انتصر الرئيس نبيه برّي في إنقاذ لبنان من الفراغ الحكوميّ، والحكومة ولبنان إلى يوم جديد

Views: 997

جورج عبيد

تمكّن رئيس المجلس النيابيّ نبيه برّي من انتزاع النصر لحكومة استثنائيّة وإنقاذيّة برئاسة الدكتور حسّان دياب متغلّبًا بإصرار كبير وحكمة فائقة على إرادة خارجيّة حاولت رمي لبنان كل لبنان في فراغ سحيق.

أثبت برّي أنّه عقل لبنان بالصورة التي ظهر فيها. لا يمكن لأحد سواء اتفق أو اختلف معه سوى الاعتراف له بذلك، وبقدرته على تجاوز الأزمات الكبرى مهما عتت واشتدّت نيرانها. لم يكن مستندًا على أيّ خارج بل استند على دستور الأمّة اللبنانيّة، بضرورة أنّ تكون للبنان حكومة شرعيّة تجسّد الميثاق الوطنيّ وتقيم له وزنًا بعمليّة جراحيّة سينكبّ عليه الوزراء كلّ من موقعه، وسيكون الرئيس دياب ضامنًا لها. كما أنّه استند على إصرار رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون بأن تولد للبنان حكومة جديدة تعمل وتكون، بالتالي وجه العهد وقلبه وواجهته في كل فعل ومسار.

منذ ثلاثة أو أربعة أيّام، تبيّن وبحسب المعلومات المتداولة، أنّ ثمّة تحضيرًا بجهوزيّة حثيثة، لكي تنفجر “الفوضى الخلاّقة” في قلب بيروت وعلى معظم الطرق المؤديّة إليها. لم يكن المتولون والمحضّرون محليين، بل إنّ المحليين كانوا المطواعين لتفجير الشغب، وليبلغ الشغب ذروته في أخذ لبنان نحو فراغ عبثيّ قاتل، أي ان يكون بلا حكومة. في المعلومات، بدأت التحضيرات بمجموعة مقدمات صداميّة كانت تتغلّف بغلاف فتنويّ طائفيّ، لا سيّما في أنطلياس وجونيه، أثناء مطاردة بعض الرعاع الآتين من الشمال للنائب زياد أسود، ومحاولة منعه من تناول الطعام مع اصدقائه، فكانت القوى الأمنية لهم بالمرصاد. ان مشهد جونيه بحدود ما شبيه بمشهد قبرشمون حيث كان جبران باسيل هو المستهدَف لا سواه. وبدت أحداث قبرشمون مقدّمة حقيقيّة تراكمت واحتشدت مع مقدمات فتنويّة قادت نحو السابع عشر من تشرين الأوّل من سنة 2019، وتبيّن في الواقع أنّ الأميركيين كانوا خلفها.

مشهد محاولة الاعتداء على زياد، لا شكّ أنه جاء من ضمن منهجيّة تمّ ويتمّ اعتمادها للبلوغ نحو إيصال لبنان إلى انفجار جديد ولكنّه انفجار ضمن فراغ حكوميّ. منذ يومين أو أكثر تبيّن ومن دون اشتباه، بأنّ الأتراك والقطريين لأسباب تخصّ علاقة رجب طيّب أردوغان السيّئة بروسيا، وبسبب اقتراب إعلان النصر في إدلب، يعملون على الدفع باتجاه هذه الفوضى ضمن منظومة التموضع في الفلك الأميركيّ، لنيل الرضى منهم، فيظهر نفسه بأنّه عمود من أعمدة الفوضى المنتهجة عندهم والممنهجة منهم، حتّى إذا ما انتصرت رؤيتهم فيكافأ من جديد بامتيازات يستحقها في المنطقة، ومن ضمنها رعاية السنّة في المشرق العربيّ وتحقيق برنامجه القائم على النيو-عثمانيّة، أي السيطرة الجديدة. فهذا حافز له إذا ما انتصر هذا المشروع بالذات في لبنان لكي يقوم بتطويق ما أنجره الرئيس بشار الأسد في سوريا بدعم من روسيا، وقد تبيّن بأنّ تحالف الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين مع الرئيس السوريّ بشّار الأسد استراتيجيّ ووجوديّ وفلا انحلال فيه أو منه.

الفوضى اللبنانيّة، وبهذا التوصيف الدقيق، تسير في ظلّ هذا الانشداد التركيّ القطريّ من جهة والسعوديّ-الإماراتيّ من جهة ثانية على أرض لبنان وضمن الفلك الأميركيّ إياه. لم يكن الأميركيون بعيدين عن محاولة منع القيام بجلسة الثقة اليوم، فقد تكثّفت اتصالاتهم مع الأحزاب الدائرة في فلكهم لا سيّما مع القوات اللبنانيّة والحزب التقدميّ الاشتراكيّ وتيار المستقبل، لمحاولة عدم تأمين النصاب القانونيّ لعقد جلسة اليوم. ما حدث أنّ نواب القوات اللبنانيّة حضروا إلى المجلس ولم ينزلوا إلى القاعة حينما تأكّد لهم بأنّ النصاب سيتأمّن. كما أنّ تيار المستقبل بدورهم جاءوا وانتظروا في مكاتبهم. كذلك حذا حذوهم نواب الحزب التقدميّ الاشتراكيّ. في مقابل ذلك كان حزب الله على الخطّ متواصلاً مع معظم الكتل الأخرى لا سيّما مع تيار المردة وآخرين، لتأمين النصاب، وهذا أتى في ظلّ التوافق بين الرئيس عون والرئيس برّي لكي تصير الجلسة اليوم. تأمّن النصاب وحضر 84 نائبًا ونالت الحكومة الثقة ب63 نائبًا، وهكذا حقّق الرئيس برّي نصرًا مبينًا بتأمينه النصاب وعدم التهاون بأخذ لبنان نحو الفراغ، فأثبت برّي بأنّه رجل المهمّات الصعبة الناجح.

حازت الحكومة ثقة ثلاثة وستين نائبًا من أصل 84 نائبًا حضروا. وعلى الرغم من ضعف الرقم والحضور، إلاً أن الارتكاز مكنون على نوعيّة الثقة، أمام واقع الحرب الأميركيّة بضغوطاتها وثقلها وتداعياتها على لبنان بأذرع عربيّة وإقليميّة ومحليّة. إنّه اختبار جديد تخوضه الحكومة الجديدة الآن وقد خاضه المجلس النيابيّ والعهد معها. نوعيّة الثقة ستحدّد بالضرورة نوعيّة التوجّه، وقد جاءت كلمة الرئيس دياب بمضمونها متوازنة ودقيقة وموضوعيّة، وستعتمد حتمًا كوثيقة جديّة لتحديد خطّة عمل إنقاذيّة وفوريّة. لقد أخرج دولته توليفة صعبة في الدمج ما بين شرعيّة الشارع المنتفض، وشرعية المجلس المنتخَب، فالشعب مصدر السلطات والمجلس النيابيّ بالثقة رحم ولادة الحكومة وديمومتها. حدّد دياب بأنّه وحكومته خدمة للشعب، والواضح بأنّه ذاق عميقًا بأنّ البون بات شاسعًا بين ماض قريب كانت كلمة السياسيّ فوق الشعب وحاضر بات السياسيّ تحت كلمة الشعب، والنظام الديمقراطيّ واضح بالتوصيف الثاني باتجاهاته العموديّة.

الحراك وبواقعيّة أفرز حركة ديمقراطيّة رسّخت بأنّ الشعب مصدر لكلّ السلطات. هذا تحديدًا مبارك، ويفترض الحفاظ عليه، كما عرّى الفاسدين من الطبقة السياسيّة، وحرّك السلطة باتجاه إحياء قانون كان قد قدّمه العماد ميشال عون، وهو استعادة الأموال المنهوبة، وهو بدوره خلع الحكومة السابقة واسقطها وسمح بأن تكون للبنان حكومة جديدة برئاسة الأكاديميّ الرصين الدكتور حسّان دياب، وقد نالت الثقة. القضيّة وبعد نيل الثقة، ليست في التشاد ما بين الحراك والحكومة والعهد، بل إننا أمام صراع قد يشتد بعض الشيء بين صفقة عصر اميركيّة بأذرع داخلية وإقليمية وعربية تحاول فرض شروطها على لبنان بتوطين الفلسطينيين ودمج السوريين، وأحدهم قد اقترف جريمة شنيعة أودت بشهيد من خيرة ضباطنا في الأوزاعي، وحشر حزب الله، ورفض ترسيم الحدود البحريّة (النفطيّة) مع إسرائيل، والاستئثار بحفر آبار النفط والغاز مع تحديد الشروط في لبنان.

ليست حركتهم فقط سياسيّة، بل مالية واقتصاديّة بامتياز. رئيس الحكومة يعلم تمام العلم، بأنّ المصارف والصرافين باتوا ضمن القبضة الأميركيّة، وودائع الناس بين ايديهم، وهم وبواسطة أذرعهم في سوق الصرافين من يحددون سعر صرف الدولار. لقد حوّلوا الدولار إلى شبح يخترق الحجب ويقض المضاجع ويظهر في الليالي ويرعب الناس ويهيمن على الواقع السياسيّ والاقتصاديّ. لقد شدّدوا قبضتهم عليه وبقوّة حتى أصبنا بالشلل التام. فبتنا في حرب مع شبح، أو كما قال أحد كبار رجال الأعمال بتوصيف دقيق، You Are fighting a ghost أنتم تحاربون شبحًا.

المعركة القادمة تبدو على هذا المحور، من دون أن ننسى أيضًا بأنهم وفي مضمون توجهاتهم هم من يمنعون الاتجاه نحو سوريا للبحث في إعادة علاقات طبيعيّة معها، وفتح السوق اللبنانيّ باتجاهها، والدخول جغرافيًا نحو العالم العربيّ عبر معبريّ النصيب والبوكمال. حسنًا فعل دولته بان أصرّ بأن تكون للبنان علاقاته المميزة بين الدول العربيّة كافة، فهو جزء منهم، لبنان تاريخيًّا، جسر تلاق بين العرب، وجسر تلاق بين العرب والغرب، بهاء لبنان مشعّ بخصوصيته الفريدة القائمة على تنوعه الداخليّ وعلاقاته الخارجيّة. لا يفترض بنا ان نعصم أنفسنا عن الخارج، ولكن لا يسوغ لنا الاستسلام لحرب الخارج علينا ومنعنا من حراكنا وفرض شروط قاتلة تبيح الانفجار جيلاً بعد جيل. وفي كلّ هذا الاصطفاف تبدي معلومات بأنّ رئيس الحكومة حسان دياب سيجهد على تنشيط الجسم القضائيّ وفرض استقلاليته ومنحه المزيد من الديناميات الشرعيّة لاسترجاع الأموال المهربة من المصارف إلى الخارج ومحاسبة كلّ مصرف لا يعيد الحقوق إلى المودعين، واسترجاع الأموال المنهوبة تحت طائلة الملاحقة القانونيّة. هذه الحكومة ليست وليدة صفقة بل هي وليد عملية جراحية ويؤمل أن تخرج لبنان من دوامته، فالمهمة صعبة لكنّ الفجر مبين وهو سيشرق قريبًا فوق القمم الشاهقة.

مبروك للرئيس ميشال عون، فالعهد سيتألق من جديد، ومبروك للرئيس نبيه برّي فقد أنقذ لبنان من فراغ حكوميّ قاتل كاد أن يودي به في فتنة عبثيّة، ومبروك للرئيس حسان دياب، وما ينتظره ثقيل، فيودور دوستيوفسكي في الإخوة كارامازوف قال: “إن عبء الحريّة ثقيل”، وعبء إنقاذ لبنان ثقيل، لكنه بوعيكم وصلابة مواقفكم وارتكازكم على الحقّ سينتصر لبنان ويتكلّل ويتّشح بالفجر المضيء.

***

(*) tayyar.org

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *