قراءة في مجموعة روي أبو زيد القصصيّة “الاعتراف الأخير”

Views: 1162

ميشلين حبيب

“الاعتراف الأخير” هو اعتراف روي أبو زيد الأول على الورق بقدرته الأدبية الراقية والمؤثّرة. هو أيضا اعتراف واضح بإيمان عميق وحبّ كبير لله. “الاعتراف الأخير” كتاب عن الحبّ، كما يقول الكاتب نفسه في التوطئة، وهو دعوة للحب وإيمان بالحبّ في مجموعة من ثماني قصص قصيرة تصبّ جميعها في بوتقة الفلسفة والعمق الأدبي والإيماني. هو كتاب أمل وإيمان في زمن اليأس وقلّة الإيمان، هو شهادة لله وحب الله  في زمن الابتعاد عن الله وحبّ الذات.

الاعتراف الأخير” ليس كتابًا سميكًا بعدد صفحاته لكنه سميك بمضونه الزاخم. هناك تناغم في عدد صفحات القصص وطولها، يأتي بعضها في ثماني صفحات وبعضها الآخر في ست. يُقرأ في جلسة واحدة لكنه جرعة كبيرة جدًّا من الجمال لاستيعابها في جلسة واحدة.

 

تتّسم النصوص بالسرد الرومانسيّ الهادئ وبالصور الجميلة الشاعرية الساحرة، وتتمتّع بلغة متينة جميلة وأسلوب رشيق آسر وأنيق، أسلوب متقن ومحترف ذكّرني بأسلوب أدبائنا الكبار مثل مارون عبود. يختلف السرد عند روي بحسب اختلاف الموضوع الذي يتكلّم عنه. 

أولى قصص الكتاب “ما يتخطى الردى” هي قصة عن الموت، عميقة مؤلمة تمتلئ بالصور الجميلة جدًا والمعبّرة وتتميّز بلغتها المتينة التي أضفت رونقًا على النص وخَدَمَته كي يصل للقارئ كما أراده الكاتب. في هذه القصة، تدفّق مشاعر صادقة وألم كبير وإيمان أكبر، ونرى الإنجيل حاضرًا في كل صفحاتها مما يُسفر عن عمق في الإيمان والروح والنفس والشخصية. 

ربما اختار روي البدء بهذه القصة برأيي لسببين، حبّه الكبير لجده والألم الأكبر الذي ولّدته خسارته، وحبّه الكبير لله والإيمان به وتمجيده. قد وفّق لأن القصة نابعة من القلب وهي بذلك تقرّب القارئ منه وتعرّفه عليه. 

بعض مما جاء فيها، صفحة 25، “أستغلّ الظرف يا إلهي لأشكرك على وجودك قربنا لتخطّي هذا المصاب الأليم”. وفي الصفحة 27، “صلّيت كثيرًا يومها، متذكّرًا قول القديس بولس عن العالم الآخر: “ما لم تره عين، ما لم تسمع به أذن، ما لم يخطر على قلب بشر، هذا ما أعدّه الله لمختاريه.” هذا هو عزائي الوحيد أن يكون جدّي مختارًا ليعيش في نعيم حقيقيّ يستّحقه.” وفي الصفحة 29 يمجّد الرب أيضًا ويقول، “الرب أعطى الرب أخذ ليكن اسم الربّ مباركًا”. وينهي في الصفحة 32 بصورة رائعة عن الموت وصفًا وفلسفةً، “سنرصّع دومًا أفئدتنا بميداليّة الحبّ والوفاء والأمل بفجر جديد، فالموت ستار فاصل، لكنّه سيُحرق عاجلًا أم آجلًا!”

في القصة التي تليها يتكلّم عن “رجل مريض نفسيًّا، مليء بالعقد فهو يخطف الأطفال والكبار، الرجال والنساء والعجزة محاولًا تذوّق كلّ طعم حياة مختلف عن الآخر … إنه كالقاتل المأجور لا تردعه دموع أو أحزان ولا يكتفي بأرقام جثث تكدّست على أرصفة شوارع العمر المنسيّة!” إنه مرض السرطان. 

 

يختلف الصوت في هذه القصة فنجد فيه الكثير من الشاعرية واللّوعة والأسى وكذلك التأمّل بمكنونات الحياة. قصة تجسّد لوعة فراق الحبيب الذي يأخذه الموت. فيها تفاصيل دقيقة تأخذ القارئ لحظة حزن بلحظة فيعيش الألم مع شخصيتها الأساسيّة. وقد جسّد روي هذه الأحاسيس بطريقة عظيمة حيث يزدحم النص بالصور وتتدفّق فيه المشاعر الجيّاشة الصادقة. مثال على ذلك، في الصفحتين 36 و37، … إتّخذ وضعيّة الجنين. تقلّب كثيرًا في فراشه كسمكة عالقة في الشباك تصارع الموت وتتمسّك بالحياة. لكنه قرّر الاستسلام، فالحياة ظلمته مرّتين: الأولى حين نُزع منه الحبل السرّي والثانية حين سرق الموت حبله الآخر: هي. أصبح جنينًا من دون غذاء أو قوت. جنين عجوز خرج من مهد الرحم إلى لحد الحياة!” 

في الصفحة 39 وصف رائع للحبّ في مقطع يدلّ على مدى وجع كريم لفقدان زوجته مهى التي خسرها في المعركة ضد الرجل المعقّد نفسيّا والقاتل المأجور، فيقول: “أفكر وحيدًا كيف ولماذا أحبّك لهذه الدرجة؟ أسأفهم يومًا هذا الكنه العميق الذي اجتاح نفسي ليتحرّك كطفل رضيع في أحشاء أمّه كلّما أشعر بك؟”

في الصفحة 41 يظهر الإيمان الراسخ بالله مجدّدا، “تنفّس عميقا مع شروق الشمس. شكر خالقه على نعمه وأدرك أن الله هو الوفيّ الوحيد في ظلمة الدهر والنور الأزليّ الذي يخرق ظلامه.”

القصة الثالثة ” فلذة كبدها” تتناول التقاليد التي لن تنفكّ تلقي بلاويها على الناس حتى لو أصبحنا في القرن الثلاثين. يقول الكاتب على لسان شخصية القصة الرئيسة “نور” في الصفحة 55 “… لكن العادات والتقاليد البالية ما زالت تنبض حياة وتتغذّى من جهل المستمعين والمطيعين”. ويتجلّى الإيمان مرة أخرى في الصفحة 59، “ثمّ صلّت، صلّت كثيرًا وناجت الله: يا إلهي لقد نسيتك طوال هذه الأوقات، أضعتك في أزقّة الحياة المليئة بعجلات الأسى والحزن. هل ما زلت معي؟ أم تركتني كما الذين أحببتهم؟ لكن لا. أنت رحوم، رؤوم ومحبّ، كن معي وانفخ في نفسي من قوّتك””.

في القصة الرابعة يظهر الحبّ أيضا في شكل آخر من أشكاله، حبّ الزوج والأولاد ودائمًا حبّ الله. محزنة جدّا هذه القصّة، تبكي الوفاء وتصوّر قلّة الوفاء وتخلّي الأولاد عن أهلهم ليُسجنوا بعيدًا في مأوى للعجزة يدفنون فيه ما تبقّى من سنين عمرهم ليمضوا بعدها إلى حيث الحبّ والوفاء الحقيقيّيَن.

وهنا، أدعو القارئ إلى قراءة الكتاب ليتذوّق المزيد وليكتشف بنفسه جمال الوصف والسرد واللّغة والمواضيع التي تمسّ القلب والنفس والضمير، لذلك سأمرّ سريعًا على بقية القصص.

القصة الخامسة، هي عن الحبّ في خدمة الحبّ، عن الكهنوت والأمانة لله. هي “الاعتراف الأخير” بالحبّ البشري من أجل الحبّ الأول والأخير، حبّ الله. 

القصة السادسة، قصّة إيمان وتمرّد وألم، قصّة أمل وإنسانية وطفولة مشرّدة. ويظهر الحبّ هنا مرّة أخرى في شكل جديد، حبّ الآخر. 

القصة السابعة قصة عن الثقافة وحريّة الكلمة والمرأة والمساواة والصحافة والحريّة والحبّ أيضًا، حبّ الوطن. 

القصة الثامنة موجعة، تتكلّم عن وجع الحرب ووجع الوطن والأرض واقتتال الأخوة وعن المسامحة. خلاصتها في الصفحة 131 عن الوطن وكرامة البقاء ودعوة للوفاء له “… أدرَكَ حينها أنّه يمكن للمرء أن يتغرّب عن وطنه حين يكون على أرضه، فكم من مغترب وفيًّا لبلاده وكم من مواطن يبيعها مقابل بعض المآرب الفرديّة. الوطن هو عطر الأرز الصامد الذي يمكن استبداله برائحة القنابل والرصاص، وهكذا تكون قد تغرّبت عنه! الوطن هو دفء العائلة التي يمكن التخلّي عنها تلبيةً لرغبات بعض الغرباء، وهكذا تكون قد تغرّبت عنه! 

كأنك يا روي قد وضعت عصارة خبرتك الشابّة وتأملاتك بالحياة كلّها في هذا الكتاب. فيه نضج كبير وتأمّل بالحياة عميق في إطار أدبيّ وشاعريّ. آمل أن نقرأ لك قريبًا كتابًا آخر أو مجموعة قصصيّة أخرى أطول، فأنت برعت في كتابة القصة القصيرة ولن أستغرب إن كان الكتاب الجديد مختلف الصوت والأسلوب فأنت لا تنقصك لا البراعة ولا القدرة على ذلك. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *