المعرفة الكرونولوجية في رواية “سمّ الخياط” للروائي عبد الخالق الركابي

Views: 144

إبراهيم رسول

رواية “سمّ الخياط” من إصدارات دار الشؤون الثقافية العامة التابعة لوزارة الثقافة العراقية التي صدرت بطبعتها الأولى سنة 2022.  كأغلبِ أعمال الأديب المميز عبد الخالق الركابي نجد أنّ ثيمةً تكاد تكون حاضرة في كلّ أعمالهِ وهي ثيمة التسلسل التاريخي سواء للأحداث أو للأشخاص، واعتماده على مقوّمات كثيرة في هذه الكورنولوجيا الروائية.

قصّة الكفاح العراقي

الروايةُ تحكي قصّة الكفاح العراقي المتمثل بطبقة الفلاحين الذين يعانون أمرّ الظلم وأبشع أنواع الاستغلال بظلِ الحكم العثماني الذي عبث أيّما عبث بالشعب العراقيّ وبالأخص الطبقات الفقيرة منه، إذ كانت السلطة تسومهم سوء المعاملة وتقتلهم وتسجنهم وتفنيهم لأسبابٍ تتعلق بسطوتها وهيمنتها، فالسلطةُ العثمانيةُ استغلّت هؤلاءِ البسطاء لتفرض عليهم أشدّ أنواع الظلم والقهر. هذه الرواية تقدّم نقدًّا لهذه السلطة عبر تحريك الأصوات المهمشة أو التي لمْ يكن لها الدور المركزي التأثيري عند السلطة، الروائيّ المبدعُ وظفَ لهذه الشخصيات مركزية جعلهم يحكون معاناتهم عبر قصصهم وبلغتهم، فأنت تقرأ العدودة مكتوبة باللهجة التي ترددها المرأة وتقرأ اللغة بصورةٍ شاعريةٍ تبعث على الدّهشة الجمالية، فهذا التوظيف يحتاجُ إلى مبدعٍ عارفٍ بهذه اللغة.

المعرفةُ الروائيةُ ضرورية لأيّ مبدعٍ، وإلا فسيكون العمل غير متوازن ويفتقر إلى المعرفة التي تقوّي وتدّعم المعرفة التي تُشكّلها مخيّلة المبدع، وما نجدهُ عند عبد الخالق الركابي أنّه يعرفُ المعرفة الواسعة في كلّ ما يتعلق بعوالمهِ الروائية، وهذه المعرفة مكّنت الكاتب من أنْ يجعلَ من رواياتهِ مصادر معرفية إضافة إلى ما تُحدِثه من متعةٍ جماليةٍ، فهو يعرفُ أسرار هذه الأماكن ويعرف عاداتهم كلّها كأنّه فردٌ منهم أو عاش بينهم، فالوصفُ الذي يصف به المكان أو الشخصية هو الوصفُ الحقيقيُّ لهذا المكان أو لهذه الشخصية وحتّى في اللغة فهو لا يُعبر عن الفلاح إلا بلغتهِ! وحتّى طريقة تفكير الشخصية يذكرها كما هي الشخصية وما تملكه من مرجعيات ثقافية أو معرّفية، فالفرقُ واضحٌ بين الطريقة التي يفكر بها المهندس أو الطبيب عن الطريقة التي يفكر بها الإنسان الفلّاح!

 

ظلم السلطة العثمانية 

الركابي في هذه الرواية يبني عوالمه على أساسٍ متينٍ من العلم بالشيء، ولذا نجد هذه الرواية إضافة نوّعية للرصيد الروائي العراقيّ، وهذه الرواية قدمّت للركابي المكانة المرموقة بين الكتاب المعاصرين، فهي ملحمة منسوجة بأجملِ هيئةٍ بنائيةٍ.

العنوانُ مستوحى من آية قرآنيةٍ في سورة الأعراف، هي تحكي قصّة أسرة “آل غافل” وهجرتهم من محافظة الديوانية إلى محافظة واسط  في مدينة الأسلاف القريبة من قضاء بدرة التابعة لمحافظة واسط،  قدْ تكون هجرتهم هي المفتاح الذي حرّك فيه المبدع أحداثه وقدْ يكون الظلم العثماني هو السبب ، المهم أنّ بداية الحرّكية الروائيّة بدأت من بداية النفور الثوري عند هذه الأسرة بسبب عدم تحملهم لظلم السلطة العثمانية. 

 التسلسلُ في الأحداث كان منسجمًا مع طبيعة السّرد، وما نقصدهُ بالمعرفة الكرونولوجية هو التسلسل الزمني للأحداث أو قلْ لأسرة آل غافل على وجه التحديد، فالمعرفةُ بزمنية الأحداث التي تتعلق بهذا التاريخ معرفة مفصّلة كاملة غير منقوصة يستدّعي من المتلقي أنْ يعتبرَ هذه الرواية وثيقة تدوّينية لمرحلةٍ زمنيةٍ، هذا التدوّين الروائيّ ينفعُ المتلقي من الناحية السوسولوجية إذ يتعرّف من خلالهِ على الصراع الاجتماعي إبان تلك الفترة، وهذا الصراع الذي تكوّن نتيجة عمليات متنوّعة وتراكمات كثيرة حتّى وصل إلى ما وصلَ إليه، هذه الصراعات هي تكوّن التطّور المنشود الذي يرقى إليه الباحث السوسويولوجي، لأنّ البيئة خصبة لقراءة الواقع المجتمعي عبر صراع الأفراد مع السلطة من جانب وصراعهم مع بعضهم البعض من جانبٍ آخر.

 

معرّفة مفصّلة في جزئيات المجتمع

الروائيّ الركابي في هذه الرّواية، لديه معرّفة مفصّلة في جزئيات المجتمع، أو قلْ تفاصيل عالمه الروائيّ عامة، فنحن نقرأ وصفًا رائعًا للأمكنة مع ترتيب زمني صحيح معتمد، حتّى أنّه يعرّفُ التاريخ الذي تأسست فيه جريدة الدستور العراقية إذ يقول في معرض حديثه: واستلّت أصابع البيك الملطخة بالغبار، من تحت ذلك الخليط العجيب، جريدة أصفرّ ورقها حتى بات قابلًا للتمزق بأدنى لمسة حيث احتلّت كلمة “زوراء” المكتوبة بخط الثلث صدر الجريدة التي يعود تاريخها لاثنتين وعشرين سنة خلت. ( الرواية:78). إذ تستطيع أن تعرّفَ التاريخ الحقيقي لهذه الحادثة حينما تطرح العشرين سنة من عمر الجريدة التي صدرت في سنة 1869 لتعرّف أن التاريخ هو 1849. هذه المعرفة التي اتصف بها الكاتب من إتقانه للتسلسل التاريخي لأحداثه أو لسرده عن عائلة آل غافل، فهو لا يكتب التواريخ بصورةٍ عشوائية اعتباطية، بلْ يعطي التاريخ الصحيح الذي من خلالهِ نأخذ التصوّر العلمي عن الطريقة التي يفكر بها المجتمع في تلك الفترة من الزمن.

من خلالِ السرد تدرك الشبه أو التقارب التخيلي بين رواية ماركيز مئة عام من العزلة وهذه الرواية، فكلاهما يعتمدان أمكنة تخييلية لخلق عوالمهم الروائية، فنحن نقرأ عن قرى الركابي ونجد أنّها قدْ لا تكون على خارطة العراق إلا في مخيلة المبدع، وهذا ليجعل من العمل الفنّي يبدو عملًا إبداعيًا، فالشخصياتُ والأحداث حقيقية إذن لتبدو الأمكنة تخيلية وبهذا تكوّنت لدينا رواية تعتمد العنصرين الضروريين معًا ليشكلّا بنية العالم الروائيّ.  

 

الديناميكية الفاعلة

المحرّكُ الأساسي في الرّواية الصراع الكرونولوجي الذي جعل الرواية تبدو متحركة أو متصفة بالديناميكية الفاعلة، هذا التفاعل التاريخي الذي يخلقه الكاتب هو صراع اجتماعيّ ، والمتأملُ في الرواية يجد أنّها ليست رواية لجيلٍ واحدٍ فحسب، بل هي تسلسل لأجيال متعاقبة وبالإمكان أن تستمرّ لجزءٍ ثانٍ يكمل التسلسل الزمني للأحداث كون الركابي  اعتمد على خلق أكثر من جيل في روايته وهي رواية مفتوحة على فضاء العالم الزمكاني ولمْ تنقطعْ أحداثها عن حرّكيتها وفاعليتها. الروائيّ يبين لنا وبوضوحٍ معرفته الدقيقة والواسعة بالمجتمع الذي يكتب عنه، فهو يعرف التفاصيل الصغيرة والكبيرة عن الطقوس والعادات والتفكير وكلّ ما يخصّ العراق كأشخاص لهم الدور الكثير في رواياتهِ كما أنّه يعرف أيضًا عن الولاة العثمانيين ويعرف كيف يفكرون وكيف يقيسون الأمور، هذه المعرفة التي تجعل من الرواية تبدو وكأنّها وثيقة هي معرفة تعطي للرواية العراقية والعربية أهمية خاصّة، هذه الأهمية ترجع إلى أنّها تُعد مصدر من مصادر المعرّفة، فالمعلومات ُ التي تقدمها الرواية بسردها لا تقلّ عما يقدمه المختبر الاجتماعي أو الانثروبولجي أو السايكولوجي ، فهي ابنة المجتمع الحديث وهي توظفُ العلوم الإنسانية كلّها  وتوظف هذه العلوم لخدمتها لأنّها تعنّى بالإنسان ولمّا كان الإنسان مدار هذه العلوم.

ثمّةَ سؤالٌ يبدو مهمًا، هلْ يصنّف الراوي الذي يروي الأحدث بأنّه راوٍ كلّي العلم أم لا؟  الحقيقيةُ هي ميزةٌ من مميزات المبدع الذي يوهمكَ بالحقيقةِ من حيث لا تشعر أو تشعر، فالركابي يقدم نفسه هنا وكأنّه لا يعرف كلّ شيء أو انّه يريد أن يقول أنّه مبدعٌ يدوّن ما تمليه مخيلته الإبداعية، إلا أنّ معرفته الشاملة بأساليب العمل الفنّيّ الروائيّ كانت حاضرةً في كتابتهِ، ومعرفته بكلّ شخصياته وأمكنته لمْ تجعلْ منه مدونًا لمادة تاريخية، بلْ هي رواية فنّية إبداعية ابتكرتها مخيلة تخييلية. وإلا لأصبحتِ الرواية مستهلكة في أوّل قراءةٍ لها. الذي حافظَ على حرّكيتها وديمومتها هو التوّسع الكثير في قراءتها، فهي حمّالةً دلالات كثيرة، تنفتح بتعدد القراءات التي تُقرأ فيها. فالمعرفةٌ التي قدمّها الركابي في هذه الرواية مكّنت الرواية من أن تشكّل إضافة للروايات العراقية، كون الرواية كُتبتْ بإتقانٍ ومهارةٍ واضحين، ولُعبة السرد وبناء العالم الروائيّ كان على يد فنّان مهندس عالم بأسرار العالم البنائي ، وهذا الذي أسبغَ على الرواية مسحة فنّية تُجدد ذاتها كلّ حين ، هذا التسلسل المنطقي الصحيح هو ميزةٌ مهمة تجلّت في عقل وخيال المبدع مما جعل التوظيف يكون متقنًا والعمل يبدو أنيقًا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *