اللبنانيون في الزمن “الكوروني” 

Views: 541

د. فيصل طالب

(المدير العام السابق لوزارة الثقافة)

في الزمن “الكوروني” لا يتأخّر اللبناني في استحضار مسار الأزمات التي خبرها وعايشها على مدى وعيه المتشكّل من سلسلة المواجع والكوارث والحروب التي أصابته في الصميم، وتركت في ذاكرته ووجدانه ونفسه وربما جسده ندوباً وآثاراً لا تمحى بمرور الأيّام. ومن دون الحاجة إلى تعداد هذه الأزمات وتاريخها وأسبابها ونتائجها وتداعياتها، فإنّ اللبناني وقع تحت وطأتها من غير أن تمهله أو تهمله، وحصد من جرّائها خسارات وخيبات كثيرة. لكن هذا اللبناني نفسه لم يستسلم إزاء أيّة مشكلة تعرّض لها؛ إذ اكتسب مهارة التكيّف مع مختلف الأوضاع، واجترح في هذا السبيل صيغ التعايش مع الأزمات في السلم كما في الحرب، وصدّر إلى العالمين فنون “التوأمة” مع هذه الأزمات المتناسلة؛ الأمر الذي أدهش العالم بمثل هذه القدرة على الاستمرار رغم كل العوائق والصعاب، والنهوض مجدّداً بعد كل سقطة وقع فيها !

حلّ الكورونا في لبنان وباءً ثقيلاً مهدّداً حياة الناس وأرزاقهم وتواصلهم، حتى صار التضامن الاجتماعي في وجهه يتمثّل بـ”الانفصال الاجتماعي” في مفارقة مذهلة.

يتراوح التزام المواطنين بالتعليمات الصادرة عن الجهات الحكومية الناهية عن المخالطة والتجمّع والآمرة بالحجر الصحي والبقاء في المنازل، بين التقيّد التام أو الجزئي أو الأهمال الكلّي، وإن كانت السمة الغالبة في ذلك هي التزام الجمهور بصورة عامة بهذه الإرشادات بنسبة عالية قد تصل إلى حدود التسعين بالمائة؛ مع ما رافق ذلك أحياناً من طابع متمرّد لدى بعض اللبنانيين على الحجر المنزلي، وهم المعروفون بعشقهم للحياة وشغفهم بالاحتفال بها، تمثّل بالغناء والرقص ولو كان ذلك من شرفات منازلهم.

 قد يكون الأدهى من بين ما تحمله  تردّدات التأثيرات الخطيرة لجائحة الكورونا، بالإضافة إلى الأخطار الصحية بطبيعة الحال، الأوضاع الاجتماعية الآيلة ألى التردّي، في ضوء إغلاق المرافق العامة والخاصة وتعطيل الحياة الاقتصادية، فضلاً عمّا يعانيه البلد أساساً من مصاعب مالية واقتصادية تدحرج إليها منذ أشهر، وأدخلته في أزمة مفتوحة وغير مسبوقة.

إنّ مواجهة هذه الضائقة المتعدّدة الوجوه لا يمكن أن تكون على عاتق الجهات الرسمية وحدها، بل إنّ فاعليّة القطاعات الأهلية والجمعيات والنوادي وكل مكوّنات المجتمع المدني، فضلاً عن السلطات المحلية، ربّما تتقدّم على ما عداها في هذا السبيل؛ إذ إنّ كل التعليمات الرسمية في هذا الصدد لا تؤتي أكلها تماماً إِلَّا إذا تبنّتها وتطوّعت لتنفيذها تلك الفاعليات الأهلية والمحلية، وعملت على وضعها موضع التبنّي والالتزام الطوعي، من خلال عمليات التوعية وتدابير الرصد والمتابعة في الأحياء، وتبيان الإيجابيات الناتجة من التقيّد بالإجراءات الاحترازية المشدّدة الآيلة إلى الحدّ من انتشار الوباء؛ فضلاً عن عمليات الدعم الاجتماعي للحالات الأكثر حاجة إلى الرعاية والإسناد، في نطاق التطبيق العملي لمفاهيم التكافل الاجتماعي الذي يعبّرعن أخلاقيات الشعوب ومواطنيّتها ووطنيّتها.

إنّ تعميم مفاهيم المسؤولية الجماعية في مواجهة الأزمات، وبخاصة ونحن نعيش في ظلّ العصر الرقمي والعولمة (من بينها العولمة الوبائية !)، هو نشر لثقافة إدارة المخاطر والتحكّم بالأزمات التي تقوم على اضطلاع جميع القطاعات الحكومية والخاصة والمحلية والأهلية، بالمسؤولية دون استثناء، بغية تقليل الخسائر والآثار السلبية لهذه المخاطر، على قاعدة التلاحم الوطني الذي هو أعلى درجات الإحساس بالمسؤولية التي تتظهّر كأحسن ما يكون التظهير في أزمان الصعوبات؛ ولن يكون آخرها بطبيعة الحال الزمن “الكوروني”!                                         

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *