قراءة في رواية “سألقاكِ هناك” لـ رشا سمير
ميشلين حبيب
على الرغم من أن العنوان يبوح بشيء عن المضمون لكن القارئ لا يتوقّع النهاية أبدًا ويقرأ فصلًا بعد الآخر مأخوذًا بالقصة وعندما يتذكّر، أي عندما يستفيق من الانغماس في مجرى أحداث الرواية، يتساءل تُرى إلى ماذا يرمي العنوان وهل هناك من ترابط أم هو مجرّد عنوان حالم لرواية يملأها الحبّ والأسى والظلم؟ أم أنه يعبّر عن أمل فعليّ في نهايتها؟ ويلازم هذا التساؤل القارئ حتى النهاية التي لن أبوح بها منعًا لإفساد متعة قراءتها لمن لم يقرأها بعد.
تقع الرواية في حقبتين تاريخيتَين مختلفَتَين، وتروي قصتين مختلفَتَين لكن مرتبطتين في الوقت نفسه. تجري الأحداث في إيران في بداية القرن الثاني عشر ومنتصف القرن العشرين. هي قصّة نيلوفر (اسم نبات مائي ذو رائحة زكية) التي نتعرّف عليها في عيد ميلادها الحادي عشر لنشاهد بعدها شريط حياتها وسرقة طفولتها وزواجها وعذابها على صفحات “سألقاكِ هناك”. بالرغم من أن الرواية تتناول قصتين مختلفتين في زمنين مختلفين، لكن الكاتبة نجحت في الحفاظ على حبكة مترابطة أبعدت القارئ عن الحيرة والارتباك.

سألقاكِ هناك هي أيضا قصّة يحيى الذي أتى به والده إلى قلعة ألموت وتركه فيها ليصبح أحد رجال “مولانا”. هو الشاب الفتيّ الذي رفض مبدأ السمع والطاعة واستخدم حقّه بطرح الأسئلة والذي تبع حبّه حتى الموت. يحيى الذي يفهم ويدافع عن الحياة والحب، أتى يبحث عن حبّه في مكان يدرّب على القتل ولا يفهم إلّا بالقتل، أتى يبحث عن حبّه في مكان يقتل الحب. يحيي بدوره اغتُصبت طفولته، براءته، وروحه الحرّة ليصبح قاتلًا، فيقول في الصفحة 183: “تلك اللحظات التي نخلع فيها ثوب البراءة ونرتدي قناع القتلة … إن الفرق بين أن ترقص قلوبنا على صوت الناي وأن تحترق بنيران الشيطان … لحظة”. ويكمل نادبًا مصيره في الصفحة 184: “جاء اليوم الموعود وقرّر “مولانا” أن يمنحني الجائزة، لقد قرّر أن يكافئني على انصياعي لأوامره، تلك الأوامر التي اعتبرها هو فوزًا، واعتبرتها أنا هزيمة”. … “كم هو قاس أن تقتل نفسًا وأن تُزهق روحًا وكأنك قد نصّبت نفسك إلهًا تمنح الحياة وتسترجعها وقت ما تشاء…”
يحيى ونيلوفر كلاهما خسرا حقّهما بالحبّ والحياة الطبيعية واحد في القرن الثاني عشر وأخرى في القرن العشرين ولنفس الأسباب: القمع والتطرّف والذكورية والهيمنة باسم الدين.
أن تنجح رشا سمير في نقلنا إلى مكان ما في إيران وتعرّفنا على تقاليده وأمكنته ولغته وهي لم تطأ قدماها ذلك المكان هو أمر يُشهد به للكاتبة ولقريحتها وخيالها وقدرتها السرديّة.
سألقاكِ هناك تصلح لفيلم سينمائيّ ربّما بسبب قدرة رشا سمير على التدفّق والسلاسة بالسرد والدّقة في الوصف والسهولة في بناء الحوارات بين الشخصيات فتأتي رواياتها كسيناريو جاهز تقريبًا لاعتماد الرواية للشاشة الكبيرة. إن حيويّة رشا سمير ومبادءها وشخصيتها المنفتحة الجذّابة والذكية الصادقة تنعكس في نصوص رواياتها. في سألقاكِ هناك تتطرّق إلى الظلم الذي تتعرّض له المرأة في إطار روائي أدانت فيه الدين والمجتمع والذكر والذكورية على لسان بطلتها نيلوفر في الصفحة 273، “نظرت حولي فوجدتُ كل الجالسات من النساء بائسات لا حول لهن ولا قوة … نساء تبرّأن من أنوثتهنّ وخلعن عقولهنّ، تعلّمن أن الجنس خطيئة والأنوثة رجس من عمل الشيطان. أجبرهن مجتمع أمِيٌّ لا يقرأ على بلع ألسنتهنّ وألزمهن وطن أعمى على أن يتوارين خلف جدار من القهر”. ومن ثمّ في الصفحة 411، “لقد أورثتني أمي ضعف نساء العالم كلّه في نظرة انكسار لمحتها في عينيها وحاولت هي أن تداريها طويلًا …”.
سألقاكِ هناك رواية متخومة بالظلم. تتكلّم عن القمع والظلم والإجحاف والاستبداد والتخويف وغسل الأدمغة وعن تزويج الفتيات القاصرات والزواج بالإكراه، تتطرّق فيها الكاتبة إلى موضوع خطير يحصل في مجتمعات معيّنة وتبيّن أنه إجرام بحق الإنسانية والطفولة والمرأة بشكل خاص.
تتمتّع الرواية بجوّ رومانسيّ حزين وفي الوقت نفسه بجو يثير السخط والألم من كثرة الظلم المنثور على صفحاتها. مثال على ذلك، إستقواء الذكور على النساء وقمعهنّ والتصرّف بحياتهنّ وكأنهنّ ملك خاص. وكذلك استسلام النساء الأعمى وهو أمر خانق ومُحبط ويثير غضب واستفزاز القارئ، وفي ذلك دعوة من الكاتبة للمرأة بالتمرّد وعدم الإمّحاء؛ مثلًا في اليوم التالي لزواج نيلوفر ذات الأحد عشر عامًا، لم تتكلّم واحدة من النساء معها على أنها طفلة وهذا استسلام مخيف جدّا إذ بحسب وصف الكاتبة لليلة العرس ووحشيّة الزوج في الصفحتين 122 و123، من العجيب أنها بقيت حيّة.
مقابل الذكر المجرم، ويمثّله الأب والعريس التاجر الخشن والأناني (وربما اختارته الكاتبة تاجرًا لرمزيّة المهنة، فالتاجر يفهم فقط بالربح ويسعى دائمًا للربح مهما كان الثمن ويكره الخسارة) وزوج نيلوفر التاجر الأنانيّ والغرائزيّ، الذي يكبرها بنحو خمسين عامًا، تزوجّها في صفقة رابحة. وربما التاجر الأكبر هو والدها الذي باعها ليصبح شريكًا مع زوجها في تجارة السجّاد. مقابل هذا الإنموذج من الذكور، هناك يحيى الرجل العاشق بل المحبّ الذي يفعل المستحيل ويخاطر بحياته من أجل حبيبته.
سألقاكِ هناك رواية عن التحكّم بالآخر وبحياته والاستبداد بالإنسان تحت شعار الدين ومن أجل مصلحة شخص واحد وتُظهر كيف أن الطاعة العمياء والتطرّف المميت يجعلان الأهل يضحّون بأولادهم (كما فعل والد يحيى) بسبب الترهيب والإيمان الضيّق والأعمى. هي تدين التطرّف وتؤكد على حقّ الإنسان بالاختيار وممارسة حقّه بالرفض والمقاومة من خلال قلبين أبيا الاستسلام وبقي إيمانهما بالحبّ أقوى. وأنهي بواحدة من اللفتات الشاعريّة العديدة في الرواية، صفحة،101 “ونبتسم وسط دموع تتساقط لتكتب شهادة وفاة مشاعرنا … هذا نحن … بشر يولد التحدّي لديهم من أرحام استسلام الآخرين …”.