حَياةُ إنسان…

Views: 1082

كيف تتحَوَّلُ حياةُ إنسان بسبب حادثة أليمة وبَغيضة إلى هوَّةٍ سَحيقة تفصلُهُ عن ذاتِه، فتتباعدُ المسافات بين الطفلِ المتألم في داخلِه وبين الإنسان الناضج الذي وجبَ أن يبلغَ إليه؟… كيف يُمكن لصُدَفٍ بَشعة أن ترميَ إنسانًا في ظلالٍ وتحوِّلُهُ إلى حُطام، يُحاولُ من بعدِها، أن يتلطَّى في خيالاتها كي لا يُظهِرَ للعَيان، نفسهُ المُهشَّمة، المؤلَّمة، المُنتَهَكة؟… 

كيف يُمكنُ لمحاولات فاشلة بالتستُّر على مظاهرَ مُعيَّنة، أن ترسمَ مسارًا لإنسان يجدُ نفسهُ في نهايةِ المطافِ مُدانًا، محكومًا والأسواء أنَّهُ يتحوَّلُ إلى قاضٍ يُقاضي نفسَهُ بنفسِهِ، لأنَّ ألمَه وإدانتَه أوصلاهُ إلى مرحلةٍ جعلاهُ مُقتنعًا أنَّهُ لا يستحقُّ السعادة ولا حتَّى أن يكونَ إنسانًا كسائرِ الناس، له طموحاته ورغباته وتطلُّعاته؟… والمُخزي في ذلك، هو أنَّ مَن وجبَ عليهِ احتضانه، جعلَ الخوفَ من الفضيحةِ، مهما كان نوعُها، أولويَّة تتقدَّمُ على حِساب مساعدة الإنسان «الضحيَّة» ونشله من مُصابه، وكأنَّهُ لا يكفي هذا الأخير أنَّه يدورُ في فلكِ ألمِهِ وينتقي في حياته كلَّ ما يدفعُه إلى الفشل، لأنَّ ما قد اختبره ولم يتمَّ معالجتهُ في حينِهِ، أضحى نقطة الانطلاق، فالهدف المنشود، فالنِّهاية المُحتَّمة: دمارٌ ما بعده دمار وآلامٌ ما بعدها آلام… والهوَّة في نفسِ مَن يُعاني تُصبحُ بعد كلِّ فشلٍ، أكثرَ ظلامًا وأكثر عُمقًا، بلا حدود ولا شكل… والنَّتيجة؟ هذا الإنسانُ يجعلُ نفسَهُ هدفًا مُباشرًا للتأنيبِ والفشل فالانتقام… 

وعندما تحاول التواصل معه، تخال نفسك تحاورُ بالغًا، فإذا بك تصطدم بولدٍ مذعور، خائف، لا حول ولا قوَّة له، لا يعرف كيف يلتقطُ زمامَ أمورِ حياتِه ولا كيف يُبادرُ لاتخاذ القرارت المناسبة؛ وإن فعل، أوقعَ نفسه مُجدَّدًا وباللاوعي، في دائرة الألم نفسها اللامُتناهية… وقليلون هم الذين يدركون ذلك، لأنَّ الثقافة الإنسانيَّة تنقصنا… والمؤلم في ذلك أنَّنا لا نجرؤ على طلب المساعدة بل ونستحي من ذلك، والنتيجة؟… خسارات جسيمة مُتكرِّرة تزيدُ تنكيلًا في نفوس أليمة…

وعند تبيان الأمر، إن لم نستطعِ اكتسابَ ثقة هؤلاء الأشخاص، لاذوا بالفرار، لأنَّهم ببساطة لا يعرفون مواجهة مشاعرهم، تحديدًا عندما تكون حقيقيَّة… وطالما لم يكتشف أحد معاناتهم، هم في أمان وهميّ، يأتون ويرحلون على سجيَّتهم بلا سبب، سوى الهروب من ماضٍ قد يعاودهم في أي لحظة، ماض ليسوا بقادرين على مواجهته، لأنَّ الولدَ في داخلهم لا يزال يتألم ولم ينضج كفاية لمواجهةِ الحياة الحِقَّة؛ كما وقد يفقدون قدرتهم على التَّفاعل بعفويَّة مع لمسة محبَّة أو دعم معنوي أو أي تعاطف… فالعاطفة الصادقة والمجانيَّة قد تدفعهم للاضطراب، ليس لأنهم لا يحتاجونها، بل لأنَّهم لا يعرفون كيف يتفاعلون معها ولأنَّهم لا يزالون يدينون ذواتهم وهم بنظرِ أنفسهم لا يستحقُّون أي تعاطفٍ من أيّ نوعٍ كان… 

وفي كلتَي الحالتين، الألم يعتصر أفئدتهم وباق إلى أجل غير مُسمى…

ولا أدري كم بعدُ يجبُ أن يُعاني مَن يُعاني، قبلَ أن نَعيَ بأنَّ الإنسان هو فوق كلَّ الظروف وكلَّ الحوادث وكلَّ المظاهر… ألا يكفينا هَول الآلام المنتشرة في كُلِّ مكان والمُتفشيَّة كالوباء، وليس مَن يُبالي؟ فكيف نستطيعُ غضَّ النَّظر عن ألم ووجعِ المُقَرَّبين إلينا ومنَّا من دونِ أن نُحرِّكَ أيَّ ساكنٍ، مُتلطِّين بغطاء الجهلِ والخوف من حُكمِ الآخرين علينا وعلى ظروفِنا التي نصبغها بألوان المُصيبة؟… 

… إنَّ وجهَ المسيح المؤلَّم لمَحفورٌ في وجوهِ وقلوبِ الإنسانيَّة التي تَئنُّ من الألم حولَ العالم… وليسَ مَن يُداوي أو حتَّى يُبالي… 

كُلٌّ منَّا يُحاولُ أن يُداويَ جراحَهُ بالسُّبُلِ التي يعرف… وحبَّذا لو استطَعنا إيقافَ التهاب روحِنا ونفسِنا لوحدنا… 

المُعضلة، كلُّ المُعضلة تكمنُ في حاجةِ الإنسان بأن يشعُرَ بالثقَّة بنفسِهِ وبالأمان وبأنَّهُ مرغوبٌ به وبأنَّهُ يمتلِكُ قيمةً ما، وأنَّهُ موجودٌ لهدفٍ ما، لا أحد غيره يستطيعُ إنجازه عنهُ ومثله… بالرَّغم من مُصابه، مهما كان نوعه أو تصنيفه… 

باختصار، إنَّهُ يحتاجُ بأن يشعرَ في أعماقِهِ بأنَّهُ محبوبٌ وبأنَّ مكانَته لا تُعوَّض، ليبدأ يثقُ بنفسِهِ مُجدَّدًا، يقبلَها، يُحبَّها… يعيش… فيُدرِكُ مع الوقت، بأنَّ الشرور، قد تنبعثُ من حوله، ولكنَّهُ ليسَ مُذنبًا ولا مُلامًا ولا حتَّى سيِّئًا لأنَّهُ صادفَ أن تعثَّرَ بها… إنَّهُ يحتاج أن ننظرَ إلى ألمهِ من زوايا وأبعاد مُختلفة لينطلِقَ من جديد وينفضَ عنهُ إنسانهُ القديم، إنَّهُ يحتاجُ دعمنا لِلَمْلَمةِ أجزائِه المُتطايرة في أعماقِ نفسِه… وإن عرفنا كيف ندعمه وطلبنا المساعدة من أهل الإختصاص، إن اقتضى الأمر في حينِه، الحقَّ إنِّي أتجرَّأُ وأقول: إنَّه قد يؤولُ مُصابُه إلى مُعجزةٍ، مُنبعثة من رحم الألم، مسنودة على دعم ومحبَّةٍ عَميقَين، قادرة على خَرقِ الإنسانيَّة بما قد أبدعته يدُ الخالقِ فيه…  


  ٢٧/ ١/ ٢٠٢٠

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *