صورة السيّد المسيح في أعمال جميل الدويهي النثريّة

Views: 10

 كلود ناصيف حرب

(كتبت أغلب هذه المقالة بناء على مقابلة هاتفيّة أجريتها مع الدويهي في 9-3-2020)

خلال مطالعتي لأعمال الأديب المهجري د. جميل الدويهي، لم أعثر على صورة واحدة للسيّد المسيح في شعره، وهذا يعود إلى أنّه يركز في قصائده على مواضيع غير إيمانيّة، كالحبّ والغزل، والوطن، والمواضيع الإنسانيّة. ولم أستطع العثور في شعر الدويهي على إشارة واحدة تدلّ على السيّد المسيح. بيد أنّه في نثره، وخصوصاً في كتبه الفكريّة يولي لشخصيّة المسيح أهميّة خاصّة، ويعطيه حيزاً كبيراً من أفكاره، وربّما تطلّعه إلى المسيح الفادي كأساس للخلاص البشريّ. فكلّنا نعلم أنّ الدويهي، في كتابه الفريد “في معبد الروح” يعتقد أنّ الخطيئة ليست طريقاً للموت، وهو يرى أيضاَ أن النزوات تحرّر الإنسان من الشوق، ويُصوّر الخاطئ وكأنّه نسيَ أن يضع زيتاً في قنديله، فانطفأ القنديل، وأسرع صاحبه إلى ملئه بالزيت ليشتعل من جديد. وكأني بالدويهي ينظر إلى يسوع كرجاء للخلاص من الخطيئة ومن النزوات.

وقد عثرتُ على عدة نصوص في أعمال الدويهي تخْبر عن المسيح وأهمّيّته وقدرته الفائقة على التغيير. ففي الكتاب الرائع “تأمّلات من صفاء الروح” (ص 25)، وتحت عنوان “المرأة والغلام وقصّة الينبوع”، يروي الدويهي قصّة قصيرة من خياله المبدع، حيث يكون هو الكاهن في المعبد ويأتي إلى الساحة ولد صغير وامرأة، ويتجادلان، فتطلب المرأة من الولد أن يساعد الناس في زمن الجفاف والقحط، لكنّه يتذرّع بأنّه ما زال طفلاً. وفي النهاية يرضخ لطلب أمّه وينبثق نبع من الأرض ليروي العطاش ويسقي الزرع.

هذه الأقصوصة هي حكاية عن أعجوبة لم يرد ذكرها في الكتاب المقدّس، فنحن نعرف أنّ أعجوبة قانا، أي تحويل الماء إلى خمر، هي أوّل عجائب السيّد المسيح، وكان في طور الشباب. فهل خالف الدويهي نصوص الكتاب المقدّس؟ وهل يستحقّ العقاب على هذه المخالفة؟

بالطبع هو خالف النصوص، إلاّ أنّها مخالفة محبّبة، يشفع بها خيال الأديب من جهة، ومحبّته ليسوع والمرأة – مريم العذراء من جهة ثانية. فليس في المسيحية نصوص متزمتة، ولا عقوبة تفرض على الذي يخالف ما كتبه الرسل في الأناجيل الأربعة. وهذه الإضافة لو أحلْناها إلى مرجع كنسيّ، لفرح بها، وأثنى على فكر هذا الأديب العبقريّ الذي يبتكر ما لا نعلمه، ويضيف إلى الحضارة.

وفي كتابه الفكريّ الرابع “هكذا حدّثتني الروح” يعود الأديب العبقريّ إلى صورة المسيح، ففي نصّ بعنوان “كلمة خطيئة” (ص 48)، يكون هو الشاهد على الغفران، إذا يطلب منه والده أن يذهب إلى الناصرة، وهناك يتعرّف بالمسيح ويشاهد بأمّ العين ما يفعله. وعندما يُصلب المسيح ويسلم روحه لأبيه السماوي، يعرف الدويهي أنّ كلمة “خطيئة” التي كانت محفورة على جبينه قد أمّحت إلى غير رجعة.

فما أجمل خيالك ايّها العبقريّ من بلادي! وما أرفع أدبك وأرقاه! كيف أنّك تأخذ التراث وتحوّله إلى ذهب جديد؟

القصّة القصيرة هنا تنسجم مع الفكر المسيحيّ، لكن بأسلوب أدبيّ وفلسفيّ شفّاف وأنيق. فالدويهي لا ينسخ، بل هو يستخدم التراث ليوصل فكرة جديدة، وغير مسبوقة. (https://paradiseweddingchapel.com/) ونحن نعلم أن الكلمة عندما تكون محفورة على جبين الإنسان إنّما تعبّر عن العبوديّة والذلّ… وعندما تمُحى يتحرّر المرء من عبوديّته.

وفي نصّ آخر بعنوان “الخطيئة” – الكتاب الفكريّ الثالث “رجل يرتدي عشب الأرض” (ص 16)، يبقى الدويهي في محور الغفران، فيروي قصّة قصيرة عن امرأتين، واحدة غنيّة ومحافظة، وأخرى في الشارع تبيع جسدها. وعندما يمرّ شابّ فقير ويطلب المساعدة، تسارع المرأة الغنيّة التي تتباهى بشرفها إلى إغلاق النافذة، أمّا المرأة الخاطئة فتعرض على الشابّ بعض النقود التي جمعتها من “تجارتها”، ويرفض الشاب أخذ النقود لأن للمرأة أطفالاً عليها إعالتهم. وبينما هو يغادر الشارع يقول لها: “خطيئتك خلّصتكِ”…

رائع ورائع ورائع… كيف تمكن الدويهي بحنكته الروائيّة، وهو واحد من أبرز كتّاب القصّة في المهاجر، من تدوير النص وإخراجه بهذه الطريقة المذهلة. ويمكنني أن ألخّص هنا رأي الدويهي في الإيمان، فهو يرى أن المرأة الشريفة المحافظة لم تحقق غايتها الإيمانية وإن أسرفت في الحديث عن نفسها، وافتخارها بأنها لا تخرج من البيت إلا مع زوجها، بينما المرأة الأخرى التي تبيع وتشتري، فقد حققت غايتها ولو بالمال الذي جنته من تجارة جسدها، لذلك يقول لها الشاب، وهو المسيح نفسه: “خطيئتك خلّصتك”. وفي تقديري أنّ هذه الجملة “خطيئتكِ خلّصتكِ” لم يقلها أحد في التاريخ قبل المسيح الذي يتصوّره الدويهي، فالأناجيل تذكر دائماً عبارة “إيمانك خلّصك”. والوصول إلى هذا النقيض في التعبير عن الإيمان، وتقديمه بطريقة أدبية فائقة العذوبة، لا يكونان إلا من خلال عبقرية فذة. فحال المرأة كحال مريم المجدليّة، وكلّنا نعرف قصّتها ونستوحي منها.

ولعلّ شغف الدويهي في طلب الغفران هو ما يجعله يلحّ على المسيح بهذه الصورة، فكأنّه طفل نادم من كل قلبه على ما اقترفه من خطايا أو أخطاء في حياته، فلنسمعه في نصّ بعنوان “العبوديّة” – كتاب “رجل يرتدي عشب الارض (ص 58)، وهو يحرر العبيد ويطلق سراحهم، حتّى يصل إلى مكان يجد فيه رجلاً مصلوباً، ويقول عن حالة الرجل: ”رأيت ذات يوم على تلّة عالية، رجلاً في مقتبل العمر مصلوباً، وقد عرّاه صالبوه من ثيابه، فانخلع قلبي لرؤيته معذّباً ومهاناً، وصنعتُ سلّماً من الخشب، فصعدت إليه، وأنزلته عن الصليب، وكنت أقول في نفسي: ليته يكون الناصري، فيكون شأني كلصّ اليمين، وأكفّر عن خطيئتي”.

مشهد الجلجلة يتكرّر هنا، والفارق الوحيد أن الدويهي عاش في ذلك العصر بخياله، وصعد ليخلّص الناصري، متمنياً أن يغفر له خطاياه كما غفر للص اليمين… وهذا يؤكّد ما أذهب إليه، من أن الدويهي “يشتهي” الغفران، ويطلبه من إله الغفران. وتتوضح الرؤية أكثر في نص بعنوان “البحث عن بارباس” من كتاب “هكذا حدثتني الروح” (ص 41). حيث يكون الدويهي نفسه في النص قاضياً متقاعداً يبحث عن باراباس لمحاكمته، ففي اعتقاده أن الذي صلبَ لم يرتكب جناية، وقد أطلق سراح باراباس من غير حق، فينبغي محاكمته ولو طالت السنين. وعندما يدخل الدويهي إلى معبد في إحدى المدن باحثاً عن المجرم الفارّ باراباس، يكتشف أنّ جميع من كانوا في العبد يحملون اسماً واحداً، هو اسم “باراباس”.

فكرة غريبة، وموجعة أيضاً تأتي بها قريحة الأديب. وقد كتبتُ فور نشر الدويهي لهذه القصة على فايسبوك، مقالة بعنوان “رؤية في نصّ البحث عن باراباس”. وبينت في المقالة ما يقصده الدويهي من الحكاية التي قد تكون مغلقة ولا يفهمها البعض. فقلت: “لماذا يحمل جميع الناس اسم باراباس؟ فهذا هو قلب النصّ والعقدة والرمز. وأغلب الظنّ أنّ الدويهي يستعيد لحظة تاريخيّة، يعتبرها يوماً أسود في تاريخ البشريّة، حيث أنّه في اللحظة التي أُطلِقَ فيها سراح باراباس، تحرّرت الإنسانيّة كلّها، وصار الناس يحملون اسمه لأنّهم حصلوا على العفو المجّاني، بينما صُلبَ البريء وتحقّقت عدالة السماء.

هذا ما فهمتُه من النص، فمن المستحيل أن يكون جميع الناس يحملون اسم “باراباس”، والدويهي نفسه لا يحمل هذا الاسم، لكنّه، ونحن معه أيضاً، نحمل سمات باراباس: المدانون والمربوطون بالجنازير، والمثقلون بالقيود، خرجنا من الغياهب، وحطّمنا حديد السجن، لننطلق إلى الحرّيّة مع الذي حرّرنا جميعا: المصلوب عنّا ومن أجلنا”.

نعم، هكذا يضيء الأديب المهجري د. جميل الدويهي بفكره المشع… وهذه المرّة من زاوية إيمانيّة، تتصل اتصالاً مباشراً بالعقيدة المسيحيّة، على الرغم من أنه أديب إنساني شامل، ولا يعتبر أنّه مهووس بالدين… إنّه يشرح بطريقته المدهشة والصادمة حقائق يؤمن بها، ويعتبرها من أسس إيمانه، في قالب فنّيّ، على طريقة الأديب المفكّر الذي يرقى بالأدب إلى مستوى رفيع، ليس فقط في اطار الجماليّة، بل في إطار فلسفيّ له دلالات عميقة، ويبعث على الوحي والتأمّل.

***

(*) من كتاب “هذا الأديب من بلادي – كتبت في جميل الدويهي” يصدر في ٣٠ حزيران المقبل.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *