ، إِذ أَحَسَّ بِدُنُوِّ أَجَلِهِ، فَقَسَمَ رِزقَهُ بَينَهُم، فَكانَت «ضَهْر النَّحلَه» مِن نَصِيبِه.

كانت صَعِيدًا خَالِيًا إِلَّا مِن بَعضِ شُجَيراتِ التِّينِ البَرِّيِّ الهَزِيلَةِ، وجَفَناتٍ فَتِيَّةٍ مِن العِنَبِ، وبَعضِ أَغراسِ التُّفَّاح الَّتي ما بَدَأَت تُؤْتِي أُكُلَها بَعْدُ. وكان والِدُهُ يَزرَعُها حُبُوبًا مِن حِمِّصٍ وقَمحٍ وشَعِيرٍ وكِرْسِنَّةٍ، وزِراعاتٍ صَيفِيَّةٍ مِن بَنَدُورَةٍ وَقُثَّاءٍ وغيرِها. وَمُذ أَصبَحَت في عُهدَتِهِ هُوَ سَلَخَ لها أَيَّامَهُ، فَجَعَلَها جَنَّةً في الأَرض. فَهَل عِندَ أَحَدٍ مِن أَبناءِ بَلدَتِهِ ما عِندَهُ مِنَ التِّينِ الَّذي يَقطُرُ عَسَلًا، مِن أَسوَدَ وَأَحمَرَ وأَبيضَ، ومِنَ العِنَبِ الحَلوَانِيِّ «المُطَرطَشِ» تَخَاوَى في لَونِه البَياضُ والحَمارُ، والعِنَبِ البَيْتُونِيِّ الأَسوَدِ الَّذي يَتَحَلَّبُ الرِّيْقُ لِرُؤْيَتِهِ، والشَّامِيِّ الشَّهِيِّ، لا يُقاوَمُ طَعمُهُ، والدُّرْبُلِيِّ المُكتَنِزِ ذِي القِشرَةِ الرَّقِيقَةِ، المُفَضَّلِ لاستِخرَاجِ الزَّبِيبِ، فَاكِهَةِ القُرَى فِي لَيَالِي الثَّلجِ والرِّيحِ والمَواقِدِ العامِرَة. دَعْكَ مِنَ الحِيفاوِيِّ العَسَلِ، الَّذِي يَدعُوهُ بَعْضٌ المَغْدُوشِيَّ، والَّذِي كانَت «عَرِيشَتُهُ» تُتَوِّجُ الجَلَّ الأَعلَى بِعَناقِيدِهَا، أَثداءِ الخَيرِ واللَّذَّةِ، والجَمال.

تَنَهَّدَ عَمِيقًا، وحَكَّ صُدْغَهُ، وتَمتَمَ لِنَفسِه: وشَجَراتُ الإِجَّاصِ، تُراها ما زالَت نَضِرَةً، وهَلِ العامِلُ المُكَلَّفُ يَعتَنِي بِها كِفايَةً، وَهيَ السَّرِيعَةُ العَطَب؟!

وَأَخَذَتهُ غَفْوَةٌ قَصِيرَةٌ سَرِيعَةٌ، مَعَ ذِكرَياتِه العِذابِ، استَفاقَ مِنها على لَكْزَةٍ مِن زَوجَتِهِ، تُنادِيه: قُمْ يا بُو يُوسُف إِلى إِفطارِكَ، فَعَلَيكَ تَناوُلُ الأَدوِيَة.

وتَهالَكَ على نَفسِهِ، ومَشَى ثَقِيلًا كَأَنَّ على مَنكِبَيهِ أَحمَالُ العَالم…

 

***

أَلمَنزِلُ كَخَلِيَّةِ النَّحل. أُمُّ يُوسُفَ مُنهَمِكَةٌ بِلِباسِها، وابنَتُهُ المُتَزَوِّجَةُ، الآتِيَةُ مِن مُغتَرَبِها لِقضاءِ بَعضِ الصَّيفِ عِندَ أَهلِيها، تُشارِك أُمَّها في تَدابِيرِها، وابنُهُ يَدخُلُ وَيَخرُجُ مُنهَمِكًا، فَالعائِلةُ سَتَنزِلُ إِلى المَدينَةِ القَرِيبَةِ، فقد تُوُفِّيَ قَرِيبُهُم «بُو نَجِيب»، وَعَلَيهِم أَن يُكُونُوا إِلى جانِبِ عائِلَتِهِ، فَهُم مِن الأَهلِ المُقَرَّبِين.

اعتَمَلَت في خاطِرِ «بُو يُوسُف» فِكرَةٌ مَلَكَت عَلَيهِ إِدراكَهُ، فَباتَ أَسِيرَها، يَنتَظِرُ أَن تَنطَلِقَ عائِلَتُهُ إِلى المَدِينَةِ لِيَبقَى وَحِيدًا في البَيتِ، فَيَمضِي، حِينَئِذٍ، في خُطَّتِهِ الَّتي رَسَمَها بِعِنايَة.

هَا هُوَ مُنفَرِدٌ في المَنزِل، مُزَوَّدٌ بِنَصائِحِ الجَمِيع: مَأكَلُكَ حاضِرٌ في المَطبَخِ. لا تَنْسَ أَن تَتَناوَلَ أَدوِيَتَكَ في حِينِها. لا تُكثِرِ الحَراكَ دُخُولًا وخُرُوجًا لِئَلَّا تَتَعَثَّرَ. إذا احتَجتَ شَيئًا فَادْعُ جِيرانَنا «بَيت مَخُّول» مِن النَّافِذَةِ. وَوَوَ… وَهوَ صامِتٌ كَجَبَلٍ، مُتَفَكِّرٌ، ساهِمُ الوَجهِ، كَأَنَّ مُعضِلاتِ الدُّنيا احتَشَدَت في رَأسِه.

انتَصَبَ، وعَيناهُ الذَّابِلَتانِ بَرَقَتا بِلَمَعانٍ غَرِيبٍ، وَدَخَلَ الغُرفَةَ الخَلفِيَّةَ، فَفَتَحَ نَافِذَتَها ونَادَى جارَهُ جُرجِي مِرارًا، فَأَطَلَّ هذا وقال: خَيْرٌ يا بُو يُوسُف؟ هَل تَشكُو شَيئًا؟ فَأَجَابَه: لا يا بُنَيَّ. فَقَط أُرِيدُكَ أَن تَأتِيَ إِلَيَّ قَلِيلًا، إِذا أَمكَنَك. فَقالَ جُرجِي: أَنا رَهْنُ أَوامِرِكَ يا عَمُّ. دَقائِقُ وأُوَافِيك.

 

انتَظَرَ بُو يُوسُف، حَتَّى خالَ الدَّقائِقَ دَهرًا. وَهَا جَارُهُ قد دَخَلَ، وَجَلَسَ بِقُربِه.

– قُلْ لِي يَا عَمُّ، ما الأَمر؟

– أُرِيدُ مِنكَ خِدمَةًّ لَن أَنساها. أَرغَبُ إِلَيكَ أَن تُقِلَّنِي بِجَرَّارِكَ الزِّرَاعِيِّ إِلى «ضَهْرِ النَّحلَه»، وَلَن أُطِيلَ المُكُوثَ هُناك.

– حَاضِرٌ يَا عَمُّ، وَلَكِن أَلَيسَ هذا صَعبًا عَلَيك، وَثَقِيلًا على صِحَّتِك، فَالجَرَّارُ مُنهِكٌ، يُخَلِّعُ المَفَاصِل؟

– لا تَهتَمَّ لِهَذا، يَا بُنَيَّ، فَأَنا أَقوَى مِمَّا تَظُنّ.

– لا رَيبَ في الأَمرِ، فَأَنتَ كُنتَ، وَلَمَّا تَزَل، شَيْخَ شَبابِ الضَّيعَة. ولكنْ… لِلسِّنِّ حُكْمٌ، وأَنتَ، كَما أَعلَمُ، مَحظُورٌ عَلَيكَ كُلُّ ما يَتَسَبَّبُ بِارتِفاعِ ضَغْطِ الدَّم.

– لا تَخشَ العاقِبَةَ يا جارَنا، فَالأَمرُ سَيَكُونُ على ما يُرام.

– لكنْ…

وقاطَعَهُ «بُو يُوسُف» بِحِدَّة: كما تُرِيدُ. سَأَذهَبُ بِنَفسِي إِلى الحَيِّ الغَربِيِّ، وسَأَطلُبُ مِن «بُو صالِح» أَن يُقِلَّنِي، فَلَن يَخذُلَ عَنِّي.

عِندَها قالَ «جُرْجِي»، مع تَنهِيدَةٍ مِلؤُهَا الأَسَف: كَما تُرِيدُ يا عَمُّ، وأَمرِيَ على الله.

وَصَلا، في الطَّرِيقِ الزِّراعِيَّةِ، إِلى مُحاذاةِ جُنَينَةِ «بُو يُوسُف»، فَتَرَجَّلَ «جُرجِي»، واقتَرَبَ مِن جارِه، فَساعَدَهُ على النُّزُولِ، وقَال: أَأَدخُلُ مَعَكَ، وَأُسَاعِدُك؟ فَأَجابَه العَجُوز: لا يا بُنَيَّ، أَرجُوك، لا حاجَةَ عِندِي لِهذا، أَطالَ اللهُ عُمرَكَ، وأَبقَى والِدَيكَ الكَرِيمَينِ بِصِحَّةٍ جَيِّدَة. إِنِّي أُرِيد أَن أَدخُلَ وَحدِي، فَهَلَّا انتَظَرتَنِي قَلِيلًا. فَأَجَابَه: سَأُتَابِعُ مَسِيرِي إِلى أَرضِنَا، فَعَلَيَّ أَن أَقضِيَ شَيئًا هُناكَ، ثُمَّ أَعُودُ فَأُوَافِيكَ بَعدَ قَلِيل.

دَخَلَ الرَّجُلُ المُتعَبُ إِلى أَرضِهِ، مُتَوَكِّئًا على عَصاهُ، وقَلبُهُ يَخفِقُ كَعُصفُورٍ فِي فَخّ.

كانَ هَفِيفُ الهَواءِ، في ما تَبَقَّى مِن أَشجارِهِ الذَّاوياتِ، يَختَرِقُ فُؤَادَهُ كَالسِّهام. وَراحَ يُقَلِّبُ نَاظِرَيهِ حَوالَيهِ، لا يُصَدِّقُ ما يَرَى.

أَهذِهِ «ضَهْر النَّحلَه»؟!

يَبِسَت مُعظَمُ أَشجارِها، وَعَلا في أَرجائِها العُشبُ البَرِّيُّ الدَّخِيل!

تَقَدَّمَ، مُتَهالِكًا، في اتِّجاهِ الكُوخِ، وهو يَتَلَفَّتُ إِلى كُلِّ ناحِيَةٍ، فَيُحِسُّ بِنارٍ مُضطَرِمَةٍ في رَأسِهِ، وَنَشِيجٍ يُوشِكُ أَن يَجتاحَه.

وَصَلَ، بَعدَ لَأْيٍ، وكَأَنَّهُ اجتازَ جِبَالًا وأَودِيَةً، فَوجَدَ البابَ مُقفَلًا، فَاستَدارَ خَلفَ الكُوخِ فَوجَدَ التِّينَةَ يَابِسةً، فَارتَمَى على الأَرضِ، مُسنِدًا ظَهرَهُ إِلى حائِطٍ نَبَتَت في شُقُوقِهِ مُعَرَّشاتٌ وَأَشوَاكٌ، وَنَظَرَ إِلى شَجَرَةِ الكَرَزِ الكَبِيرَةِ، أَمِيرَةِ الـ «ضَّهْرِ»، فَإِذا هي أَحطابٌ شاخِصَةٌ إِلى الفَضاءِ، فَأَحَسَّ بِثِقَلٍ في صَدرِهِ وَأَلَمٍ مُبَرِّحٍ، وَشَعَرَ بِأَنَّهُ سَيَختَنِقُ، وأَنَّ ضَغْطًا يَكادُ يَقُضُّ أَضلاعَهُ، وفاجَأَهُ غَثَيانٌ حادٌّ، فَنَزَلَت مِن عَينَيهِ دَمعَتانِ، وشَهَقَ عَمِيقًا، وَأَسلَمَ الرُّوح!

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *