نظريَّة القانون… في حاضنها الفلسفيّ

Views: 2955

د. ربيع الدّبس

مقدِّمة

يَغْلب الاعتقاد بأنّ الحقوقيّين، حتى اندلاع الثّورة الفرنسيّة، أجادوا عامّةً عناصر فلسفة تتّفق ولو ضمنيّاً مع الدّين المسيحيّ، لكنّهم ما كانوا ليشكّوا بأنّ القانون الوضعيّ ناشئ عن القانون الطبيعيّ الذي يستطيع العقل أن يستنبطه. وكان للجوّ الفلسفيّ الذي ساد في القرن التاسع عشر تأثيرٌ مباشر على اتّجاه الفكر القانونيّ نحو النّظريّة الوضعيّة، أي أنّ القانون الوضعيّ لا يستمدّ سلطته إلاّ من الإرادة البشريّة، وهذه النظريّة هي أكثر وفاءً للمذهب العقليّ الصّرف، خلافاً للقانون الطبيعيّ المستند إلى إرادة الله، والذي يفرض على الخاضعين لتلك الإرادة وجوب التصرّف وفقاً لما يمليه عليهم ذلك القانون الطبيعيّ الذي ليس سوى إرادةِ سلطةٍ عليا.

وهناك اقتناع تطوَّرَ مع هوبس – مُنشئ المذهب الوضعي الإرادي الحديث، مفاده أنّ إرادة الدولة القويّة القادرة هي الحائل دون نشوب حرب شاملة، فالقانون هو الأمر المقرّر، والسلطة تضع القانون لا العدالة:

Not rightness, but authority makes the law.   

أمّا الأبيقوريّون أصحاب المذهب الوضعي الحسّي المعادي للميتافيزيقا، فحصروا أساس الأخلاق والقانون في المصلحة والمتعة المؤمَّنَتيْن في عدالة العقود والقانون الوضعيPositive Law . لذلك يجعل انعدامُ القوانين والعقود من البشر مجرّدَ حيوانات وحشيّة، من دون أن يُغفل المذهبُ الأبيقوري أنّ اللّذة الحقيقيّة تستوجب المساءلة، لأنّ ظلّ المحاكمة العقليّة ينعكس خلف ما تشاهده الإرادات. أمّا القانون الطبيعيّ فقد أفلس متّبعوه ونبذوه في العقود الأخيرة.

ولعلّ أقوى مظهر للمذهب الإرادي هو ذلك الذي أعلنه الفقيه الألماني الشهير ييرينغ، الذي عاش الفترة التي حقّقت بلاده فيها وحدتها بعد حروب إذْ قال: إنّ القانون هو ثمرة القتال، وإنّ القاعدة القانونيّة هي سياسة القوّة. كما أيّد «فَضْل» الرومان في إخضاع المصلحة الخاصّة للمصلحة العامّة.

أمّا المذهب الاجتماعي الحديث في القانون فأبرزُ ممثّليه في القرن التاسع عشر كان إميل دوركهايم، الذي انطلق من «الحادث الاجتماعي» إلى «الضغط الاجتماعي» الذي اعتبره سبباً قاطعاً لمجموع الظّواهر الإنسانيّة، المنطوية على أفكار تَقْرُب من الإدراك الجماعيّ. ويَعتبر دوركهايم أنّ الظاهرة القانونيّة الأولى هي العُرْف الذي يتمتّع بأوضح طابع اجتماعي بسبب تكوّنه العفوي الذي يخضع في الدرجة الأولى إلى منهاج الملاحظة. ولما كان القانون ثمرة الشّعور الجماعي كما يرى دوركهايم، فهو مرتبط بالمجتمع لكون القانون ناشئاً عن المجتمع، ولكون كلّ مجتمع مُنْشئاً للقانون، فَعِلْمُ الاجتماع يؤدّي إذًا إلى مشاهدة الظاهرة القانونيّة في قواعد تنظيم أي تكتّل بشريّ، سواء كان الأمر متعلّقاً بأضعف جمعيّة أو بأقوى دولة، أو بالأسرة الدوليّة… بهذا الأفق الجماعي يستقيم فهْمُنا لجواب شارل ديغول (الجنرال والرئيس الفرنسي التاريخي) على سؤال: ما هو الدستور؟ بالقول: “هو المؤسّسات”.

إدوارد هِيريو

 

أمّا إدوارد هِيريوHerriot، الفقيه القانوني الذي ترك أثراً لا يمكن إنكاره على الأفكار في القرن العشرين، فكانت له نظريّته المؤسِّسة ،التي تعارض النزعة الفرديّة المتّجهة نحو تفسير كل شيء بموجب العقود والإرادات الشخصيّة، وتؤكّد مع علم الاجتماع تفوُّق العامل الجماعي، لكنْ قَطعاً في النظريّة الوضعيّة التي نسمّيها فلسفة القانون.

وكان هيريو، كهيغل، مفْرطاً في الاعتقاد بأنّ الحقيقي هو عقلاني، وبأنّ النزعات الاجتماعيّة ينبغي استخدامها حتى من دون التبصّر فيها. أمّا جيني مثلاً ففرَّق بين مخطّط المعرفة التي يتواجد فيها علم الاجتماع، ومقتضيات الحياة التي يجب أن يهتمّ القانون وفلسفته فيها.

خلاصة القول إنّ المذهب الاجتماعي قد ثبت بقوّة الرابطة القائمة بين القانون والمجتمع، وأنّ كل مجتمع ينشئ قانوناً. لكنْ يجب أن يكون واضحًا أنْ ليس مؤدَّى القانون استنتاج الحلول المنطقيّة، انطلاقاً من مبادئ موضوعة مسبقاً، بل يجب البحث عن النتائج المفيدة اجتماعيّاً عن طريق وزن المصالح القائمة، وهذا ما يُسمّيه الألمان «اجتهاد المصالح». أمّا ييرينغ فهو صاحب المبدأ القائل إنّ «الحقّ هو سياسة القوّة». كما عرَّف الحقوق بأنّها «مصالح محميّة بحكم القانون».

ويعتقد علماء الأخلاق واللاّهوت من شارحي الفيلسوف توما الأكويني أنّ المدهش لديه، ليس مظهر الفكرة، بل استنباط ما يضمن رسوخ القاعدة من فلسفة القانون، وهي القاعدة التي ترشد الوجدان والضمير. صحيح أنّ سلامة الاستدلالات الأكوينيّة آخذة في التناقص بالنسبة إلى هؤلاء العلماء، إلاّ أنّهم شاهدوا فيها انتقالاً يسيراً من تطبيق القانون إلى المحاكمة الوجدانيّة.

Epicurus

 

هذا طبعاً في حاجة إلى تهيئة نفسيّة وإعداد تربوي – أكاديمي في المقرّرات الإلزاميّة لطلاّب الحقوق. ففي ندوة حواريّة نظّمتها الجمعيّة اللبنانيّة لفلسفة القانون في بيروت عام 2009 اعتبر البرلماني اللبناني المعروف بعلوّ كعبه في الثقافة الدستوريّة الدكتور نقولا فتّوش «أنّ دراسة فلسفة القانون هي من أهمّ المواد القانونيّة التي تضيء أفق الطّالب والباحث والقاضي ورجل القانون».

طبعاً ليس من مهام المقرَّر الأكاديمي المقترح أعلاه البحث في القانون المدني أو العسكري أو الاقتصادي أو الدولي أو ما شابه، لكن من مهامه مثلاً الإشارة إلى أنّ القانون يعبّر عن إرادة المشرّع، لذلك أمكن تفسيره بالهدف الذي توخّى إدراكَه المشرّع، كما أنّ من مهامه الإقناع، في تزاحُم دَوْرَيْ الإرادة والهدف، بأنّ فكرة الهدف هي التي تعطي، من حيث النتيجة، المفتاح العقلي لتكوين القانون (مثلاً فكرة استهداف حماية المشاة من حركة سير تفاقم خطرها). وربّما كان مؤسِّس علم المنطق سبّاقاً في تقديم تعريف تاريخي للقانون ما زال يدرَّس حتى اليوم في أعرق جامعات العالم. قال أرسطو: «القانون هو المنطق مجرَّداً من العاطفة».

لقد اعتقد ييرينغ بمبدأ قاطع مفاده أنّ القانون لا يبحث عن خير الفرد كهدف قائم بذاته، وإنّما كمجرّد وسيلة لتحقيق خير المجتمع. ولا يبعد ستيوارت مِلْ كثيراً حين يقول: ليست المنفعة مجموع المصالح الفرديّة التي كثيراً ما تتعارض في ما بينها، وإنّما هي المصلحة العامّة. وما من شكّ في أنّ هذه المسألة الأخيرة تقع في سياق الجدال المستمرّ بين فكرة الخير الفردي وفكرة الخير العام… حتى أنّ هناك دعوات حديثة يرتفع منسوبها، لتدريب القضاة من خلال آليّات الإنترنت، على حماية الصحافيّين وتقدير اندفاعهم الذي لا يخلو من الأخطاء، إلى معرفة الحقيقة وتعميمها. من تلك الدعوات مقال روزنتال كالمون إلفيس في العدد الأوّل من مجلّة «كورييه» التي شرَعَت منظمة الأونيسكو في إصدارها.

جان جاك روسو

 

القِيَم في القانون: هل هي ثوابت عامّة أم متعدّدة؟

  • من يصنعها؟ الفرد، المجتمع، الدّين، الموروثات، أمِ التطوّر؟
  • ما هي التسوية؟ وهل هناك مساحة لها في القانون؟

هناك ثلاث غايات على الأقلّ للبناء القانوني: الأمن، والعدالة، والمنفعة. إذاً هناك غائيّة، لكن السؤال هو عن معايير تلك الغائيّة.   

لنأخذ مثلاً مذهب الفرديّة الذي عالجه عدد من الفلاسفة مثل السفاسِطة، والأبيقوريّين، ولوك، وروسو وكانط. ويستند هذا المذهب إلى وجهة النظر القائلة إنّ المجتمع تكوَّن بعد الفرد، وأنّ الإنسان هو الذي أوجده لمصلحته لا العكس. فالإنسان في رأي هؤلاء (ومنهم الوجوديّون) يتمتّع بقيمة أسمى من المجتمع، مهما كان السبب الذي يدّعونه. لكنّ ثمن الحياة الإنسانيّة قائم في الحريّة. لذلك لا معنى للمجتمع إذا لم يكن يتوخَّى حماية الحريّة الفرديّة ونموّها. هذه الفلسفة تتبلور حقوقيّاً بالدور الرئيسي الذي أُعطي للإرادة الفرديّة ولا سيّما للعقد (عَقْد البيع مثلاً أو الإيجار) ما دام العَقد يُعْرب عن الإرادة الحرّة، أي ما يقتضي أن يَعُدّه القانون غايته النهائيّة التي تُرتّب عليه المحافظة عليها. ويرى كانط في قوّة العقد الإلزاميّة صيغة قاطعة لا تقتضي تسويغها. وقد عبّرت عن ذروة هذا الاتجاه مقولة جاء فيها: «كل ما هو تعاقديّ يُعدّ عادلاً».

ثمّة عُرْف قديم يَنْسُب أو يَعْهَدُ إلى القانون مهمّة تقصّي «الخير العام». ونجد هذه العبارة لدى أرسطو، وهي تتقاطع مع الفكرة الأساسيّة لفلسفته الأخلاقيّة التي بموجبها يتوخَّى كلُّ تصرّف إنساني هدفاً معيّناً. ويستمدّ قيمته من قيمة الهدف المنشود، بحيث يكون صالحاً بقدر ما يتوخّى الخير. وقد تبنّى هذه الفكرة توما الأكويني في صلب فلسفته القانونيّة دونما إيضاح آخر. وقد انتشرت تلك العبارة بعد الحرب العالميّة الثانية، لا سيّما في أحاديث السياسيّين. وبرغم حذَرِ بعض المصابين بفوبيا الدكتاتوريّة، يرى أنصار هذه الفكرة أنّها تستطيع وحدها تحديد الهدف النهائي للقانون، في تأليف مقتضيات الحياة في المجتمع، والاحترام الواجب نحو الفرد، مع أنّ فكرة الخير قد لا تكون مشتركة حيث تفترق المصالح (بين الدائن والمدين مثلاً) وقد اعتمد بعض الفقهاء الصيغة الكلاسيكيّة التي تبنّاها كانط فيما بعد، والتي بموجبها يهتمّ القانون بالتصرّفات الخارجيّة، وتهتمّ الأخلاق بالتصرّفات الداخليّة أو النوايا… على أنّ الأواصر القائمة بين القانون والأخلاق تمارس تأثيراً حاسماً، إذْ إنّها تضفي على القانون الصفة اللاّزمة لاكتساب الصّفة الشرعيّة. وإذا كان القانون المدني يدّعي أنّه مُطاع، فليس بإمكانه التوصّل إلى ذلك إلاّ بنسبة شعور المواطنين بأنّ النظام الشرعي يتّصل بقيم تفرض نفسها دون قيدٍ أو شرط.

إيمانويل كانط

 

كانط Kant: لقد تحدّث كانط مراراً عن فلسفة الحق وعن الفلسفة الخُلُقيّة، لكن الرّجل ميَّزَ بين القانون والأخلاق. يقول في «نظريّة القانون»: التشريع الأخلاقي حتى لو أمكن أن تكون الواجبات خارجيّة، لا يمكن أن يكون خارجيّاً. فالوفاء بالتعهّد المعطَى في عقد هو واجب خارجي، لكنّ الأمر بِفِعل ذلك فقط لأنّه واجب دون مراعاة لأيّ اعتبار آخر، لا ينتسب إلاّ إلى تشريع باطن. كذلك يميّز كانط بين المُلْك الحسّيّ (أي الحيازة بطريقة ماديّة)، وبين الملْك العقلي (أي بدون حيازة ماديّة). وكَيْ يكون الشيء مُلْكِي، يكفي أن أستطيع التصرّف فيه دون الإضرار بالغير. كذلك يُقال عن الشيء إنّه ملْكي إذا أضرَّ الغير بي عبْر استعماله إيّاه. ويمكننا تكثيف المقولة الكانطيّة المفصليّة في سؤاله الفلسفي ذي الدلالة الأخلاقيّة: كيف نُخرج الإنسان من الغابة؟

كان غروتيوس (Grotius (1583-1645 هو الملهم الأوّل لمذهب القانون الطبيعي من خلال كتابه «في قانون الحرب والسلام». صحيح أنّ الفكرة قديمة منذ الرواقيّين الذين وحّدوا بين القانون الطبيعي والخير الأسمى، لكنّها منذ القرن السابع عشر، وبالتحديد في القرن الثامن عشر احتلّت، بوصفها نظريّةً، مركز الصّدارة في فلسفة القانون، وصار القانون الطبيعي يُدرَّس في كليّات الحقوق كمادّة قائمة بنفسها، غير ملحقة بالقانون الديني أو القانون الوضعي. كذلك أصبح القانون الطبيعي أساساً في القانون العام السياسي المحلّي والدولي، وعلى أساسه أقام هوبس نظريّته في السيادة، ولوك رأيَه في أن «لا ضرائب بدون تمثيل نيابي»، وروسّو مذهبَه في الإرادة العامّة أو الجماعيّة. ثمّ تطوّر القانون الطبيعي إلى ما عُرف في الثّورة الفرنسيّة وفي الأدبيّات الأميركيّة باسم حقوق الإنسان. ولا ننسى أنّ هوبس كان صاحب نظريّة أنّ المحافظة على النفْس هي سبب إنشاء المجتمع المدني لا العكس. وجاراه روسو في هذه الفكرة، معتبراً أنّ الخاضعين للقوانين وحدهم يحقّ لهم تحديد ما يجب فعله وما يجب ألاّ يُفْعَل. وبهذا نضمن عدالة القوانين ومعقوليّتها، وكونها متّفقة مع حريّة الجميع والتساوي في ما بينهم.

ويعترف بعض فقهاء القانون، وبينهم ميشيل فيلاي Villay أنّ المشرّعين سيطرتْ على عقولهم فكرةُ كانط عن القانون، ومفادها أنّه علم منعزل، لا اتّصال له بعلوم الطبيعة، إذْ لا يمكن أن نستخلص ممّا هو موجود أيّة نتيجة معياريّة. والقانون هو معيار في رأي كانط، وعِلْم منفصل عن السياسة والاقتصاد. فالقانون ليس سوى مساعد لعلم الأخلاق بالمعنى الواسع، وضّامنٍ للحريّات، كما أنّه منفصل حتى عن الأخلاق بالمعنى المحدود، أي نظريّة الفضيلة. وقد بلغ الأمر ببعض الفقهاء القانونيّين مثل دْل فاكيو Del Vacchio ورادبروخ Radbruch إلى حد اعتبار كانط أكبر “نبيّ” للنزعة العقليّة في القانون، خصوصاً عبر كتابه «نظريّة القانون». لكنّه لم يكن المرجع الوحيد. إنّ بين الفلسفة والقانون عدداً كبيراً من الوسطاء لأنّه في هذا الباب لا يتورّع المؤلّفون عن النقل بعضهم عن بعض. ويُعتبر إميل لاسْك E. Lask صاحبَ أهم بحث صدر عن النزعة الكانطيّة في ميدان فلسفة القانون وهو بعنوان «فلسفة القانون» أيضاً، وقد صدر عام 1923.

غروتيوس

تعريفات:

لكانط تعريفات ساقها في تصدير بعض طروحاته حول القانون وخصوصاً في كتابه بعنوان «نظريّة القانون»:

  • الالتزام: هو ضرورة فعل حرّ تحت آمر مطلق للعقل.
  • المشروع: هو الفعل الذي لا يتعارض مع الالتزام. وغيرُ المشروع هو ما ليس كذلك.
  • الواجب: هو الفعل الذي يُلزَم به كلّ إنسان، وهو إذن مادّة الالتزام.
  • الانتهاك: هو واقعة مضادّة للواجب.
  • الانتهاك بدون قصد ولا سبْق إصرار: يُسمّى غلطة.
  • الانتهاك عن عمد وسبْق إصرار: يُسمّى جريمة.
  • المشرّع: هو من يأمر بواسطة القانون. إنّه فاعل الالتزام بواسطة القوانين وليس هو دائماً صانع القانون. وفي الحالة التي يكون فيها صانعَه، فإنّ القانون يكون وضعيّاً.
  • القاضي / أو المحكمة: هو/هي الشخص الطبيعي أو المعنوي المخوَّل أن يَنْسُب (إلى شخصٍ ما فِعْلَ شيء) قضائيّاً.

وإذا فعَلَ إنسانٌ شيئاً متّفِقاً مع الواجب لكنّه أكثر ممّا يُلزمه به القانون، فإنّ هذا الشيء يُعدّ فضيلة. وإذا لم يفعل سوى ما يقتضيه القانون فإنّه لا يفعل غير أن يؤدّي ديْناً. وإذا فعل أقلّ ممّا يقتضيه القانون، فإنّ فِعْله يُعدّ جنحة أخلاقيّة. والأمر في القانون لا يتعلّق بالنيّة بل بالفعل الخارجي.

النتيجة القانونيّة للجنحة هي العقوبة. والنتيجة القانونيّة للفعل الفاضل هي المكافأة. أمّا انطباق السلوك على ما هو واجب فليس له أيّ أثر قانوني.

توماس هوبس

 

لم يكتفِ كانط بإخبارنا عمّا هو قانوني، أي عمّا تنصّ عليه القوانين في مكانٍ معيّن وزمانٍ معلوم. فالسؤال في رأيه هو: ما القانون؟ ما الحقيقة؟ بل إنَّ السؤال عن القوانين هو: هل ما تنصّ عليه عدل؟ وما المعيار الكلّيّ الذي يتعرّف به ما هو عدل وما هو ظُلم؟ ورأيُ كانط هو أنّ المعرفة التاريخيّة البحت بالقانون تتناول فقط ما وضعته التشريعات العمليّة من قوانين في مكانٍ وزمانٍ معيَّنَيْن، لكنّها لا تستطيع الإجابة عن هذا السؤال: ما هو القانون؟

إنّ المعرفة العقليّة هي وحدها المستطيعة، أيَّ تفسيرٍ منظِّم للقانون الطبيعي. والقانون، بحسب العقل، لا يتعلّق إلاّ بالعلاقة الخارجيّة العمليّة القائمة بين الأشخاص بعضهم ببعض. إنّه لا يحدّد علاقة الحريّة للواحد مع الرغبة أو الحاجة للآخر، بل علاقة حريّة الفاعل مع حريّة الغير. وعلى هذا فإنّ القانون هو مجموع الشروط التي تخضع لها ملكة الفعل الحرّة لكلّ شخص حتى تتفق مع الملكة الحرّة للفعل لدى الآخرين تبعاً لقانون كلّي للحريّة. والفعل يكون عادلاً إذا كان يُمَكّن من مثل هذا الاتفاق. من هنا جاءت القاعدة الأساسيّة: إفعلْ خارجيّاً بحيث يمكن الاستعمال الحرّ لإرادتك أن يتّفق مع حريّة الجميع وفقاً لقانون كلّي. ويصل كانط، بناءً على ما سبق، إلى استنتاج ما يلي: «القانون هو مجموع الشروط التي يمكن بها لحريّة الواحد أن تتّحد مع حريّة الآخر وفقاً لقانونٍ كلّي للحريّة».

يلاحظ كانط أنّ لكلّ إنسان أن يكون حرّاً، حتى لو كانت حريّته أمراً لا يهمّني أبداً، أو حتى لو كنتُ أتمنّى الإساءة إليها، بشرط ألاّ أضرّ بها عبْر فعلٍ خارجي. فالأمر إذاً ،متّصل بالفعل الخارجي لا بالنيّة. والمهم هو ألاّ أفعل فعلاً خارجيّاً يضرّ بالغير، أمّا نيّتي فأمرٌ آخر لا شأن للقانون به ما دامت لم تُتَرجَم بفعلٍ خارجي. وهذا هو الفارق الأكبر بين الفعل الأخلاقي والفعل القانوني.

كما يلاحِظ من ناحية أخرى أنّ المبدأ الكلّيّ للقانون ليس هو الوحيد الذي يحدّ حريتي الأخلاقيّة، بل ربّما هناك أسباب أخرى للحدّ من حرّيتي. فالفعل الظالم عائق للحريّة، والقهر كذلك. لكنْ ليس معنى هذا أنّ كل عائق للحريّة ظُلْم، فإنّ القهر العائق لِما يعوق الحريّة يُعَدّ عدلاً، ولهذا فإنّ قهر ما يضرّ بالحريّة أمر مرتبط بالقانون. بعبارةٍ أوضح: إذا قامت سلطة بمنع التعدّي على الحريّة، فإنّ ذلك عدْلٌ منها، وإن أضرّ بحريّة المعتدي. وهكذا «فإنّ القانون وملكة القهر هما شيء واحد».

ميشيل فيلاي

 

في فلسفة السّياسة

الحالة المدنيّة بالنسبة لكانط هي العلاقة بين الأفراد في شعبٍ من الشعوب. ومجموع الأفراد بالنسبة إلى هؤلاء الأفراد يُسمّى الدولة. والدولة تُسمّى أيضاً الشأن العام نظراً إلى بنْيتها، ومن حيث ترابطها بالمصلحة المشتركة للجميع في أن يكونوا في حالةٍ قانونيّة. أمّا في علاقاتها بالشعوب الأخرى فإنّها تُسمّى «قوّة» potential. كما تُسمّى أحياناً «الأمّة» بسبب الوحدة المزعومة في التراث. لذلك يُصرّ بعض الفلاسفة الغربيّين المعاصرين على ضرورة تنزيه الفلسفة عن أيّة وظيفة أيديولوجيّة، أي على «الصّفاء الفلسفي» بتعبير الفيلسوف الإنكليزي ريتشارد هير.

مفهوم الدولة عند كانط

يعرّف كانط الدولة بأنّها «توحيد كثرة من الناس تحت قوانين شرعيّة». وإذا كان مونتسكيو قد رأى أنّ الغرض من فصل السلطات هو «كفالة الحريّة السياسيّة» للفرد في الدولة، بالحدّ من طغيان سلطة، وبالتوازن بين السلطات، فإنّ كانط يعتبر أنّ كلّ دولة تشتمل في ذاتها على ثلاث سُلُطات، عنَى بذلك الإرادة العامّة موحدةً في ثلاثة أشخاص: السلطة ذات السيادة، وتقوم في شخص المشرّع، والسلطة التنفيذيّة وتقوم في شخص مَنْ يَحكم (وفقاً للقانون)، والسلطة القضائيّة (التي تنسب إلى كلّ واحد حقّه وفقًا للقانون) في شخص القاضي. وهي بمثابة ثلاث قضايا في برهان العقل العملي: القضيّة الكبرى تحتوي على قانون إرادة، والقضيّة الصغرى تحتوي على نظام السلوك وفقاً للقانون.

وطبيعيّ أنّ كانط عَنَى بوضوح أنّ التشريع لا يمكن أن يكون إلاّ لإرادة الشعب الموحّدة، أي للمبدأ الديمقراطي. وقد أصبح مبدأ الفصل بين السلطات نظريّة دستوريّة في المادة 16 من «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» الذي أصدرته الثّورة الفرنسيّة سنة 1789 على النّحو التالي: «كلّ مجتمع لا تُؤَمّن فيه الحقوق، ولا يحدَّد فيه الفصل بين السلطات، هو مجتمع بلا دستور».

 

لقد كان كانط حاسمًا في اعتبار السلطة العليا للدولة ممثِّلة لشخصيّة مثلثة. لكن هذه السلطة، بوصفها مشرِّعة؛ فإنّها ذات سيادة، ولا يوجد شخص فوقها. أمّا بوصفها حاكمة فهي تستند إلى قوانين، وتخضع لها. كذلك بوصفها قاضية هي تحت القانون والحكومة، ويجب عليها أن تؤمّن أن يشارك الجميع في السّعادة. (شرح العلاقة بين المواطن والوطن).

وفي ذلك يقترب كانط من طرح «العقد الاجتماعي» لروسّو القائل: «كلّ واحدٍ منّا يضع شخصه وكلّ قوّته بالاشتراك تحت التوجيه الأعلى للإرادة العامّة. نحن نتقبّل كلّ عضوٍ بوصفه جزءاً لا يتجزأ من الكلّ». كما يتّفق روسو أيضاً مع هوبس حين يقول الأول: «لا يوجد في الدولة غير عقدٍ واحد، هو عقد المشاركة (التجمّع)، وهو وحده يستبعد كلّ عقدٍ آخر». وهذا يعني في نظر روسّو أنْ ليس هناك عقْدُ إذعان، ولا عقْدُ حكم أو حكومة، بل فقط عقْد مشاركة. لكنّ ثمّة فرقاً كبيراً خارج موضوع المجتمع المدني بين روسّو وهوبس. فالأخير لا يعتبر الإنسان اجتماعيّاً بطبعه كما قال أرسطو، ثمّ علماء الاجتماع المحدثون. كذلك ليس الإنسان عند هوبس كائناً عقليّاً مجرّداً كما قال فلاسفة التنوير، بل هو كائن شرّير حافل بالنّقائض، جبان، فاسد، خبيث، تدفعه المصلحة الذاتيّة، وتتحكّم فيه الغرائز الأوليّة من أنانيّةٍ وجشع. وهو لا يُذعن إلاّ إذا خاف، ولا يضحّي بمصالحه إلاّ مرغَماً، ولا يحبّ السلام للسلام، بل فزعاً من نتائج الحرب. ويتلخّص هذا كلّه في العبارة المشهورة التي قالها توماس هوبس: «الإنسان للإنسان ذئب، والكلّ في حرب ضدّ الكلّ، والواحد في حرب ضدّ المجموع».

قولٌ في السّيادة

وجد كانط في مسألة السيادة ثلاث نظريّات أمامه:

  1. النظريّة المسيحيّة القائلة إنّ السلطة المدنيّة مستمدّة من الله.
  2. الملكيّة القائلة أنّ السلطة السياسيّة كالسلطة الأبويّة قائمة على الطّبيعة. فكما أنّ الأسرة يحكمها أب، كذلك الدولة يحكمها ملك بمثابة أب.
  3. النظريّة التعاقديّة التي تقول إنّ السلطة السياسيّة تقوم على أساس ميثاق أو عقد سياسي بين الحاكم والمحكومين، وتبعاً لهذه النظريّة، فمصدر السيادة هو الشّعب. وقد تأثّر كانط بهذه النظريّة الثالثة لأنّ الأساس القانوني للدولة هو اتحاد إرادة الشعب. فالشعب هو صاحب السيادة العامّة، لأنّه «لا يمكن أن يوجد سيّد غيره، بموجب قوانين الحريّة».
إميل دوركهايم

 

حول القانون الدّولي

بقيام الدول بعضها إلى جوار بعض، تنشأ علاقات في ما بينها لا بدّ أن يحكمها قانون، وهذا هو القانون الدولي، أو قانون الدول بتعبير كانط (التفاصيل غير مطلوبة، باستثناء الإشارة إلى دور المنظّمات الدوليّة في رسم هذا القانون وتفسيره وفرضه، عبر الدول الكبرى)، علماً أنّ ما يُسمّى «السلام الدائم» هو الغاية الأخيرة للقانون الدولي، وهي فكرة غير قابلة للتحقّق، لكن المبادئ الأساسيّة مفيدة في تقريب الهدف المشار إليه. وإذا كانت الدول تقرّ الحرب على «الظّالم» فمن يحدّد الظّالم ومفهوم الظّلم؟

إنّ مطلب مراعاة العدالة حتى قبْل تطبيقها، يمكنه إقامة ارتباط حكمي بين القانون والأخلاق. وما من شكّ في أنّ الذين يزعمون تحقيق ذلك يبالغون، بحيث يدّعون أنّ القانون، وكلّ قرار قضائي منفرد يحقّقان العدالة بشكلٍ حتمي. بعبارةٍ أخرى، يُقال في كثير من الأحيان بأنّ القانون يكون سليماً على الدوام من وجهة النظر الأخلاقيّة. وهذه المقولة تعني بأنّ كل ما ليس صحيحاً من الناحية الأخلاقيّة لا يمكن اعتباره قانوناً. ولأنّ فرضيّة الظلم لا يمكن تبنّيها، يصعب أن يكون الارتباط بين القانون والأخلاق في حالة كهذه ارتباطاً تصنيفيّاً بقدر ما هو ارتباط نوعي. وعليه، لا يقود خرق مبادئ الأخلاق – كما يؤكّد البروفسور روبرت ألكسي – خارج منطقة الظلم الصارخ إلى فقدان الطابع القانوني للقاعدة أو القرار القضائي المثيريْن للجدل… إنّ الارتباط الضروري للقانون بمبدأ مراعاة العدالة وبكونه ينطوي ضمناً على مراعاة الأخلاق السليمة، لا يعدّ سبباً يؤدّي، خارج مساحة الظّلم الصارخ، إلى فقدان الطابع القانوني لخرق الأخلاق، لكنّه يؤدّي بالضرورة إلى تعييب قانوني. وهكذا يكون الارتباط التصنيفي ارتباطاً قويّاً، في حين يكون الارتباط النوعي ارتباطاً ضعيفاً، من دون أن يُلغي ذلك إمكانيّة أن تكون الارتباطات الضعيفة نفسها جزءاً من الضرورة أحياناً.

هيغل

 

خاتمة

يجب ألاّ يكون هناك نزاع بين السياسة من حيث هي ممارسة للقانون (للحقّ)، وبين الأخلاق من حيث هي نظريّة للقانون (الحقّ)، التي بموجبها يجب أن نتصرّف. وثمّة قاعدة طنّانة لكنْ صادقة مفادها: «لِتَسُدِ العدالة، حتى لو أدّى ذلك إلى هلاك الأشرار كلِّهم في العالم». وهذه القاعدة القانونيّة تقطع الطرق الملتوية التي يسلكها المَكر والعنف، وفيها أيضاً: لا تستسلم للأشرار بل واجِهْهُمْ بجسارة. أي أنّنا مدعوّون إلى الانتصار على مكر المبدأ الشرير الذي يدفعنا كذبُه الخطير ومغالطاته الغدّارة إلى الاعتقاد بأنّ ضعف الطّبيعة الإنسانيّة يبرّر جميع الانتهاكات. ويدعو كانط إلى ممارسة الحكمة السياسيّة والفطنة لتجنّب الاندفاع إلى العنف، فيقول: «أُنْشُدْ قبل كلّ شيء سيادة العقل المحض العملي وعدالته، تتحقّقْ غايتك (وهي نعمة السّلام الدائم) من تلقاء نفسها».

أخيراً، وفي سياق متّصل بالخاتمة المقارِنة بين السياسة والأخلاق، يَعتبر فيلسوف القانون تروبير أنّ الكلام على فلسفة القانون بصورته العموميّة يهدف إلى إطلاق عمليّة تفكُّر منهجيّة حول تحديد القانون، لجهة علاقته بالعدالة وبعِلم القانون، وبنمط التحليل القانوني المتّبع. ولعلّ هدف تروبير من خوضه غمار هذا الميدان المتشعّب والشائك هو إيصال رسالة مفادها أنّ القاعدة الصحيحة هي تلك التي يتمّ اعتمادها على يد سلطة صالحة. كما أنّ معرفة كون القانون خاضعاً للمنطق ليست مسألة تجريبيّة يمكن تقريرها بمجرّد دراسة سير العمل الفعلي للمنظمة القانونيّة. فهذه المسألة، في رأي تروبير، مرتبطة بالخيار الأنطولوجي (الوجودي) الذي يرتبط بالخيار الأبستمولوجي (المعرفي). وهذا يعني، كما ارتأى أن يختم كتابه، بأنّ القانون لا يُعطَى، بل تَبْنيه النظريّة التي تقود معالجته. وما من ريبٍ في أنّ النظريّة، أو النظريّات، مفتوحة على آفاق الإضافة الأرحب، سواء كان ذلك حول القانون أو حول أي موضوع من موضوعات النّشاط الإنساني العقلي.

***

مراجع عامّة

 

  1. Kant, Immanuel, An Exposition of the Fundamental Principles of Jurisprudence: As the Science of Art, Tr. From German by W. Hastle, The Lawsbook Exchange, New Jersey, 2007.
  2. Ripstein Arthur, Force and Freedom: Kant’s Legal and Political Philosophy, Harvard University Press, 2009.
  3. باتيفول، هنري، فلسفة القانون، ترجمة سموحي فوق العادة، منشورات عويدات، بيروت، 1984.
  4. روبرت، ألكسي، فلسفة القانون (مفهوم القانون وسريانه)، ترجمة كامل السالك، منشورات الحلبي الحقوقيّة، بيروت، 2013.
  5. تروبير، ميشال، فلسفة القانون، ترجمة جورج سعد، دار الأنوار، بيروت، 2004.
  6. نويد، دينيس، فكرة القانون، سلسلة عالم المعرفة الكويتيّة، رقم العدد 47، 1984.
  7. Alves, Rosenthal, Calmon, Training Judges Online to Safeguard Journalists: The UNESCO courier, Issue 1, Paris, April-June 2017.

8.عبيد ،ماغي ،فلسفة القانون(السجال بين جمود النص وطفرات الواقع) ،دار صادر، بيروت 2017 .

***ُنشِرتْ في مجلة “الحياة النيابية” المُحَكّمة الصادرة عن مجلس النواب – بيروت ، عدد أيلول 2019.

[*] – أستاذ الحضارات والفلسفة السياسية- الإجتماعية  في الجامعة اللبنانيّة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *