جوزف صايغ… هذا المقدود من عَصَب التمرُّد

Views: 1579

د. ربيع الدبس

يَشْغل الدكتور جوزف صايغ حيِّزًا ثقافيًّا نوعيًّا في الوطن والمغترب، ويثير بعضٌ من آرائه زوابعَ من الاعتراضات والنّقدات، كما يستدعي البعضُ الآخر هبَّات المديح والإطراء. غير أنَّ هذه المقالة لا تزعم تغطية مؤلّفاته، الغزيرة، الشِّعريَّة منها والنَّثريَّة، من باكورته (قصور في الطفولة) إلى مطوّلته (الوطن المستحيل). حسْبنا هَهنا أن نُزْجي قراءة أوليَّة في كتابه (يوميَّات بلا أيّام) الصَّادر في طبعته الأولى عن دار نلسن 2019. 

يعنينا، بدايةً، أن نُسْقط على هذا الكتاب مقولة أفلاطون: «لا شيء أكثر التصاقًا بالحكمة من الصِّدق». فالصِّدق هو سِمَة الكتاب الأولى، تتبعها سِمةُ العمق، فسِمَةُ الأدب الرّفيع المسبوك في لغةٍ صقيلة يندر أن تتضلع بمستواها أجيال اليوم، المتراجع لديها شغف الإلمام الخجول باللغة التي هي وعاء الفكر، فكيف بشغف النّواصي؟ أمّا الاختراقات الإبداعيّة فتكاد تنعدم في لبناننا بوارقُها، بداعي هيمنة المادّة، واهتزاز المعايير، وخراب المفاهيم، بحيث كثرت الشّهادات وقلّ المثقّفون.

 

كتاب يعلّمنا الحبّ

يأتي الشَّاعر جوزف صايغ في “اليوميّات” على ما لا يوافق عليه القارئ، بل على ما يستهجنه أحيانًا. من ذلك ذِكْره تعليق الشّاعر نزار قبّاني أمامه، في القصر الجمهوري – بعبدا بعد صدور كتاب صايغ “آن – كولين” عام 1973، وهو العام الذي خاضت خلاله كلّ من سورية ومصر حرب تشرين لاستعادة أراضيهما المحتلَّة من العدوّ. قال نزار معلّقًا على نتائج الحرب: «لقد استعاد العرب رملاً للعرب، وليس العرب في حاجة إلى رمل… نحن في حاجة إلى مثل كتابك، إلى كتابٍ يعلّمنا الحبّ». إنّ السياق السّردي للواقعة، الأكيدة بلا ريب، يكشف أنّ صايغ استحسنَ التعليق، المحفور في ذاكرته منذ نصف قرن، ربّما لأنّه معتدُّ بكتابه الصّادر يومذاك، وحقّه أن يعتدّ… بالكتاب لا بالتعليق قطعًا. صحيح أنَّ تعليق نزار قد يبدو طريفًا بالنسبة لبعض القرّاء الرومانسيّين، الذين لا يدركون أن لا حبّ بلا أحباب، ولا أحباب حيث لا وطن يُخصبونه ويُخصبهم… بالعزّ والشّرف. لكنّه، بلا أدنى شكّ تسخيف مداهِن لأهميّة الأرض ومعنى السِّيادة والحريّة والكرامة، حتى لو كانت الأرض من الحصى لا من الرّمل فقط، بل حتى لو كانت من «الأرض اليباب» التي بنى عليها T.S. Eliot عمارته الحداثيّة الكبرى، فكيف إذا كان الجولان على سبيل المثال ثروة مائيّة وسياحيّة، وموقعًا استراتيجيًّا لا تضاهيه منبريّات نزار، ولا مغامراته النسائيّة، ولا تعليقاته الحمقاء عن لبنان، والتي قال في أحدها على مسمع صايغ نفسه: «هذا المتجر العاهر، كان الأَوْلى بعبد النَّاصر أن يخلّصنا منه» (يوميَّات بلا أيّام، ص 92). 

تقاطُعات فكريَّة

ثمّة تقاطُعات فكريَّة في أعمال الدكتور صايغ بينه وبين رهط من الأدباء في المدى اللامنظور لعمليّة التأثير والتأثّر: من بودلير القائل «في الفنّ رعشةٌ الأشياء الهاربة»، إلى جول رينار المتوجّه إلى الأديب بالقول: «ضع قمرًا صغيرًا في ما تكتب»، إلى صايغ الداعي علنًا إلى «إزالة الحدود الروحيَّة» أو على الأقلّ إلى تعديلات في مفاهيمنا للأقداس، فإلى مُنَظِّر الحداثة الثقافيّة في العالم العربي، الشّاعر أدونيس (علي أحمد سعيد) الذي لم تنشأ بينه وبين الشّاعر صايغ كيمياء التقدير المتبادل، نذر أولئك الكبار حياتهم الثقافيّة والأدبيّة لقضيّة، هي قضيّة الإنسان وتقدّمه وفكره الحرّ. يسأل أدونيس: «متى نَقْدِر أن نقول عن فكر أو أدب أو فنّ إنّه يطيل أمد التخلّف»؟ ويجيب بنفسه: «عندما يكون خارج المغامرات الكبرى، متصالحًا، ولا يطرح أي سؤال خلاَّق على أي شيء». 

بيِّنٌ إذًا أن المقولة الأدونيسيّة تنطلق من ضرورة طرح الأسئلة الوجوديّة الكبرى الجاعلة من الإنسان كائنًا عاقلاً مهمّته العبور من القبر إلى الحياة، من الظلّ إلى النور، ومن الغريزة الظلاميّة السجينة إلى العقل التوليدي الحرّ. 

د. جوزف صايغ

 

أبجديّة الدول المعاصرة

يقيننا أنَّ صايغ، بوصفه عشير الثقافة الغربيَّة عمومًا والفرنسيّة خصوصًا، قد اعتبر الديمقراطيّة أبجديّة الدول المعاصرة باعتبارها النظام الأعدل أو الأرقى، بالرغم من جميع الشوائب. مع أنّ علي الدين هلال يرى في كتابه (الانتقال إلى الديمقراطيّة) الصّادر في سلسلة عالم المعرفة – عدد ديسمبر 2019 أنَّ كلمة «الديمقراطيَّة» لم ترِدْ حتى في ميثاق الأمم المتحدة ولا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإن كان قد ورد فيه عدد من الحقوق اللصيقة بالممارسة الديمقراطيّة، من دون أن ننسى بقاء العدل على الدوام قيمة أثيرة. لكن على رغم ذلك فإنَّ المجتمعات كلّها، بصرف النَّظر عن نُظُمها السياسيّة والاقتصاديّة، تشهد ضروبًا من عدم المساواة في توزيع موارد القوَّة الاجتماعيَّة كالتعليم والثروة والمكانة.

ما من شكّ في أنَّ الدكتور صايغ ينحاز للقيم الغربيّة، لكنّه لا يتنكّر للجذور: «كلّ جديد يؤسّسه قديم. كلّ مدنيّة تؤسّسها بربريّة». صحيح أنّه يحنّ إلى الوطن، بل إلى مطارح حارته الزحليّة التي شهدت طفولته ومغامراته الأولى وذكرياته الجميلة والمريرة، مع الأهل والكهنة المدْرَسيّين القُساة، إلاّ أنّ هذا المثقّف «العضوي» الذي لم يتحوّل «غرامشيًا» قد وجد نفسه في المعجن الغربي بعد أن صدمه الزؤان المتكاثر على بيادر المشرق. 

رفّات الأجنحة 

وهاكم مقتطفات من تموضعه الفكريّ المدروس، وهي مقتطفات شبيهة برفّات الأجنحة التي سطَّرها قلم سعيد تقي الدين، وبقطرات النّدى التي سكبها حِبْرُ راجي الراعي.

  • الصّادق بين الكَذَبة كالصِّديق بين الأَثَمة. يبدو وحده الكذّاب.
  • يبقى الكتاب العربي صامدًا ما بقي العقل العربي جامدًا… يوم يتحرَّك العقل العربي، في ذلك اليوم قد يبدأ الخطر على الكتاب وعلى العقل.
  • آخر همومي إصلاح النّاس وتغيير الدنيا. هذه مهمّة خالقها، ولا يهمّني أن أختلس منه هذا الامتياز.
  • الشّعراء وحدهم يعرفون لماذا يكتبون: يُنتجون جمالاً. والجمال يبرّر كلّ شيء. 
  • إنتحارٌ ثقافيّ باهر أن تكون أنت، وما لستَ إيّاه! 
  • إذا لم يكن للنصّ معنى بذاته، كما يرى الفيلسوف جاك درّيدا، فإنّ على القارئ أن يمنحه معنى. هكذا الكون. 
  • سيرة الإنسان على الأرض: كلّما اتّسعتْ رقعة المعرفة، ضاقت فسحة الكلام. لعلّ أقصى المعرفة نهاية الكلام. 
  • هل يوجد الفردوس بأحلامه السعيدة في غير لهفة الإنسان؟

* * *

هذا هو الشّاعر جوزف صايغ الذي احتفلت زحلة في حديقة الشّعراء عام 2014 بإزاحة الستار عن تمثاله وهو حيٌّ بيننا. إنّه أيضًا الناقد الذي لم يجامل موجات التطبيل وتيّارات التزمير، فلم يسْلَم حتى سعيد عقل، الذي فاز صايغ بجائزته مرّتين، من نقده الموضوعي المباشر، لكن مجموعاته الشعريّة الوفيرة تتطلّب منّا وقفة أطول ومراجعة أوفى. 

جوزف صايغ…

أيّها المقدود من عصب التمرّد إمعانًا في التفرّد، وَعِرَةٌ رِحلةُ التمدّن على سالكيها، خصوصًا متى كانوا من المتطلِّبين. لكنْ ما أقصر الطّريق حين يتولاّها صاغةٌ حقيقيّون يفضحون المزيَّفين المدسوسين على معادلة الحقّ والباطل. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *