لبنان من الحياد إلى السيادة

Views: 494

د. دعد بو ملهب عطالله*

مسألتان شغلتا الأفكار، منذ عقود، واستدرجتا اللبنانيين إلى مواقف متفاوتة كما إلى ردود أفعال متضاربة وربما متعادية أحياناَ. اليوم ما زالت هاتان المسألتان الجوهريتان تستوجبان التوقف ملياً مرّة جديدة عند أهميتهما بالنسبة  لمصير اللبنانيين عموماً وخاصة لمصير الوطن. فالموضوع مطروح حالياً بشكل حادّ لجهة المواقف الإقليمية والدولية التي تتعامل مع لبنان، خاصة في أزمته الاقتصادية والماليّة الصاعقة، على أساس ضرورة القيام بإصلاحات بنيوية سياسية واقتصادية في آن. ولبنان يبدو عاجزاً عن القيام بمثل هذه الإصلاحات بالنظر إلى تركيبة السلطة فيه والمتّهَم الأبرز في هذه العقدة هو دور حزب الله في القرار اللبناني المرتبط عضوياً بالجمهورية الإيرانية.

للبحث في هاتين المسألتين معاً لا بدّ من تبرير العلاقة بينهما نظرياً وعملياً وأتجرّأ وأظن بداية أن العلاقة بين المسألتين والمفهومين، وما قد يقع بينهما، قد تكون وثيقة في حالتنا الحاضرة لما في ذلك من إيجابية مفترضة في مصلحة الوطن.

 أما المسألتان فهما مسألة الحياد ومسألة السيادة. هل يمكن اعتبار البحث في أيٍ منهما بحثاً في إشكالية تحتمل الأخذ والردّ سياسياً وإيديولوجياً؟ في الأساس موضوع المفهومين محسوم، وإلى حدّ بعيد، على الصعيد الدولي أي في مجال العلاقات الدولية. وهما قد نصّ عليهما القانون الدولي المعاصر بوضوح. الحياد بحسب هذا القانون اختياري وقد يكون ظرفياً أو دائماً، بينما السيادة فهي صفة تحصل عليها الدولة باستقلالها دولياً ويبقى من أولى مهامها الحفاظ عليها داخلياً وخارجياً.

***

إن واقع لبنان المأزوم حالياً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً يجعل البلد وشعبه في مهب الريح  لجهة نظرة معظم الأشقاء والأصدقاء إلى موقعه وخياراته. فالعودة إلى الإشكالية القائمة حالياً، في مطلع العقد الثاني من القرن العشرين، أصبحت ضرورية بالنظر إلى تعامل الآخرين معه في محنته المصيرية. العديد من الأفرقاء الذين بإمكانهم تقديم العون له أخذوا يضعونه في موقع معادٍ وبالتالي هم غير جاهزين لمساعدته. وبالتالي، إن تخلّي هؤلاء الأشقاء والأصدقاء عن لبنان كونهم يرون فيه حليفاً للفريق الذي يعادونه، يعني أن على لبنان المحتاج إلى مساعدتهم أقلَّه إعلان حياده بين الطرفين واعتماد سياسة متوازنة في هذا الإطار.

إذن، وفي هذا الواقع هل على لبنان في حاجته إلى العون الامتثال للنصائح والانتظارات الدولية؟ وبالتالي إن هو فعل يعود التعامل معه على أساس كونه دولة سيّدة غير تابعة لتوجيهات الفريق المعادي. اللبنانيون الواقعون بين المطرقة والسندان، اليوم أكثر من وقت سبق، يجدون أنفسهم مقيّدين في خياراتهم الإقليمية والدولية. من هذا المنظار بالذات يقوم بحثنا حول إشكالية العلاقة ما بين الحياد والسيادة.

– أولاً، ينطلق الحياد أساساً من همّ اتخاذ جانب أحد طرفين في نزاع معين. وقد يكون كلا الطرفين عزيزين أو هما قد يكونا خطرين مخيفين بنظر الباحث عن الحياد. أما “إبعد عن الشرّ وغنّي له” فقد يكون أحد تفسيرات البحث عن الحياد في العديد من الحالات. هذا يعني خوف هذا الفريق من تلقّي ضربات من أحد الجانبين (وربما من كليهما) وبالتالي تحمُّل ما لا يقدر عليه. وتؤكّد الأمثلة التاريخية على صواب اعتماد الحياد كما هي حال الدانمارك في سنة 1870، أو الحالات الأقرب مثل سويسرا والنمسا وإيسلندا والسويد.

تذهب مسألة الحياد من الحياد “الكامل”، الذي لم يعد يتلاءم مع النظام الدولي القائل بضرورة تضافر القوى ل”ردع المعتدي” إلى الحياد “الواقعي” حيث يمكن إعلان الحرب دون الدخول فيها كما حصل بخاصة مع نهاية الحرب العالمية الثانية وشرط الانضمام إلى الأمم المتحدة (هكذا مثلاً أعلن لبنان شكلياً الحرب على دول  المحور في  أوائل سنة 1945). ويحتمل الحياد المعلن رسمياً الذي يقضي بعدم دعم أي فريق في نزاع معيّن الحيادَ “المسلّح” الذي يضمن حقوق الدولة المحايدة بتجهيز جيوشها وتحصين حدودها. كذلك يسمح الحياد بالتمتع بحرية علاقات الدولة المحايدة التجارية مع الدول المتحاربة.

وما لبث أن برز موقف دولي من مسألة الحياد في ظلّ النزاع الدولي الكبير الذي تجلّى في ظلّ الحرب الباردة، غداة الحرب العالمية الثانية، أي في واقع انقسام العالم بين فسطاطين إيديولوجيين وعسكريين أي الشرق والغرب. هنا برز إذن ما عُرف ب”حركة عدم الانحياز” إلى أيٍ من الطرفين بمعنى عدم الدخول في أي من المعسكرين حفاظاً على استقلالية عدد مهم من الشعوب والدول خارج إطار الحرب الباردة. كان أقرب التحديدات لهذا النهج في العلاقات الدولية ما عُرف ب”الحياد الإيجابي” الذي لا يعني العزلة ولا السلبية في هذه العلاقات الدولية إنما هو عنى بالأخص التطور في السلم وعدم الخضوع المطلق لأهداف أيٍ من الدولتين العظميين.

 بالفعل، إن الحياد الإيجابي احتل موقعاً مهماً، بالأخص في ستينات القرن العشرين، في توصيف المواقف الدولية من قبل العديد من الدول وفي مقدّمها عدد من دول العالم الثالث. أخذت هذه الدول بالإنضواء في حركة عدم الانحياز تهرّباً إذن من الوقوع تحت هيمنة إحدى الدولتين العظميين وما قد يقابل ذلك من عواقب أبرزُها انعكاسات استعمار “حديث” وهي التي كانت بمعظمها لا تكاد تنفض غبار الاستعمار التقليدي عن كيانها الضعيف. هنا اعتُبر “الحياد الأيجابي” بمثابة خط سياسي يقتضي أن “تتفاعل الدولة سياسياً مع الأحداث العالمية وأن تشارك في حلّ مشكلات المجتمع الدولي على أساس من عدم الانحياز وحسبما تمليه مبادئ العدالة الدولية بهدف الوصول إلى تحقيق الأمن والسلام العالميين”[1].

حركة عدم الانحياز

***

ويأتي مفهوم “النأي بالنفس” في سياق الحياد “الإيجابي” بمعنى أن الدولة التي تجد نفسها، في ظروف معينة، محاطة بقضايا وقوى دولية أو إقليمية تهدّد أمنها ومصالحها وربما مصيرَها بإمكانها تحييدُ نفسها عن تلك القوى أو النزاعات أو القضايا المحيطة. الهدف من النأي بالنفس هو إذن بالأخص حماية الكيان والمكتسبات من انعكاسات سياسات أو أحداث قد تكون سلبية من دون أن تكون لسلطات ومعظم شعب الدولة المعنية رأي أو موقف فاعل ومؤثّر في مجريات الأمور.

– ثانياً، أما السيادة فهي القاعدة والصفة الأساسية التي تتميّز بها الدولة المعاصرة مبدئياً بمجرّد إعلان استقلالها. طبعاً، كان هنالك نقاش مستفيض ما بين كبارٍ من الباحثين في القانون  الدولي المعاصر حول ما إذا كانت السيادة توازي أحد المكوّنات الأساسية للدولة على غرار الأرض والشعب والسلطة، أو إذا هي كانت مجرّد صفة تلازم الكيان الدولي. يبقى مثل هذا النقاش على المستوى الفكري والنظري وهو لا يعنينا فعلاً عند البحث في أهمية معطى السيادة بالنسبة للدولة بما يخص صلاحيتها الحصرية، أي صلاحية السلطات الشرعية فيها دون سواها، على حقّ القرار الكامل في كافة الشؤون الداخلية والخارجية.

منذ عقود، وفي ظلّ هيمنة القوتين العظميين، تأكد أن النظام الدولي يضمن أصلاً سيادة الدول من حيث إنه لكل دولة مصالح وطنية ولها أن تعمل على تحقيقها. هذا يعني كون الدول متساوية في السيادة بغض النظر عن أحجامها ومقدّراتها. في السيادة لا توجد دولة كبيرة وأخرى صغيرة. فلا توجد قوة في العالم المعاصر مهما عظم شأنها تستطيع أن “تنكر على الدولة صفة السيادة”[2].

ويشمل “حق السيادة” الإقليم الجغرافي في نطاق اليابسة كما في البحر الملاصق أي “البحر الإقليمي”[3] كما الفضاء الذي يغطي مجمل هذه المساحة وأعماقَها. ويشمل هذا الحق كلَّ ما يقع ويعيش وينمو في نطاق البعدين السطحي والعمودي لهذه المساحة. وتمتاز الدولة بمجرّد استقلالها بال”إستئثار” بمعنى أنه ” لا تمارس الاختصاص في إقليم محدّد إلا دولة واحدة” وهذا الاختصاص هو “شامل غير محدود” في إطار “الحرية في ممارسة الاختصاصات”[4].

إن هذه العناصر الثلاثة العائدة للدولة قانونياً أي : الاستئثارَ، وحريةَ ممارسة الاختصاصات، وشموليتَها، تعني واقعية الاستقلال. إذن لا شريك لمؤسسات الدولة الشرعية في ممارسة الاستقلال ببعده الواقعي القانوني أي السيادة. إذن هذه هي العناصر المعترف بها عموماَ نظراً لمسؤولية الدولة في الحفاظ على ذاتها ومقدّراتها في عالم يسوده نوع من الفوضى وعدم الاستقرار[5]. وهكذا يكون الاعتراف المتبادل بالسيادة الشاملة يعني بشكل من الأشكال حمايةَ الذات قانونياً كما واقعياً للدول. طبعاً، يبقى أن التفاعل والتكامل كما موازين القوى بين الدول كلها تشكل، مجتمعة ومنفردة، حدوداً حتى لا نقول عوائق أمام الممارسة الفعلية والشاملة والمطلقة لسيادة الدولة.

***

لبنان ومفهوم الحياد

قام لبنان المعاصر الدولة السيّدة، بحسب النظام الدولي القائم، على أساس أنه دولة ارتضى شعبها الحياد إقليمياً ودولياً. أتى خطاب رياض الصلح، رئيسِ الحكومة الأول بعد إعلان الاستقلال عن الانتداب الفرنسي والذي نال شبه إجماع في المجلس النيابي، في 7تشرين الأول سنة 1943، تعبيراً واضحاً عن “إرادة سيادةٍ وطنية كاملة” في ظلّ علاقات إقليمية ودولية تقوم على “أسس متينة تكفل احترام الدول العربية لاستقلال لبنان وسيادتٍه التامة وسلامةِ حدوده الحاضرة، فلبنان وطن ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب”[6].

ومن ثمّ، كان لبنان من أوائل الدول التي قالت بعدم الانحياز دولياً لكن كونَه عضواً مؤسساً في جامعة الدول العربية كان عليه (كما على بقية أعضاء هذه المنظمة الإقليمية) التضامن مع القضايا التي تهم المجموعة العربية وعلى رأسها بالطبع القضية الفلسطينية. ثم أتت  مسألة حدوده مع نشاط المنظمات الفدائية الفلسطينية عبرها وإعتداءات إسرائيل على أراضيه. بالطبع، في هذه الحالة لا مجال للكلام عن حياد بل هو نزاع مستمر منذ عقود بمختلف الأدوات.

عمد لبنان عموماً إلى احترام ميثاق جامعة الدول العربية منذ نشأتها إن لجهة التضامن أو لجهة مجابهة الإشكالات التي تحصل من حين إلى آخر ما بين الدول الأعضاء تجاه بعض المسائل القومية أو المواقف الخاصة. عملياً، حاول لبنان اعتماد عدم الانحياز إقليمياً، كما فعل دولياً، وعندما أمكن عدم الخروج عن الإجماع العربي. وفي بعض الأحوال، وجد نفسه في موقع صعب ومحرج وقد تكون  المسألة السورية طيلة العقد الماضي من أبرز هذه الحالات، وعلى الأقل أكثرَها تعقيداً، والتي كان على بيروت مواجهتُها على مستوى الجامعة العربية كما داخلياً. في هذا السياق بالذات أتى الكلام عن النأي بالنفس الذي يحمل بطيّاته أكثر من تفسير وموقف.

بالعودة إلى وجهة النظر الدينية، اعتبر البعض “النأي بالنفس” قاعدة ومبدأ أزلي”. والمقصود يكون النأي “عن كل ما هو ضارّ” وأن “سياسة النأي بالنفس تعني عدم الاعتداء على الغير أو الإنزلاق إلى جانب المعتدي الظالم ولا تعني السكوت عن الدفاع عما هو حق وعدل”[7]. أما في السياسة فمسألة اعتماد “النأي بالنفس” إضافة إلى كونها غير اعتيادية في عالمنا الحاضر هي “تفتقد إلى مرجعية قانونية وسياسية على حدّ سواء” برأي البعض وهي “موقف اللاموقف”[8]. وفي السياسة اللبنانية شاع المصطلح ومعه المفهوم، في سنة 2011(في ظلّ حكومة الرئيس نجيب ميقاتي). وأصبح النأي بالنفس “معياراً سياسياً” من حيث اعتبار أن مصلحة لبنان العليا تكمن في النأي بنفسه “عن الكثير من المواضيع العربية” دون أن “يكون على عداء مع أي طرف عربي”. في ظلّ هذا “النأي بالنفس” تمّ بالأخص تدخل حزب الله في الشأن الداخلي السوري إلى جانب السلطة السورية في وقت كان معظم الدول العربية يقف ضدّ هذا الجانب. كيف يمكن فهم “النأي بالنفس” في هذا السياق؟ هل كان حزب الله هو نفسه الذي شجّع الأطراف الللبنانية الأخرى على اعتماد هذه السياسة “ليتخطى الحكومة متى يناسبه ذلك” كحجّة لدخوله إلى سورية كما رأى البعض لاحقاً؟[9].

***

وعادت الحكومة اللبنانية تؤكد سياسة “النأي بالنفس” بهدف “الحفاظ على استقرار البلد” مع رئيسها سعد الحريري على إثر استقالته السعودية ، في 6كانون الأول 2017. لكن أحداً لم يأخذ ذلك الموقف على محمل الجدّ أي “قولاً وفعلاً” كما أُعلن رسمياً لكون “لبنان كان يدّعي النأي بالنفس ولم يلتزم بذلك”[10].

وفي السياق السياسي اللبناني نفسِه أتى “إعلان بعبدا”، في 11 حزيران 2012،الذي صدر عن “هيئة الحوار الوطني اللبناني” التي دعا إليها رئيس الجمهورية ميشال سليمان. قال البند الثاني عشر من هذا الإعلان ب”تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية وتجنيبِه الانعكاسات السلبية للتوترات والأزمات الإقليمية، وذلك حرصاً على مصلحته العليا  ووحدته الوطنية وسلمه الأهلي، ما عدا ما يتعلق بواجب إلتزام قرارات الشرعية الدولية والإجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقّة، بما في ذلك حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم”. ونصّ البند الأخير من الإعلان على أن “يلتزمَه جميع الأطراف وتُبلَّغ نسخة منه إلى جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة”[11].

لقد أتى هذا الإعلان ليؤكّد إرادة “التحييد” عن النزاعات الحاصلة في المنطقة بما لا يقبل الشكّ وليس فقط “قولاً”، على الأقل رسمياً. واللافت أن هذا الإعلان تمّ بموافقة الأطراف السياسية اللبنانية كافة بما فيها حزب الله الذي كان قد بدأ، في هذه المرحلة، يبرّر التدخل في المجال السوري في أعقاب الثورة السورية من أجل حماية لبنانيين، خاصة من الشيعة، يقيمون في قرى على الجانب السوري (منطقة القصير).

الآن، وبعد سبع سنوات ونيّف، يمكن التأكيد بأن “تحييد” لبنان عن الصراعات والمحاور الناشطة في محيطه العربي، وبعد توسّع دور حزب الله في النزاعات المسلحة، خضع كما الإعلان عنه لموقف الحزب بأن “هذا الإعلان ولد ميتاً” كما ورد على لسان رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد. طبعاً كان حزب الله قد وافق بداية على الإعلان لمنع بعض الأفرقاء اللبنانيين من إمداد الثوار في سوريا بالمساعدات وقبل أن يتبيّن أن السلطة السورية غير قادرة وحدها على إخماد الثورة.

هكذا إذن سرعان ما تبيّن أن “النأي بالنفس” كما “التحييد” غير قابلين للتطبيق في ظلّ موقع حزب الله في الحكم في لبنان. إن فائض القوة فرض نفسه إن بالسلاح المتطور الذي تدفّق عليه من وليّ الأمر وإن بالخبرة القتالية المتقدّمة في الحروب الأهلية وإن بالموقع الإقليمي وخاصة الدور المميّز وربما المنقذ بالنسبة للحكم في سوريا.

أما وقد وصل لبنان إلى وضع مقلق مالياً واقتصادياً ونقدياً وحياتياً وبالتالي اجتماعياً ومعيشياً هل يكمن منطلق الحلول بالدرجة الأولى في مسألة التحييد؟

بالطبع، يكون الردّ بالإيجاب إذا كان لا بدّ من الدعم الخارجي الذي كان قد تعوّد عليه اللبنانيون خاصة في العقود الأخيرة. لكن المصادر الممكنة لمثل هذا الدعم هي التي تدعو أقلّه إلى تقزيم حزب الله وإلا فهي ليست مستعدة لدعم دولة يسيطر على قرارها حزب موضوع على لائحة الإرهاب من قبل عدد من الدول وبخاصة تلك التي بإمكانها تقديم العون. وكانت قد وصلت الإشارات الواضحة منذ أكثر من سنتين وقد يكون أبرزَها إضطرارُ رئيس الحكومة اللبنانية (سعد الحريري) إلى تقديم إستقالته من الرياض في أواخر سنة 2017. ومن جانب آخر، قد تكون زيارة علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني إلى بيروت، في أواسط شباط 2020، ومقابلة الرؤساء الثلاثة (ومن بينهم رئيس الحكومة الجديد حسان دياب) ذات دلالات واضحة بالاتجاهين الإقليمي والدولي بمعنى ألا ينسى أحد السطوة الإيرانية على الحكم في لبنان عبر حزب الله. كيف يمكن في هذه الحالة أن يوظّف اللبنانيون قولهم بالحياد تجاه القوى القادرة على دعمهم اقتصادياً ومالياً في أزمتهم وهي تعادي النظام الإيراني وتتهمه بالإرهاب؟

لاريجاني في قصر بعبدا خلال زيارته بيروت

***

إن إرادة معظم اللبنانيين بتحييد بلدهم وتفادي مخاطر النزاعات الإقليمية والدولية تبدو واقفة أمام جدار صلب مدعّم لبنانياً من فريق حزب الله الذي لا يقدر أحد في الداخل على هزيمته في الظروف الراهنة. فحزب الله يرى أن لبنان لا يمكن أن يكون حيادياً في المسائل المصيرية الكبرى كونَه جزءاً من “المقاومة الإسلامية” التابعة لولاية الفقيه وهو يشكل فصيلاً في جيش الوليّ. وبالتالي هل يكون حلّ المعضلة اللبنانية ممكناً خارج هذا المنطق؟

بالفعل، إن الدول العربية والأوروبية والأميركية التي اعتاد اللبنانيون على دعمها لبلدهم في محنه خلال العقود الماضية تبدو غير مستعدّة على الاستمرار في تدعيم قوة حزب الله عبر دعمها للبنان الدولة حيث إن الحزب أصبح عملياً صاحب الكلمة العليا في الشأن اللبناني وتقريباً من دون مواربة. إذن، هل لم يعد أمام لبنان سوى عرض المساعدة الآتي من طهران مجسّداً بزيارة لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني (في  17 شباط 2020) في أدقّ الأوقات إقليمياً؟ وهل طهران قادرة أصلاً على تقديم العون للبنان وأهلُها يعانون مأزقاً إقتصادياً واجتماعياً ربما أكبر من المأزق اللبناني؟[12]

الحياد ممنوع (مع النأي بالنفس) الذي سبق وتوافق عليه اللبنانيون منذ الاستقلال حمايةً، للذات من الرياح الشرقية كما الغربية، وبالتالي الخروجُ من الأزمة يبدو بمثابة أحجية قد تكون شبهَ مستحيلة الحلّ. لكن ربما تأتي هذه الأزمة فرصة لاعتبار أن أصدقاء لبنان التقليديين يتخلّفون عن دعمه وبذلك هم يتركونه لمصيره في عهدة حزب الله وبهذا سقوطُه كلياً في حضن تيار الممانعة والمقاومة. هل مثل هذه الفرضية مقبولة جيوسياسياً على الصعيدين الإقليمي والدولي؟

إقليمياً :- أولاً إن إيران وريثة الأمبراطورية الفارسية، التي مدّت نفوذها مع جيوشها إلى المتوسط في التاريخ القديم، تجد في لبنان عبر ذراعها العسكري الأصيل محلياً (حزب الله) الفرصة الذهبية لتحقيق حلم تاريخي. قد يكون حلم العظمة قد راودها في كل مرّة كانت قوية كفاية لكنها كانت دوماً غريبة بعيدة، أما بعد الثورة الإسلامية ونشأة حزب الله في لبنان لم تعد تظهر غريبة بشكل فاقع كما في الأزمان السالفة. بعد التعاون مع سوريا ودعم السلطة فيها في وجه الثورة خلال سنوات مع الوعد بتحقيق الحلم، ما لبث أن أصبح التوفيق غيرَ مؤكد بالنظر إلى التدخلين التركي والروسي على الساحة السورية. هل “الحراك” أو “الانتفاضة” أو “الثورة” في لبنان قد تجرّ البلد إلى ما يشبه ما حصل في سوريا وبالتالي يؤدي الإنهيار الاقتصادي والمالي إلى السقوط فريسة سهلة لأي طرف متأهّب وقادر؟

-ثانياً، على الجانب العربي، لا بدّ من الإشارة إلى تراجع قيمة لبنان الجيوسياسية كوسيط بين الشرق والغرب وكمركز مالي رئيس وإحطياتي معاً وكذلك كقبلة سياحية وثقافية وصحّية. إن العلاقة التقليدية بلبنان الانفتاح على العالم فقدت الكثير من وقعها لدى الأجيال الجديدة من المسؤولين العرب. كذلك، إن لبنان من جانبه فقد تلك القدرة التي كان يتميّز بها رجالاته في علاقاتهم مع الأشقاء العرب عموماً. وأما من الناحية الستراتيجية، فليس لدى القيادات العربية عموماً (في ما عدا سوريا) أطماع جغرافية وسياسية في لبنان بالذات الذي أصبح أقرب إلى عبء عليها وإن لم يكن بنفس المستوى من المسألة الفلسطينية. لكن هذه الدول تبقى معنية ستراتيجياً بلبنان في مواجهة الخطر الإيراني وإلى حدّ ما التوسع التركي، وإن بشكل غير لافت.

الحرب السورية

***

أما دولياً، فإن التركيز قائم على سوريا من قبل روسيا بشكل خاص في وقت تراقب فيه الولايات المتحدة مسار النزاع القائم في هذه الدولة الجارة للبنان، كما أنها تعطي الأفضلية للوضع الإسرائيلي على ما عداه في المنطقة. وصحيح أن موقع لبنان بالذات تراجع جيوسياسياً بالنسبة للدول الكبرى فالاهتمام به، خاصة أميركياً، أصبح يمرّ عموماً عبر الدور الإيراني الإقليمي أي بالنظر إلى موقع حزب الله خاصة في السلطة اللبنانية.

 تبقى فرنسا دون غيرها من الدول الكبرى تعير لبنان إهتماماً خاصاً واضحاً. إن العلاقة التاريخية والثقافية لها تأثيرها بلا شك ففرنسا التي تحاول الحفاظ على علاقات طيبة عموماً مع مختلف الدول الإقليمية هي تعتبر لبنان موقع ارتكاز خلفي لمصالحها في المنطقة. ولا ينسى المسؤولون الفرنسيون عموماً التذكير بالعلاقة الخاصة مع لبنان واللبنانيين. كان ذلك واضحاً في تصريح وزير المال الفرنسي بالقول في عزّ الأزمة الإقتصادية والمالية والنقدية اللبنانية إن “فرنسا مستعدة دائماً لمساعدة لبنان. لقد كان الحال دائماً في الماضي وسيكون هذا هو الحال في المستقبل” و”لا نريد خلط قضية التعافي الاقتصادي في لبنان…ومسألة إيران”[13]. وفي مثل هذا التصريح الدلالة الواضحة، حتى لا نقول الكافية، في التعامل العربي والدولي الحالي مع لبنان وكأنه امتداد لطهران.

عموماً،كلُ الدلائل تشير بالفعل إلى تراجع موقع لبنان الذاتي ستراتيجيأً خاصة لمصلحة مسألة حزب الله وموقعِه على الساحة اللبنانية ودورِه إقليمياً وحتى دولياً. وبالتالي يبقى مشروعاً التساؤل حول العديد من المواقف الداخلية كما الخارجية في ما إذا كانت تقع في ظلّ احترام السيادة اللبنانية أو في ظلّ اعتبار لبنان أصبح في موقع التبعية لإيران عبر موقع حزب الله المتزايد فيه.

***

لبنان ومفهوم السيادة

في القانون والمبدأ لبنان إذن دولة مستقلة صاحبةُ سيادة معترف بها دولياً. لكن السيادة مناطة واقعياً بالسلطة الحاكمة التي تكون، كما في أي دولة معاصرة، صاحبةَ الاختصاص فتُبلور هذا المعطى من خلال ممارساتها السيادية. وهذا يعيدنا إلى بيت القصيد ألا وهو الفريق الحاكم هو الذي يفرض أبعاد السيادة ومتوجباتِها. هذا يعني ببساطة أن هذا الفريق، في أي زمن أو ظرف داخلي أو خارجي، هو الذي يصنّف ما هو سيادي أو غير ذلك.

ما يهمنا حالياً هو بالطبع إذن ترسيم مجالات وحدود الممارسة السيادية في واقعنا وفي أزماتنا الداخلية والخارجية. لا ضرورة بالطبع للتذكير بمرحلة الوجود السوري في لبنان حيث كانت السيادة محصورة في ظلّ الإرادة السورية ومن البديهي لمصلحة هذه الأخيرة. لكن الكلَّ يتذكر بأن السيادة اللبنانية وإن كانت، في تلك الحقبة، محدودة أو منقوصة إلا أن التعامل العربي والدولي مع لبنان كان يتمّ على أساس معطيات مفهومة أو مقبولة بالنظر إلى المسؤولية الدولية عن الوضع الذي آل إليه لبنان في ذلك الزمن بشكل من الأشكال. فالدول الكبرى بما فيها الصديقة كما الدول الشقيقة ارتأت لسنوات تكليف سورية إدارة الشأن اللبناني دون أن تتوانى عن اعتبار لبنان دولة سيّدة وإن عبر الوكيل السوري. وبالتالي فإن لبنان استطاع الحصول على تعاون دولي وعربي بما يكفي بإمداده بإكسير الحياة أقلَّه إقتصادياً. وأفضل الأمثلة على ذلك كانت برامج الدعم الدبلوماسي والمالي وصولاً إلى الدعم العسكري وإن المحدود وذلك من أجل منع الدولة من أن تصبح فاشلة أو من أن تسقط.

إن الحال القائمة في أيامنا تختلف في الجوهر عن المرحلة التي سبقت بمعنى أن لبنان كدولة لم تعد مغلوبة على أمرها لا إقليمياً ولا دولياً بل أصبحت مبدئياً وقانونياً كاملةَ السيادة. إن معيار السيادة ينطبق هنا تماماً على وضع لبنان من ناحية القانون الدولي وبالتالي على كامل تعاملاته الدولية. وهذا يعني عملياً للعديد من الأطراف الدولية والإقليمية أن الدولة اللبنانية أصبحت بملء إرادتها راعية للإرهاب أو حتى أنها تمثّل عنصراً معادياً يشكل خطراً واضحاً على مصالح مثلِ تلك الأطراف. وبالتالي أصبح متوجباً على لبنان إثباتُ حسن سلوك في كل مناسبة، وظروفُه لم تعد تسمح بذلك بالنظر ، على ما يبدو،  إلى ميزان القوى اللبناني الداخلي في سلطة اتخاذ القرار.

وأما الأزمة الحاضرة فهي ليست مجرّد أزمة إقتصادية مالية وبالتالي معيشية إجتماعية، إنها في الواقع أزمة سلطة وحكم. إنها أزمةُ دراية أهل الحكم بأصول الحوكمة الرشيدة أو احترامهم لهذه الأصول من جهة، وإعطاء الأولوية للوطن والشعب من جهة ثانية بغض النظر عن مصالحهم هم ومصالح الآخرين أياً كان أولئك الآخرين. بضعُ تساؤلات قد تبدو بريئة أو قد تُراد ساذجة ترد إلى ذهن أيِ يحاول عبثاً فهم مجريات الأمور وكيفية الوصول إلى ما وصلت إليه البلاد والعباد مثل :

1-هل يمكن ألّا يدرك فريق وازن، استمر سنوات طوال في الحكم، أن لا مفرَّ من إصلاحات جذرية عليه القيام بها في المجال الاقتصادي والمالي والنقدي؟ وهل كان يحقّ لهذا الفريق التمادي في التراخي بانتظار العون الذي قد يأتي من الأصدقاء والأشقاء في ظروف داخلية وخارجية مفترض أنه يدركها جيداً؟

2-هل يمكن أن يكون فريق آخر وازن في الحكم قد يكون غير معني، أقلّه ظاهرياً، بمسألة الاقتصاد الوطني والمالية العامّة والعملة الوطنية والمصارف كونُ تمويله يتم نقداً ومباشرة، وفي الوقت نفسه هو يصوّب على المصارف والسياسة المصرفية المعنية بالعقوبات الدولية إلى حدّ بعيد بسبب تمويله هذا؟

3-هل يمكن أن يكون العهد القوي الموعود منذ زمن لم يستطع خلال ثلاث سنوات من تولّي الحكم بفريق وازن آخر من الإمساك بمكامن سوء إدارة الشأن العام، الذي طالما اشتكى منه، والبدء بإصلاح ما فسد؟ هل فعلاً هو كان مكبّل اليدين يعرقله المعرقلون؟ والآن؟

4- والشعب، كيف كان غافلاً متّكلاً طيلة سنوات على أولياء الأمر من أحزاب وسياسيين وذوي سلطة ومسؤولين (على الأغلب في كثير من الأحيان غير مسؤولين) ؟ هل بإمكاننا أن نعتذر لأنفسنا ونطلب منها الرحمة والغفران على بئس المصير؟

5-هل قامت الانتفاضة الشعبية نتيجة مثل هذه التساؤلات من أجل فضح المستور وإجراء محاسبة شاملة وتصحيح الخلل البنيوي في الحكم؟

التساؤلات كثيرة ومتنوّعة وكذلك الأجوبة لكن هل الحلول متوافرة؟

***

كل هذا الحراك يحصل في دولة “سيّدة” قانوناً لكن أسياد الأمر مختلفون في الرؤى والحسابات والولاءات. بالتالي، ألا يمكن أن يكون الحياد أو “النأي بالنفس” هو السبيل الأقصر إلى تخطّي الكارثة وبالتالي الوصول فعلاَ إلى آفاق السيادة الفعلية؟ والمقصود بالسيادة الفعلية هنا كما هو متعارف عليه بحصرية ممارسة الاختصاصات من قِبل سلطة مسؤولة فعلاً لا شكلاً سلطة وطنية فعلاً تتجاوب مع الانتظارات الإقليمية والدولية إثباتاً لأحقيتها في الحصول على الدعم في هذه الظروف الحرجة.

فإذا كانت العلاقات الخارجية والارتباط بأصدقاء وحلفاء وأولياء وأشقّاء هي أساس البليّة لماذا لا يتّفق المسؤولون عن الأرواح والممتلكات العامة والخاصة على أن ينأوا بأنفسهم عن مشاكل ومصالح الآخرين حفاظاً على ما تبقى من الوطن؟

وفي نهاية المطاف، لا بدّ من الوقوف أمام  إشكاليتنا المحورية الراهنة وهي التي تكمن برمّتها في المعادلة التالية : لا حياد = لا سيادة. فالوضع الراهن يبدو مرهوناً برمّته بارتباط حزب الله، وبالتالي السلطة اللبنانية، بإيران ما يعني أن القرار اللبناني مرتبط بالسياسة الإيرانية إقليمياً ودولياً. فإن حزب الله اللبناني بعنصره البشري والإجتماعي والذي هو جزء لا يتجزأ من الوطن استطاع أن يصنع لنفسه موقعاً مقرِّراً في السلطة مستفيداً من تفاهمات وسطوة داخلية حاكها طيلة سنوات بتأنٍّ نادر ودهاء لافت. وبالتالي وقع لبنان عبره في مصيدة من يعارض أو يعادي إيران على الساحتين الإقليمية والدولية.

إن الرسائل الأميركية الأخيرة تؤكد على مسمع الجميع في الداخل اللبناني كما في الخارج، وبالأخص بينهم أصدقاء الولايات المتحدة الأميركية في العالم، أن العائق أمام تقدّم المسار اللبناني إلى الحلحلة الاقتصادية والمالية هو حزب الله. إن تصريحات المسؤولين الأميركيين، على غرار مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد شنكر بأن “العقوبات الأميركية تسبب ضغطاً كبيراً على حزب الله في لبنان” وبأنه يحّث الحكومة اللبنانية، المحسوبة على الحزب، على “المضي إلى الأمام في إصلاح حقيقي ومحاربة الفساد واتخاذ قرارات صعبة”. كذلك، إن السفيرة الأميركية في بيروت ، أليزابيت ريتشارد، تركت وصيّة إلى اللبنانيين قبل مغادرتها لبنان، ضمّنتها عدداً من التمنيات والإشارات ومن ضمنها أن تكون “قوةٌ مسلّحة واحدة تحت سيطرة الدولة واقتصادٌ متنامٍ…”[14].

لكن، طالما أن الحياد غير معتمد فعلياً هذا يعني أن السيادة تبقى، بنظر معظم الدول العربية والغربية، في قبضة إيران إلى حدّ بعيد أي بالمقابل أن لا سيادة لبنانية فعلية إلا بالقدر الذي يسمح به حزب الله. على أمل أن يرفع الحزب هيمنته عن ممارسة اختصاصات الدولة ومؤسساتها حتى يُفتح باب التعامل الإقليمي والدولي مع الحكومة اللبنانية على أنها صاحبة السيادة خارج الإطار الإيراني الحصري. هل مثل هذا الأمر هو في مصلحة إيران وحزب الله؟ وهل المقصود من رفض حزب الله علناً بإسم السيادة  اللجوءَ إلى صندوق النقد الدولي لمعاجة مسألة الديون المتراكمة على الدولة اللبنانية هو فعلاً من باب الحرص على هذه السيادة أم خوفاً من تعرّض مصالحه هو للمزيد من المساءلة والعقوبات الدولية؟ أتى هذا الرفض قاطعاً وبصيغة لا لبس فيها لجهة ربط المصلحة الوطنية بمصلحة الحزب نفسه بقول الشيخ نعيم قاسم : “نحن لا نقبل أن نخضع لأدوات إستكبارية في العلاج، يعني لا  نقبل الخضوع لصندوق النقد الدولي ليدير الأزمة…” [15].

***

أخيراً، إن الحكومة اللبنانية الحالية، أي تلك التي حصلت على رضى حزب الله بالدرجة الأولى، قالت على لسان رئيسها حسّان دياب “سأعمل جاهداً على تطبيق سياسة النأي بالنفس”[16] وعلى لسان وزير خارجيتها ناصيف حتّي “أولويتنا اقتصادية والنأي بالنفس” و”نتمسّك بالنأي بالنفس عن الصراعات في  المنطقة العربية”[17]. كذلك، تمّ تأكيد هذه الإرادة، أو لنقل النيّة، في البيان الذي نالت على أساسه الحكومة الثقة في المجلس النيابي حيث لحزب الله كلمة وازنة[18]. هل تستطيع الحكومة إقناع العرب والأوروبيين والأميركيين بحيادها وبسيادتها الحرّة على قرارها بإسم النأي بالنفس كي تستطيع معالجة الأزمات والخروج من “درب الجلجلة”[19] الذي تواجه، بحسب تصريح رئيسها؟ هكذا، يبدو الإرتباط وثيقاً أكثر فأكثر ، كما هو واضح، ما بين الحياد والسيادة لا بل يبدو أن السبيل الأوحد حالياً إلى الاعتراف الإقليمي والدولي بالسيادة اللبنانية هو في احترام الدولة اللبنانية الحيادَ أو أقلّه النأي بالنفس في ما يتعلّق بالقضايا الإقليمية.

 ***

(*) أستاذة جامعية باحثة في العلاقات السياسية الدولية المعاصرة والجيوسياسة.

 

[1]1-يمكن على سبيل المثال مراجعة التحديد الكامل للمفهوم في : د. عبد الوهّاب الكيالي وكامل زهيري (إشراف)، الموسوعة السياسية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1974، ص 251و252.

Jacques Huntzinger, Introduction aux relations internationales, ed. du Seuil, Paris, 1987, p. 173.                            -[2]

-يمكن، على سبيل المثال، مراجعة كتاب شارل روسّو، القانون الدولي العام، ترجمة الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت 1982، ص 252[3]

-المرجع نفسه، ص 101-103[4]

Bertrand Badie, “De la souverainete a la capacite de l”Etat », in Marie-Claude Smouts (dir.), Les nouvelles relations internationales, pratiques et theories Presses de Sciences Po, Paris, 1998, pp.37-39.                                     [5]

[6]- وارد في : باتريك سيل، رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي، الدار العربية للعلوم ناشرون (الترجمة العربية)، بيروت، 2010، ص 515 و516.

[7]- مصطفى الصراف، سياسة النأي بالنفس، موقع القبس الألكتروني، بتاريخ 17 تشرين الثاني 2017.

[8]- بحسب رأي وزير العدل اللبناني السابق إبراهيم نجار مذكور في : “النأي بالنفس” مصطلح لبناني يفتقد إلى المرجعية القانونية، صحيفة الشرق الأوسط، بتاريخ 30 تشرين الثاني 2017.

[9]- كما رأى المحلل السياسي راشد فايد في : النأي بالنفس مصطلح أتاح دخول حزب الله إلى سورية، جنوبية، 3 تشرين الثاني 2017.

[10]- راجع مقال عفيف دياب : سياسة لبنان للنأي بالنفس…بين الأقوال والأفعال، في الأخبار، 11 كانون الأول 2017.

 [11]- من النص الرسمي المنشور في كافة الصحف بذلك التاريخ.

[12]- رأى البعض أن الزيارة حصلت لهدف إيراني داخلي أي ضمن حملة الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة.

[13]- كانت تلك التصريحات في إطار إجتماع مجموعة العشرين في الرياض حيث تباينت المواقف وبخاصة مع الموقف الأميركي. نجد عرضاً للمواقف في عدد من الصحف على غرار جريدة اللواء بتاريخ 24/2/2020، تحت عنوان : “خلاف أميركي – فرنسي حول مساعدة لبنان”، أو في صحيفة الشرق الأوسط، بتاريخ 26/2/2020، تحت عنوان : تحرّك فرنسي “إستثنائي” لوقف التدهور الاقتصادي في لبنان.

 [14]- وردت هذه التصريحات في معظم وسائل الإعلام المحلّية، أنظر على سبيل المثال جريدة اللواء، بتاريخ 27/2/2020، تحت عنوان “تهديد أميركي بمحاسبة المسؤولين وإخراج نصرالله من النظام المالي”؛ ونجد كذلك شروحات بخصوص العقوبات الأميركية ضد حزب الله وهي تطال عملياً لبنان برمّته كما في جريدة الأخبار، بتاريخ 24/2/2020، دراسة لحسام مطر، “أميركا – حزب الله…عسكرة الدولار”.

[15]- يمكن مراجعة تصريح نائب أمين عام الحزب الشيخ نعيم قاسم الوارد في معظم الصحف اللبنانية وهو نشر أيضاً على موقع المنار، بتاريخ 25/2/2020.

[16]- تصريح وارد في كافة الصحف بتاريخ 1/2/2020.

[17]- العربية نت في 8/2/2020.

[18]- مما ورد في نص البيان : “…النأي بالنفس عن السياسات التي تُخِلّ بعلاقاتنا العربية.” نجد النص كاملاً في معظم الصحف اللبنانية بتاريخ 6/2/2020.

[19]- ورد هذا التوصيف في كلام رئيس الحكومة أمام السلك القنصلي زهو مذكور في جريدة نداء الوطن على سبيل المثال بتاريخ 3/3/2020.

 ***

(*) ألقيت في الندوة حول الدولة اللبنانية: بيت الحياد والسيادة ضمن المهرجان اللبناني للكتاب دورة ولة لبنان الكبير.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *