الإنسان الكورونيّ

Views: 619

أ.د. مشير باسيل عون

 أصابنا الكورونا في الصميم، في النخاع الشوكيّ، في عمق أعماق الكيان الإنسانيّ. فاجأنا بحلوله فينا على غير استئذان، فإذا بنا ننتقل من مقام الإنسان الكونيّ إلى مقام الإنسان الكورونيّ. قبل ذلك، كانت الإنسانيّة قد اختبرت تحوّلاتٍ شتّى في هويّة الإنسان، من الحيوانيّة الانتصابيّة إلى الحيوانيّة الكونيّة، مرورًا بالحيوانيّة الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة والآليّة الروبوتيّة. جميع هذه المقامات الإنسانيّة أضافت على وعي الإنسان تراكماتٍ متدافعة جعلته يختزن الكثير من المعاني. غير أنّ التحوّل الأخير الذي ألمّ بنا يجعلنا نسائل جميع مقامات الهويّة الإنسانيّة هذه.

يُجمع العلماء والأطبّاء على الخطر المميت الذي ينشره هذا الوباء الكونيّ المستخرج من سلسلة قديمة أرعبت الإنسانيّة منذ أقدم العصور. في القرن العشرين وحده عانت المجتمعات ويلات السلالات الكورونيّة المتلاحقة، وكان السابع آخرها، وهو الضيف المقيت كوفيد 19. لا شكّ في أنّ الأسئلة تتدافع في الأذهان من أجل فهم هذه الظاهرة الوبائيّة الجامحة الجارفة. السؤال الأوّل يتناول هويّة الفيروس المستجدّ وإمكانات تفكيكه وصعقه وتعطيله وقهره قهرًا مبينًا؛ والثاني يستجلي آثاره البيولوجيّة في تركيبة الجسم الإنسانيّ الكونيّ؛ والثالث يستطلع عواقبه على المستويات الأنتروبولوجيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والبيئيّة. لستُ من الذين يركنون طوعًا إلى التنجيمات البهلوانيّة أو المكاشفات الغيبيّة. حسبي أن أنظر في المسرى التكوينيّ العلميّ، مستنيرًا بآراء أهل الاختصاص، حتّى أستطيع أن أدلو بدلوي الفلسفيّ في التفكّر الرصين الهادئ البنّاء.

من المعاينات الأولى الممكنة أنّ الطبيعة الكونيّة تزخر بطاقات هائلة من الإخصاب والإغناء والإبداع، قد تنقلب هي بعينها حقولًا جهنّميّة من التدمير الذاتيّ الفتّاك. المسألة كلّها تتعلّق بقرار الإنسان في مطالع القرن الحادي والعشرين. لا يأتي مثل هذا القرار من تواطؤات هياكل النفوذ الماليّ في البورصات العالميّة، وأصحاب شركات السلاح، ومختبرات التصنيع الدوائيّ، وأهل النفوذ السياسيّ الظاهر والخفيّ، ومجموعات التأثير الإيديولوجيّ المحتجبة في المحافل الكونيّة. لا يجوز للناس أن يستسلموا لارتكابات هذه المعابد السلطويّة الكونيّة الخمسة التي تقرّر وحدها مصير الجنس البشريّ على كوكب الأرض. من الواجب أن تنشأ في موازاة هذه القوى الرأسماليّة الظالمة منتدياتٌ فكريّةٌ حرّةٌ تستلهم أصفى ما بلغته العلوم الإنسانيّة المعاصرة، وفي طليعتها الفلسفة، من حكمة بليغة في تصوّر مقام الإنسان في سياق الكينونات الثلاث العظمى، عنيتُ بها الكون والحياة والوعي.

في إثر التأمّلات التي أنشأتُها في الثورة اللبنانيّة الأخيرة (17 تشرين الأوّل 2019)، ومن بعد أن خدمتُ هذه الثورة بكتابٍ يضع الأسُس النظريّة لإصلاح جذريّ في المعيّة السياسيّة اللبنانيّة[1]، عزمتُ ووطّدتُ النفس على الانصراف الطوعيّ إلى أبحاثي الفلسفيّة المتوقّفة في فلسفة المعنى الإنسانيّ، وتأصيل التعدّديّة الكونيّة، واستدخال فكر هايدغر في البيئة الثقافيّة العربيّة. فإذا بظاهرة كونيّة طارئة تضطرّني إلى استعادة التفكّر الفلسفيّ في المستجدّات الحياتيّة الضاغطة. ومن ثمّ، أراني أسلك سبيل التدبّر والتأمّل والنظر الفلسفيّ في أزمة كيانيّة عالميّة أغلقت على الناس في محاجرهم ومعازلهم ومآويهم، وأجبرتهم على التواصل البُعديّ. في ذلك كلّه إشارةٌ إلى اقتراب زمن جديد يستلزم الإصغاء إلى نداءاته، والاستجابة لتحدّياته، والاضطلاع بمقتضياته. في مثل هذا السياق، لا يجوز لنا أن نخضع لإملاءات المعابد السلطويّة الكونيّة الخمسة التي تصرّ على إدارة الأزمة وفاقًا لتصوّراتها الإيديولوجيّة، ومصالحها النفعيّة، ومآربها النفوذيّة.

ذلك بأنّ الفكر الفلسفيّ الحرّ الناقد البنّاء يستنهض الذات إلى مناهضة مثل هذا الاستئثار المقيت. فالإنسان كائنٌ فكريٌّ يعشق الطبيعة عشقًا، قبل أن يكون كائنًا منفعيًّا يستنزف الطبيعة استنزافًا. وما الكينونة الكورونيّة التي اجتاحته سوى الدليل الدامغ على ضرورة تعزيز الوعي الفكريّ النقديّ الذاتيّ. من غرائب المنطق الإنسانيّ أن يظنّ بعضُهم أنّ الحجر الصحّيّ الطوعيّ يُفضي بالإنسان إلى التأمّل الفلسفيّ، في حين أنّ التأمّل الفلسفيّ هو، في أصل دعوته، الباعث على الحجر الطوعيّ. فالفيلسوف هو المحجور الحرّ الذي يُطلّ من علياء صومعته على وقائع الوجود، يتبصّر في إرباكاته، ويحلّل تعقيداته، ويتدبّر ملابساته، ويستشرف آفاقه، ولاسيّما في أزمنة التأزّم الكونيّ الأخطر. وما من تأزّم أخطر من ذلك الذي يعطّل كينونة الطبيعة التي هي الأمّ الحاضنة. وقد يكون في عيد الأمّ عبرةٌ بليغةٌ ترشدنا إلى احتضان أمّنا الطبيعة في غير ما يفتعله بها الاقتصادُ الرأسماليُّ المتوحّشُ الذي ينطق بمنطق التغالب بين الأمم، والتنافس بين الشركات، والتطاحن بين أسياد المال الكونيّ.

بكفيّا، السبت 21 آذار 2020

***

[1]   مشير باسيل عون، الثورة الآتية. الفلسفة في معترك الانتفاضة اللبنانيّة، دار سائر المشرق، بيروت، 2020.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *