محمود درويش … وحكاية قصيدة بلا عنوان

Views: 14

جان سالمه

هذهِ الكلمة من كِتابي “أنا والكتب” الذي صدرَ عام ١٩٩٨ ونفَدَت نسخُهُ، هيَ جزء من مقالتي عن الشاعرِ جورج غانم الذي كان مُعجباً بمحمود درويش كلّ الإعجابِ، حتَّى إنَّه أدرجَ في صفحاتِ كتابهِ “شعراء وآراء” إِحدى قصائده. أَمّا مقالتي كَكُل فلم يَسبق لها أن نُشِرت لا في صحيفةٍ ولا في مجلَّةٍ لسببٍ بسيطٍ هو ان صفحاتِها تتعدّى الخمسة والثلاثين صفحة.

وهأنذا أضع القصيدةَ بينَ يديّ القرّاء لأقول مع كلِّ الذين عرفوا محمود درويش فاحبّوهُ، إِن هذا الشاعر الذي افتقدناهُ بالامسِ، هوَ حقّاً من النوابغِ الكبارِ.

* * *

وإِليكم ما جاءَ في كلمتي:

الناقدُ ينتقدُ الكتابَ أو القصيدةَ وهدفه دائماً – شِئْنَا أم أَبيْنا – أن يلفتَ نظرَكَ إلى هذا العمل أو ذاكَ، أن يجعلَكَ تحبُّهُ أو تكرهُهُ فتقرأُهُ. وبعدَ ذلكَ لا تهمُّ الوسيلةُ التي استخدَمَهَا للوصولِ إلى الهدفِ المقصودِ…

أيّاً كانَ الأمرُ، فأمامَ الناقدِ منعطفاتٌ ثلاث:

أوّلُها أن يعجبَهُ العملُ، فيُطْريَ مواهبَ مؤلفِهِ، ويعلنَ عن جدارتِهِ، ويعبِّرَ عن مشاعرِ الإعجابِ، فيرقَى بهِ إلى السماواتِ!

ثانيها أن لا يعجبَهُ العملُ، لسببٍ منَ الأسبابِ، فيقسو على صاحبِهِ، ولا يتجاوزَ هفوةً، ولا يسترَ سقطةً، بل يضخِّمَها ويدهورَهُ إلى هاويةٍ لا قرارَ لها. حتى ليبيتَ القارئُ أحياناً وقدْ حثَّهُ الفضولُ للإطِّلاعِ على ذلكَ الكتابِ. فينقلبُ النقدُ والإنتقادُ على صاحبِهِمَا لسوءِ حظِّهِ وسوءِ حظِّ الجمهورِ.

أمَّا الخيارُ الثالثُ فهوَ بيْنَ بيْنَ، كأنْ يُثنيَ على ما هوَ حسنٌ، ولا يوفِّرَ من لذَعاتِهِ ما يسوءُ في عينيهِ.

فإذا النقدُ الرائعُ تذوُّقٌ بميْلٍ إلى النصِّ تارةً و بميْلٍ عنهُ طَوْراً، مما لا ينفي الموضوعيّة ويسهمُ في توجيهِ جمهورِ القراءِ وإرهافِ ذوقِهِمِ الأدبيِّ. إذْ وإنْ كُتِبَ عن المؤَلِّفِ، فقد كُتِب لجمهورِ القرّاءِ كذلكَ.

فإذا أخذْنَا هذا القولَ مِقْياساً لكتابِ “شعراء وآراء”، وجدْنا أنَّ صاحبَهُ جورج غانم حبَّبَ إلينا الكتبَ التي قرأَهَا وأحبَّها، كما أحبَّ مؤلِّفيها. ومنْ بينِ هولاءِ محمود درويش الذي أثبتَ نماذجَ ناطقةً من شعرِهِ. ولقدْ أعجبتْنِي جداً تلكَ القصيدةُ – التي لا يقولُ لنا غانم ما هو عنوانُها – لأنها قصيدةٌ جميلةٌ، بلْ هيَ بديعةٌ حقاً وتودُّ لو تقرأَهَا عشرات المرَّات.

وهذا هوَ الشعرُ الملهَمُ الذي يشدُّكَ إليهِ شدّاً كالمغناطيسِ. ألاَ أسمعْهُ يقولُ:

“في البالِ أُغْنِيةٌ / يا أخت، لم تلدِ / َامِي لأَكتبَهَا… / رأيتُ جسمَكِ محمولاً على الزَرَدِ /  وكانَ يرشحُ ألواناً / فقلتُ لهمْ: / جسمي هناكَ، فسدُّوا ساحةَ البلدِ. / كنَّا صغيرَيْنِ، والأشجارُ عاليةٌ / وكنتِ أجملَ مِنْ أُمِّي / ومنْ بلَدِي… / منْ أَينَ جاؤوا؟ / وكَرْم اللوزِ سيَّجَهُ / أهْلِي وأهلُكِ بالأشواكِ والكَبِدِ / إنَّا نفكِّرُ بالدُّنيا – على عَجَلٍ – /  فلا نرَى أَحداً / يبكِي علَى أَحدِ / وكانَ جسمُكِ مسبيّاً / وكانَ فميْ / يلهوْ بقطرَةِ شهدٍ / فوقَ وَحْلِ يَدِي! / في البالِ أُغْنِيَةٌ/ يا أخت، لم تلدِ / نَامِي لأحفُرَهَا / وشْماً على جَسَدِي…”

* * *

والحقُّ يُقالُ إنَّ هذهِ القصيدةَ تستهويكَ بإيقاعِها البديعِ، وكلماتها المُعبِّرة. ولقَد أَحسستُ بعذوبةِ ترنُّحِ الخصورِ منْ مُوسيقاهَا وتغلغُلِ إيحاءاتِهَا إلى أعماقِ ماضيَّ وأرْجاءِ حاضرِي. 

وأَنا لذلكَ أُفضِّلُها على أَلفِ قصيدةٍ وقصيدة، وخاصةً إِن افتقدتْ الحسَّ المُرهَفَ، والشعورَ المُتدفِّقَ. ولا عَجَب، فَوراء هذه القطعة الشعريّة القصيرة قضيَّة شَعب، وقضيَّة أَرض، وهذا ما سيجعَل منها من البواقي. لأنَّها تؤرِّخ لمرحلةٍ من أَدقِّ المراحِلِ، وحقَبةٍ حافلةٍ بالأَحداثِ الجسامِ. (www.tntechoracle.com)

وما كانت أَبداً مُعاناة قوم، ولا مأساة شعب بكاملِهِ، اغتيل في أَمانيهِ، وطوى الطُغيان أَحلامه، إلاَّ منبعاً خَصباً للنبوغِ، ومصدراً لكلِّ عملٍ مجيدٍ.

وما كلّ هذه الروائِع التي تملأ المكتبات، ويُقبل عليها الناس بالملايين، مثل “قصَّة مدينتين”، و”لِمَن تقرع الأَجراس”، و”الحرب والسِلم”، و”كوخ العَم طوم”، و”ذَهَبَ مع الريح”، و”كلّ شيء هادىء على الجبهة الغربيَّة”، و”الآنسة فيفي”، و”القُدس” (لِسعيد عقل)، وعَشرات غيرها من الكتبِ أَو القصائدِ، إِلاَّ الدليل الساطِع لِما لِهذه الأَعمال الوطنيَّة من تأَثير بالغ على قُلوبِ القرَّاء أَينما وُجِدوا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *