حين يبلغ الصمت الكلام… خريف يُشتي الغيابات 

Views: 765

نعيم تلحوق

   منذ سنوات قليلة هرب مني أصدقاء كثيرون ، منهم من تعثرّ بحركة الموت ، ومنهم من تهرّب من حركة الحياة ، ومنهم من غادر يستظلُّ حركة الوجود بحثاً عن روحه ، والبعض رحل يرتجي معناه ، كل عام أفقد أحداً أكبر من الموت وأبهى من الحرية…

    بعض هؤلاء الأصدقاء اختار الرحيل بصمت ، رغم أنهم كانوا أكثر من ضوء، وأبعد من حلم ، أختاروا نزفاً صامتاً لا يحدّه حدّ ، ولا تجرحه ورقة توت … الغياب بصمت هو أجمل الغيابات ، يجعلني أحيا لحظة الحركة كما لو أنهم يعيشون ضمن دائرة الظن ، أنهم لمّا غابوا بعد… 

هؤلاء هم ، أنطوان غريب ، نسيب الشامي،  جبران عريجي، محمود غزالي، شوقي الرياشي، علي حجيج ، صحافيون ومفكرون، كانوا في حركة الحياة ، حركة النهضة، حركة الفكر، حركة الارادة ، حركة الكلمة الحرة ، المسؤولة والملتزمة في آن .. لم أتمكن من مجاراة رحيلهم فكنت أخشع بصمت ، دون أن أقول كلمتي فيهم ، ولأن أحداً منهم لم يستطع  أن يمنع اشارة المعنى من المرور، فذهبوا الى صمتهم كي يستنبطوا المعنى من قلب الغياب…

أنا لا أدرس وظيفة المعنى من غيابهم ، بل من حضورهم : 

أنطوان غريّب ، صاحب الكلمة الفريدة المرسومة بالبسمة …

نسيب الشامي ، صاحب الارادة الفولادية المغمورة بالعناق …

جبران عريجي ، صاحب التحديات الاستثنائية والثقافة العالية…

محمود غزالي ، صاحب اللمعة الساحرة والمثل العليا…

شوقي الرياشي ، صاحب الفكاهة الصادمة والفكرة العنيدة…

علي حجيج ، صاحب البسمة الدائمة والقلب الطهور ، 

  جميعهم أصحاب المعنى ، وآخرون أسماؤهم حرَّى في داخلي ، أشتاهم الخريف غيابات ، فتضلّعت صدورنا ، وحاكها سرير بارد يتقن لعبة الظلام…

انطوان غريّب

     

 عرفت أنطوان غريب ، النظيف الكف ، المؤمن بالكلمة السلسة الموزونة ، منذ العام 1980 في جريدة ” الشرق” ، الى اللحظة الآسرة في مجلة ” فكر” … لم يصغِ الا لصوت ضميره وحسّه الوطني …فكان أن رحل بلا بيت…

 نسيب الشامي

 

       نسيب الشامي الراقص في أحضان الصراع الفكري في الأدب ، كتب كلمته الصارمة في الغربة ، وعاد ليبني بيته بكلمة حية مؤمنة بصحة العقيدة ، في قلبه غصّة الفكر ، مدركاً أن الكلمة في محنة كبيرة ، رحل وترك زوجة صابرة لثلاثة أولاد يتابعون المسيرة …

جبران عريجي

 

جبران عريجي ، الذي امتشق حريته صراعاً ، فجاءت كلمته مقنعة ولو كانت بغير قناعة الآخرين ، فكان ديكتاتوراً جميلاً لكلمة نبيلة تؤمن بحق الصراع وحق التقدم … رحل دون سؤال الأحبّة عن جواب ليقينه …

محمود غزالة

 

محمود غزالي ، صاحب المانشيت الأبهى ، استمر وجدانه القومي وكلمته القابضة على الجرح صورة حيّة تلازم كل الشرفاء والأحرار بدءاً من “النهار” و” صباح الخير ” الى ” البناء ” حتى قال لي يوماً : تذّكر يا نعيم سيصبح لبنان كلّه شارع مونو ، ” المتنبي ” سابقاً …رحل وفي حافظة أقلامه حبراً لم يصل الى الورق …

شوقي الرياشي

 

شوقي الرياشي ، بقي مصرّاً على موقفه في الصحافة والفكر على حلم تركيا القديم ، وبأن الحياة لا تصنع أحياءً ، كنا نشترك في صرف هارموناتنا الفلسفية على النزوع الشبقي عند الطبقة العاملة ، وفصلنا في المفاهيم بين العامل والكادح للوصول الى البرجوازية الصغيرة ، رحل دون ان يبني بيتاً لصراعه … 

شوقي الرياشي

 

علي حجيج ، الرجل المكافح الصبور ، الذي غرس روحه في الصحافة برقّة قلَّ نظيرها ، حمل “شعلة” الكلمة بنبض الشاعر،  واستلهم احساسه من جمهورية أفلاطون السحرية ، فلم يكن له لدوداً في مهنة المتاعب ، كان يصبرعلى المأساة ، حتى جعلني أدرك أن أهم علامة من علامات الذكاء الصبر … رحل علي في بلدته الجنوبية “بريقع” بهدوء صمته على الوجع والألم والإنكسار وهو لم يزل قادراً على الإبتسام … 

      جميعهم غابوا، أوقعهم “العضال” في براثنه، وبقيت أجسادهم ملحاً يعارك التراب ، وأرواحهم ماءً تصارع الريح ، فأشتوا علينا في خريف الحياة ، معمودية الغضب ، وصرت بِحَيرة نفسي ، على ماذا يفعل المعنى حين يشتاقهم ، ويصير القلب صنَّارة عشق يخشى السقوط في فخ الزمن أو النزوع الى الغياب…

   من هؤلاء تعلّمت دروساً كتيرة، أفضت الى معانٍ ترسم صورة الغرض من وجودنا، وعرفت كيف على الواحد مناّ أن يُحب ويكون لديه قضية تساوي وجوده في العالم، وفهمت لماذا لا يستطيع واحدنا إنكار حياته من أجل موته ، ولماذا علينا أن ندرك حقيقة أننا استثنائيون بلا رفَّة جفن …

   وانا ماذا أفعل بهذا “العضال” النائم بخفة بين الحنايا ، ينتقل خلسة ليسألني ماذا ستفعل في رحلة العمر … أيها الاستثنائي العربيد؟؟ 

    قد أغيّر الجواب وأمضي – باحثاً عن هؤلاء-  دون أن ألتقيهم فأنا راكض نحو المعنى دون أن أصل إليه ، كما فعل أصدقائي ورفقائي في الردهة المعتمة…ولن أرضى غريماً لي أقل من الزمن ، لن أتمكن من ايقاف هذا السفّاح العنيد ، لكني سأغرس في جوفه بصمة الإبداع …

    قد أتعثر في الخطوات دون رسم ملامحها، لكني سأمضي من جديد دون أن أصل إليهم…

 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *