“المُتَمْثَلُون”.. روايةٌ تكسرُ حاجزَ الزمانِ والمكان

Views: 883

محمد عبد الكريم(*)

مع بداية هذا العام أطلَّ علينا الكاتب إسماعيل بهاء الدين بروايته “المُتَمْثَلوُن” الصادرة عن دار الأدهم للنشر والتوزيع بالقاهرة. وحسنًا فعل حينما شكّل أحرف العنوان حتى لا يختلط المعنى المقصود على القارئ، وربما لجذب اهتمامه لسبْر أغوار هذه الكلمة الجديدة التي ابتكرها الكاتب.

كنت محظوظًا أن التقيت بالصديق إسماعيل مع كوكبة من زملاء العمل الإذاعي والإعلامي القدامى أثناء زيارتي السنوية للقاهرة فأهداني نسخة من روايته “الساخنة الطازجة” التي خرجَت لتوها من فرن المطبعة. لم أستطع الانتظار طويلًا فشرعت في قراءتها وأنا في الطائرة ثم أكملت قراءتها لدى عودتي إلى واشنطن.

الرواية، كما جاء على غلاف الكتاب – الذي تُزينه لوحة تعبّر عن التشبث بالحياة للفنانة التشكيلية اللبنانية لينا أيدينيان – هي بالفعل فانتازيا واقعية، كما أراد لها الكاتب وكما وصفها هو على الغلاف الخارجي… فهي تُبحر بك بين عوالم وأزمنة وأماكن مختلفة، تاركة للقارئ حرية التخيل والإسقاط، فلا زمن محدد ولا مكان معين لوقوع الأحداث، ولكنك تستطيع أن تشتَمَّ بنفسك الإطار الزمني والمكاني كلما أوغلتَ في القراءة. غير أن الفكرة الرئيسية التي تهيمن على أحداث الرواية بزمَنَيْها أو فَصْليْها أو، كما استخدم هو اصطلاحًا سينمائيًا انطلاقًا من دراسته للإخراج السينمائي، “بوبينَتَيْها”، هي فكرة “تَمْثَلة أو تأليه” الحاكم بغض النظر عن كونه ملكًا أو رئيسًا أو أميرًا، وبصرف النظر عن مكان أو زمان الأحداث. فنجده يستخدم لقب “حضرة صاحب المعالي الملكية السامية، باعث نهضة الأمة ومخلّصها”، ولم يلجأ إلى استخدام “صاحب الجلالة مثلًا…”، ثم بعد تغيّر الحكم ودوران عجلة الزمن يستخدم لقب “قائد ثورة الفؤوس والمعاول والهراوات”، ثم “طويل العمر، فخامة القائد والزعيم والمعلّم، باعث نهضة الأمة ومخلّصها”. وبعد أن يدير الزمنُ عجَلَته مرة أخرى ويعود الحاكم الأول بعد أن شاخ وضعف وأخذ منه الاختباء مأخذه، يلجأ الكاتب إلى استخدام لقب “حضرة صاحب المعالي الملكية السامية، النور الهادي، العائد من غيبته القسرية”.

الكاتب إسماعيل بهاء الدين سليمان

 

أعترف أن القراءة استغرقتني أيّما استغراق لجمال الأسلوب ودقة السرد وبناء الشخصيات والأحداث، وقد صاغها إسماعيل بهاء الدين، رغم أنه لم يُطلق أي أسماء على شخوص روايته، بأسلوبه المميز الذي لم يخلُ من لمساته الشعرية. ربما أستطيع القول إن بعض الأسطر ينطق شعرًا، فتشعر وكأنك أمام ملحمة شعرية أو رواية قصائدية. لم يتخلَّ الكاتب في روايته عن أسلوبه الإيقاعي المتمثِّل في استخدام جمل قصيرة، قد تصل أحيانًا لكلمة واحدة من أجل تسريع الإيقاع وإيصال المعنى دون الشعور بالملل.

ثراءُ لغة الكاتب وغزارة مفرداته وتَمَكّنُه من أدوات البلاغة رسمت العديد من صور الاستعارة والكناية الفائقة الجودة التي أضفت جمالًا على السرد رغم مرارة الأحداث، كما أن إمساكه بناصية الشعر ساعده في المناورة والتأرجح بين نصاعة الألوان وسوداوية التفاصيل وهو يرسم لوحاته الوصفية للمشاهد المأساوية، فجاءت المشاهد متسارعة متلاحقة، الواحدة تلو الأخرى، في تناغم منضبط كإيقاع الحركات الأربع التي شكلت السيمفونية الخامسة “ضربات القدَر” لبيتهوفن. عندما يقول على سبيل المثال في صفحة 68:

“نوافذ المبنى محاطة بسياج من الحديد وسياج آخر من نسيج العناكب، وقد تآكل معظم أجزاء السياج الحديدي، وبقي معظم أجزاء السياج العنكبوتي…”

أو حينما يرسم حوارًا بين صاحب المعالي الملكية وأعوانه بعد عودته من غيبته القسرية في صفحة 79، فيجيئ ردّ الأعوان في أصوات تقطر حقدًا على النحو التالي:

“- فقدتُ يُمناي

– ضاعت يُسراي

– فقدتُ الاثنين وامرأتي

– لم يعد لي سوى نصف ساق

– عيني سقطت في كفّي

– عقلي رحَل إلى قدمي

– فقدتُ رجولتي

– احتلت العناكب صدري

– صار قلبي جُحرًا للفئران”

ندرك إذن أننا أمام كاتب وشاعر من العيار الثقيل.

لا يمكننا أيضًا أن نتجاهل دراسة كاتبنا السينمائية وشغفه منذ الصغر بالتصوير الفوتوغرافي والسينمائي، فهو ينظر إلى الأشياء من خلال عدسة كاميرا رباعية الأبعاد، ومن ثمّ تتضح له التفاصيل. لذا، فقد استطاع إسماعيل بهاء الدين بدهاء عيْن المخرج أن يمزج على نحو مثير وشيّق الخيالَ بالواقع، بل إنه أطلق العنان لخياله على نحو جامح وجريء، فيخبرنا في مستهل الفصل الثاني أو البوبينة الثانية كما أسماها في صفحة 121:

“معالم إمبراطورية صاحب المعالي الملكية العائد من غيبته القسرية قد تبدّلت وأن التغيير ضم كافة أوجه الحياة، أرضًا ونهرًا وسماء…

الشمسُ محورُ هذا الكون… أصابها داءُ القلب، وقرحةُ المعدة، وعدةُ أمراض أخرى مجهولة، فصارت تشرق يومًا وتغيب أيامًا، ويتردد أنها تفكر جديًا في التقاعد…

القمرُ، وليُّ عهدِ الشمس الشرعي… أضناه طول السهر، ضاعف غيابُ الشمس المتكرر من أعبائه ومسئولياته، فشحب وجهُه، وخبا بريقُ عينيه، ويقال إنه هو الآخر يفكر في التنحّي…”

 

وعلى نفس النسق، يمضي الكاتب في كناياته فيتحدث عن الأحوال المتردية التي ألمّت بالنهر والأرض والأشجار التي قهرها الجفاف، فانتشرت الأفاعي والحيّات والسوس والديدان. كما أنه في مواضع كثيرة يستخدم كلمات الفئران والخنافس والعناكب في إشارات متوالية إلى العفن الذي أصاب المجتمع. 

يطلق الكاتب صرخة إنذار أخرى في صفحة 152 بشأن ما آلت إليه الحالة الثقافية العامة من خلال حوار بديع بين شابٍ وشاعرٍ سابقٍ صار يبيع الروايات والمجلات الجنسية وأفلام الفيديو الفاضحة والمنشطات الجنسية وحتى المخدرات:

“- أنا أبحث عنك، وأفتّش عن دواوين شعرك منذ زمن بعيد.

– حان الوقت لتتوقف عن البحث عنّي، كما توقفت أنا عن الكتابة والقراءة، فأنا هنا أبيع ما تراه، وتجارتي رائجةٌ كما ترى، ولله الحمد والشكر.

– وأشعارك؟ ودواوينك؟

– أحرقتُ ما بقي منها منذ سنوات، رأفةً بها، فزماننا ليس بزمن شعرٍ ولا شعراء.

– أحرقْتَ أشعارك؟

– لا تفزع، كان الشعر قد مات داخلها قبل حرْقها بأعوام طويلة، قتلَه الزمنُ قبل أن تلتهمه النيران.

– وهل يموت الشعر؟

– مات وشبع موتًا، حتى أصبحت دواويني ودواوين مَن سبقوني أكفانًا تضم جثثًا كانت يومًا أشعارًا، فهل يرضيك أن أبيع للناس أكفانًا؟”

الكاتب يدق ناقوس الخطر قبل أن تتضاعف الديدان وتتضخم وتتوحش في نهاية الرواية فتصير أقوى وأعتى من الحيّات بما يمكّنها من تدمير كل التماثيل وقواعدها الرخامية والتهامها والقضاء في طريقها على اليابس وترك الأخضر. ولعلّ جرسَ الباب الذي يدقّ في شقة “المرحوم” بالصفحات الأخيرة هو بمثابة ذلك الإنذار، لا سيما بعد انهيار الأخلاق ونهش لحم البشر على أيدي المتواطئين مع الغرباء الذين رمز لهم الكاتب بتعبيرات “النائب العام الأشقر” و”الطبيب الشرعي الأشقر” و “الغرباء الجوّالون الشُقْر”.

لم تخلُ الرواية التي تعجُّ بالحديث عن القهر والعنف والدم والحشرات، من إشارة إلى لحظة حب صافية لم تكتمل إلى نهايتها بين الشاب القمريّ، ابن القمر المرهَق المنهَك، والفتاة الوحيدة التي كانت تأمل في العودة إلى مدينتها. وثمة إشارةٌ أخرى للأمل، تتمثل في هروب الشاب الأصغر وشقيقته الصغرى من بيت أبيهما الذي يزوّج ابنتَه الكبرى لثريّ عجوز من بلد مجاور، ثم يكتشف الأب أنه باعها بثمن بخس فينتحر. وربما أراد الكاتب بهذه الإشارات أن يفتح طاقة أمل وسط جدران القهر والعفن الذي يهيمن على الأحداث.

الرمزيةُ هي الصفة الطاغية على هذا العمل الأدبي، وعامل الزمن فيها قد تلاشى تمامًا لدى الكاتب، فالساعة عنده قد تصل لأسبوع أو أسبوعين، والشهر قد يمتد سنوات، والسنة قد تصبح قرونًا. أحسستُ في بعض الأحيان أني أتطلّع إلى “لوحة الساعات المنصهرة” للرسام السريالي “سلفادور دالي” التي ربما استوحاها من نظرية النسبيّة لـ “أينشتاين” ويرمز فيها إلى أن الوقتَ نسبيٌّ وليس محدَّدًا.         

العملُ في مُجمله لوحةٌ فنيةٌ مليئةٌ بالتفاصيل الدقيقة المتشابكة والمتوازية تحكي عددًا من القصص المتناثرة في زمنٍ ما ومكانٍ ما تربطها فكرةٌ رئيسية واحدة. وقد استطاع الكاتب بأسلوبه المبتكر أن يطوّع خيالَه وهو يسرد تلك الحكايات فخرجت عملًا أدبيًا ينبض بالحياة. ضربات القدر لبيتهوفن ظلت تتردد في ذهني كلما دقّ الكاتب ناقوس خطرٍ، بينما أضحت لوحات دالي السريالية ماثلة أمامي وهو يتحدث عن وقائع بلا زمن فيما ينشد مدينة فاضلة كتلك التي تمناها أفلاطون. لم يخطئ الكاتب حينما اختار لفصليّ الرواية اسم “البوبينة” فأنت حينما تقرأ الرواية تشعر حقًا وكأنك تشاهد أحداثًا فعلية تقع أمام ناظريْك.

***

(*) محمد عبد الكريم،إعلامي دولي ومترجم عمل مذيعا في الإذاعة والتليفزيون المصري والإذاعة اليابانية وإذاعة وتليفزيون صوت أمريكا مذيعًا ورئيسًا لتحرير الأخبار ومراسلا إذاعيًا ورئيسًا ومخرجًا لقسم البرامج الثقافية والوثائقية بصوت أمريكا.

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. مقال اكثر من رائع ينم عن ثقافة من كتبه وتمكنه من لغته العربية بالإضافة إلى ثقافته المتنوعة وربطها بالأحداث كإشارته للسيموفونية الخامسة لبيتهوفن والرسام العالمى سلفادور دالي.. مقال مشوق سيدفعنى لشراء الكتاب والتمتع به ان شاءالله