الكوارث القدرية والرحيل إلى عالم البهاءات

Views: 747

وفيق غريزي

 منذ منتصف العقد الثاني من الألفية الثالثة، تفاقمت الأزمات والكوارث والمآسي على لبنان وشعبه، وهذه منها ما هو مفتعل إراديًا ومنها ما هو قدريًا.        

المفتعل هو من فعل منظومة مثلثة الروءوس: الطغمة الحاكمة – اصحاب المصارف – والبنك المركزي، هذه المنظومة أمعنت في نهب خزينة الدولة وأموال الشعب، الأمر الذي أوصل البلاد الى الإفلاس والانهيار، اقتصاديا وماليا واجتماعيا، ولكن هذه الأزمات قابلة للتجاوز والحل، إذا تمكنت انتفاضة الشعب اللبناني من ازاحة هذه المنظومة عن مراكز القرار، واستعادة الأموال المنهوبة، بعد معاقبة الناهبين والسارقين، حتى الحرب البيولوجية التي تتعرض لها البشرية جمعاء سيتم الانتصار عليها.

أما الكوارث القدرية، فتتمثل باختطاف الموت لرجالات ثقافية – حضارية، من فنانين وشعراء وأدباء ومفكرين، وكان لي معهم علاقات صداقة وأخوة فكرية وروحية وانسانية  وهم: صديق العمر الفنان عارف الريس/الصديق الحميم الشاعر رياض فاخوري/الصديق الرقيق الشاعر فواد رفقة/الصديق والأخ الشاعر انور سلمان/والصديق الأبدي الشاعر – الفيلسوف روبير غانم،  ومنذ ذلك الحين دأبنا على تحمل العذابات والآلام والماسي، لانها السبيل الوحيد لنزول النفس الى الأعماق، فالمرارات المتكررة والمختلفة هي قتل للذات، وكل من الاحباء الذين غابوا عنا جسديا فتح لنا منافذ الروح، والصلات التي توثقنا بالحقيقة.

وفيق غريزي

 

وبالأمس القريب هوت أرزة شامخة من أرز لبنان الثقافي – والفكري هو الصديق الحبيب الشاعر الدكتور منيف موسى، واليوم هوت قامة كبيرة من قامات لبنان الأدبية والفكرية والتعليم الجامعي واللغوي العميق، أرزة أخرى عبثت بها رياح الموت واقتلعتها من تربتها لتزرعها في عالم اكثر نقاء وطهرانية، أرزة كانت تمتد جذورها في ارض الوطن، واغصانها تطاول الفضاء، واستظل تحت ظلالها اجيال وأجيال من طلبة الأدب والفكر والأخلاق، ولقد كان الراحل يعمل على كتاب حول أعمالي الشعرية الكاملة ومقالات أخرى عن شعراء وأدباء اخرين، ولكنه رحل قبل انجازه نهائيًا. الدكتور عمر فاروق الطباع عرفته إنسانا شفافا، نقيا، صادقًا، وفيًا لأصدقائه. وعرفته أديبًا مميزًا، وناقدا عميقا مجردًا شموليًا، وباحثًا فذا، أغنى المكتبة العربية بالعديد من الموءلفات القيمة والمميزة بالأصالة والتجرد. 

 في حوار لي معه اثناء ندوة أقيمت في دار الندوة في بيروت حول كتابي “نظريات فلسفية حول الموت” وكان هو احد المحاضرين قال لي: “ياصديقي، ان للحياة رحمًا طهرانيا تتوالد به، وتكون متجددة ابدا، هذا الرحم مبثوثا في نوايا الفصول، وأحشاء الأشجار، والغيم والمطر. وإذا فسدت فطرة الانسان تنأى النفس البشرية عن نفسها”. رحيلك ايها الصديق الكبير، ترك في نفسي حزنا عميقا، وفرحًا عميقًا في آن واحد: ترك حزنا لانني فقدت صديقا آخر، كان مرجعًا في الأدب والفكر، صديقًا هو مثال النبل والأخلاق والطيبة والشفافية. وفرحت كثيرا، لانك تحررت من الواقع المادي وأقذاره، وذهبت نظيفا، طاهرا، متبرءا من تلك المنظومة التي حوّلت الوطن الى مغارة لصوص، حوّلت رياضه الى قحط ويباب، وجباله الى أكوام نفايات، وأنهاره الى مستنقعات آسنة، وهواءه ملوثا بأنفاسهم السامة.    

أغبطك على هذا الرحيل الى عالم البهاءات، حيث اترابك من الاصدقاء الذين سبقوك ينتظرون حضورك بينهم ليقيموا الاحتفالات الطقوسية، فهناك لا لصوص ولا اوثان فاسدة ولا عبدة لهم اغبياء، بل هنالكات النقاء الكلي، والطهرانية الكلية، بالقرب من المطلق خالق الاكوان،. رحمة الله عليك ايها الصديق الغالي، واسكنك الله فسيح جناته، ولتعلم ان الذخر الذي تركته من أدب وفكر، سينبت زهرا وورودا في عقول ونفوس الاجيال الآتية…

                                               

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *