‎الألوهة واللانهائية‎

Views: 210

علي جرادات

كلما قرأت في الفيزياء الكونية أخذتني رجفة روحية عميقة تجاه هذا الكون الفسيح المنداح حد الجنون، عوالم من الدهشة التي تثير في أعمق معاني الوجود، وتتركني في حالة من النشوة الأبدية. 

أكثر الأشياء التي غيرت مفهوم الألوهة لدي هي هذه العلوم، التي جعلتني أعي حجم الاتساع المذهل للكون والمرئي، فعندما نطالع ما يكتبه ستيفن هوكنغ في كتابه المثير التصميم العظيم نجد أمامنا كوناً مختلفاً تماماً عن حجم الوجود المتصور في عقولنا المحدودة، فمثلاً يقول في كتابه: “تسمح قوانين النظرية إم بوجود أكوان مختلفة ذات قوانين ظاهرة مختلفة، اعتماداً على كيفية تضفير الفضاء الداخلي، وتمتلك النظرية إم الحلول التي تسمح بوجود العديد من الفضاءات الداخلية المختلفة، ربّما هي كثيرة بما يقدر بحوالي 10^500، ما يعني أنها تسمح بوجود 10^500 كون مختلف، لكلّ قوانينه الخاصة. ولإعطاء فكرة عن ضخامة ذلك، فكّر في هذا: إذا قُدّر لأحد الكائنات أن يحلل القوانين التي تم التنبؤ بها لكل كون من تلك الأكوان في ميللي ثانية واحدة وقد بدأ العمل على ذلك لحظة الانفجار العظيم، يكون هذا الكائن في الوقت الحالي قد درس 10^20 منها !!، وهذا بلا فترات استراحة لشرب القهوة”. (Clonazepam/a>)

 

عظمة هذا الوجود

هذه الأرقام الفلكية التي تصعق الروح، تجعلك تتسامى على كل معاني الطائفية والمذهبية الضيقة، لتسمو بعيداً بعيداً في جلال هذا الملكوت المثير للعجب!، بحيث تسافر بعيداً في عظمة هذا الوجود الذي يكاد يقترب من اللانهاية، وهنا تزول كل معاني الضيق والمحدودية والنسبية التي تغرقنا كبشر حد النخاع، إنّ مطالعة نص هوكينغ توقفنا طويلاً أمام حجمنا الفعلي في هذا الكون الغريب بكلّ ما للكلمة من دلالة.هذا الاتساع المهول لنظرية الأكوان المتوازية جعلت من عالم الفيزياء لورانس كراوتس يقول في كتابه ” كون من لاشيء”  : ” إن احتمالية أن كوننا واحد من مجموعة ضخمة ولانهائية، من أكوان متميزة عن بعضها ومنفصلة مصادفة، – قد يختلف في كل منها أي عدد من الأوجه الأساسية للواقع الفيزيائي – تفتح الباب أمام احتمالية جديدة عريضة لفهم وجودنا…” 

إنّا الفيزيائيين يدركون تماماً الحجم الضخم لمثل هكذا نظرية على وعينا البشري، وحجم ما تفتحه من عوالم تفكير مختلفة جذرياً عما عرفناه من قبل، لذلك يقول كراوتس مرة أخرى: “تغير الأكوان المتعددة، سواء في شكل مشهد طبيعي من الأكوان الموجودة في كوكبة من الأبعاد الإضافية، أو في شكل مجموعة متوالدة لانهائياً احتمالياً من الأكوان في فضاء ثلاثي الأبعاد، في حالة وجود التضخم الأبدي – أدى إلى تغير ملعب تفكيرنا في خلق كوننا…”

كون واحد، يتصل اتساعه إلى 180 مليار سنة ضوئية، والسنة الضوئية الواحدة تساوي 9.67 ترليون كم !. هو حسب نظريات الفيزياء الحديثة عبارة عن فقاعة صغيرة ذرية في عالم من الفقاعات الكونية التي قد تصل إلى واحد أمامه 500 صفر من الأكوان!! 

أي أن الأكوان حسب هذه النظرية تصل إلى ترليونات ترليونات ترليونات السنوات الضوئية!! جعلتني أقارب الله ككيان مطلق أبدي لانهائي بكل معنى الكلمة، يصبح من المستحيل علي أن استوعب أن مثل هذا الكيان الإلهي الأبدي المحير جداً في مطلقيته، يمكنه أن يهتم بمنظومة تاريخية دينية على حساب أخرى!!

 

الكون اللامتناهي

إن كوننا ذاته ذرة حقيرة في كيان أقرب للانهائية من الكونية، فكيف بالإله الذي أؤمن أنه خلف هذه العوالم كلها ؟؟ 

إننا بحاجة ماسة لقراءة هكذا علوم لنعرف مقدار التفاهة الهائلة التي نعيشها يومياً باسم الدين والطائفة والسياسة، التي نعتقد أنها جوهر ومحور هذا الوجود الجنوني في رحابته المطلقة !!

نحن بحاجة لإعادة قراءة ذاكرتنا البشرية من جديد، بكل منظوماتها المعرفية والسلوكية لندرك أننا أقل من ذرة تافهة في هذا البحر الكوني المائج بالعجائب !

إن أكثر المتصوفة جموحاً وجنوناً لا يمكنهم أن يستوعبوا حجم المسافة الفلكية بين إدراكنا البشري الموغل في الجهل والنسبية، وبين إدعاء أننا المخولون لفهم كيانية الألوهة المطلقة جداً!

جعلتني هذه الفيزياء متقبلاً لكل الاختلافات البشرية بل والكائنية بكل رحابة صدر، مؤمناً بالحب والمحبة لكل تفصيل صغير لهذه المعمار الكوني المدهش، حيث الله هو المحصلة الأبدية لكل احتمالات الزمكانية وماورائها، فكم هو تافه أن نحصر هذه الألوهة الخلاقة في فكرة ضيقة جداً – مهما بدت لنا عظيمة – إذا ما قورنت مع هذه العوالم الوجودية الموغلة في الاتساع والتنوع اللامحدود. 

إننا لسنا أكثر من كائنات حديثة جداً على مسرح هذا الوجود، عمرنا لا يتجاوز سوى بضعة ملايين من السنين، أما مكانياً فنحن أتفه من هذا بمراحل، فالأرض عبارة عن كوكب صغير جداً من ترليونات الكواكب التي يحويها كوننا، الذي قد يكون ذرة فقاعية تافهة في ترليونات ترليونات ترليونات الأكوان الأخرى!!!

كيف لإله أوجد كل هذه العوالم الملكوتية أن ينحصر في وعي إنسان أو جماعة تعتقد أنها تمتلك فهمه بشكل نهائي وناجز؟؟ هل كيان بهكذا لانهائية، يمكن لأحد كائن من كان أن يدركه إدراكاً ناجزاً نهائياً، مهما بلغ من سمو روحي ومعرفي متجاوز؟ أو أن يكون مقيداً بنص لغوي واحد، مهما كان هذا النص عبقرياً بالنسبة لوعينا البشري المهترئ، أو محدوداً بقائمة من الأفعال التشريعية المقيدة بسلاسل الزمكانية ؟؟؟

اختم هذا باقتباس لعالم الفيزياء النظرية براين غرين في كتابه العبقري الواقع الخفي والأكوان المتوازية وقوانين الكون العميقة حيث يقول :” في الأعماق البعيدة للكون اللامتناهي، توجد مجرة تبدو مماثلة تماماً لمجّرة درب التبانة، وبها مجموعة شمسية هي صورة طبق الأصل عن مجموعتنا الشمسية، وبها كوكب مماثل تماماً لكوكب الأرض، وهذا الكوكب فيه منزل لا يختلف في شيء عن منزلك، ويسكنه شخص يشبهك تماماً، وهو يقرأ حالياً هذا الكتاب ويتخيلك، وأنت في مجرتك البعيدة، وقد وصلت إلى نهاية هذه العبارة. ولا توجد نسخة وحيدة وحسب ؛ ففي الكون اللامتناهي يوجد عدد لا متناهٍ من النسخ. في بعض هذه الأكوان سيكون شبيهك منهمكاً في قراءة هذه العبارة، مثلك تماماً، وفي البعض الآخر سيكون قد تجاوزك في القراءة، أو ربما شعر بالحاجة إلى تناول وجبة خفيفية ومن ثمّ فقد نحّى الكتاب جانباً…” 

هذا ليس عالمٌ يرسمهُ لنا روائي يتخيل، هذا عالمٌ يكتب عنه علماء الفيزياء بكل جدية !!. كونٌ بكلّ هذا التنوع والجمال والدهشة، يستحق منا أن نحاول أن نطلع عليه، أن نحاول التفكير في عمق مساحاته الفلكية فعلياً، لعلنا ننجح فعلاً بالخروج من قصورنا البشري، ومن تمركزنا نحو ذواتنا المغلقة حد التحجر، ومن إصرارنا المضحك على أننا نمتلك زمام الحقيقة كلها، أليست هكذا عوالم تجعلنا نخجل من إدعاء أن لدينا نحن التصور الكامل عن هذا الوجود، ناهيك عن التصور المتطاول في جهله تجاه خالق هذا الوجود أصلاً !!.أترك نفسك جيداً وفكر، هل حقاً أنا امتلك حق التمركز حول أفكار غارقة في النسبية والصغروية مدعياً أنها هي جوهر الأكوان بل وما ورائها ؟!!….

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *