الحرّيّة التزامنا الدائم

Views: 1072

مارون أبو شقرا

استكمالاً لما كنت قد كتبته البارحة حول الهجمة المخيفة التي شنّت على الشاعر حبيب يونس ، وبعد مناقشات مع بعض الأصدقاء قرّرت الاستفاضة ….

جاء في إنجيل يوحنا 2 ما يلي :

“1 وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ.

…….

3 وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ، قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ».

…….

6 وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ، …..

7 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «امْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً». فَمَلأُوهَا إِلَى فَوْقُ.

8 ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «اسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْمُتَّكَإ ” .

 

وجاء في إنجيل متّى 26 ما يلي :

 27 وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ،

…….

29 وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ الآنَ لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هذَا إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ أَبِي»

 

نفهم من الآيات المذكورة كيف أنّ الربّ في المسيحية تحوّل من ذاك اليهوه الجبّار العاتي القتّال القاسي المتعالي الكاره للأمم الحاقد عليهم إلى يسوع الرقيق المحبّ اللطيف البسيط  الودود الحليم المبتسم المحتضن، يسهر مع أحبائه نديمًا مصغيًا مثيلاً لهم في عيشهم ومأكلهم ومشربهم وفرحهم ، رافعًا كأسه شاربًا أنخابهم …

ألوهيته في محبّته … الله محّبة قالها يوحنّا في إنجيله … بهذه المحبّة تواضع يسوع، وتجسّد ليرفع الإنسانَ إلى مرتبته ليتساوى به ، ليصير شريكًا للخالق ومساعدًا يساعده في استكمال عملية الخلق ، وبالتالي خالقًا مثله كما عبّر القديس توما الأكويني يوم قال : “بعض مهمات البشر هي مساعدة الخالق باستكمال عملية الخلق الكونية” … فسقطت من المسيحية  المحرّمات والفرائض الموسوية ، وأصبح العقل هو الشرع الأعلى ، والإنسان خالقًا ومشرعًا ، والإيمان والعبادات خيارًا حرًّا بالكامل….

انعكست هذه الحرّية وهذا التساوي بين الإنسان وبين ربّه على أدب المسيحيين وشعرهم ، فسقط السجن لصالح الجمال، والحرم لصالح الفنّ ، والقيد لصالح الأفق المفتوح، ومحاكم التفتيش لصالح الإنسان… فجاء شعرهم سابرًا فاتحًا متجاوزًا منطلقًا غير آبه بخوف أو مصادرة أو تكفير أو حدود سوى حدود القيم غير المحدودة، وغنيّ عن القول أنّ الحرّيّة شرط من شروط الإبداع …

سأورد فيما يلي بعض نصوص لشعراء مسيحيين معاصرين ، علّ في الإيراد إفادة :

الشاعر واللاهوتي سعيد عقل (لاهوتي واسمه أكبر من أي تعريف) من  الخماسيات 1978 :

نيرونهُن عملوك …. قدّامك

نكّسو جبينُن وماع الْ ماع …

مش هيك بدّك إنت … أحلامك

تشوفُن ولولا شوي بمقامك ..

كاسَك يا ربّي ، سْماع شعر سْماع !!!!

غرتي يا حلوِةْ عُمر منها، وزاد

حُبّي إلا ، وقلبي إلا صلّى ….

بلادي مش أيّا مَ كان بلاد ،

تلاتِه تعاوننا وكنّا ولاد ،

تَ نخلقا : الحلم وأنا وألله !!!!

وهو القائل أيضًا

كأسي بكأسك ربّي

اشرب … ولبِّ ندا …

الشاعر واللاهوتي نقولا يواكيم ، (ترك الحياة الإكليريكية، وتفرّغ للتعليم في الكلّيّة الشرقيّة في زحلة ، التابعة للرهبانية الباسيلية الشويرية، نشر هذه القصيدة في ديوانه “تأملات ليلة صيف” 1973 وكان لمّا يزل يمارس التدريس في المدرسة المذكورة) :

يوجعُني ما تائبٌ في الليل صلاّهُ

يوجعُني الخاطئُ إن يبكِ خطاياهُ

يوجعني أَنّي أنا ، وأنّك اللهُ …

عناق

سمّرتُكِ في حُبّي وثنًا

خجلت في معبده الصلبانْ .

الهيكل يركعُ في قلبي

واللهُ يصلّي للأوثان .

ضجّت بي قبلكِ ضوضاءُ :

الصحوُ ، الماردُ والثعبان .

بكِ ، يا للحبّ تعانقَ فيّ

الله وقلبي والشيطان .

الشاعر جوزف غصين (شاعر ولاهوتي، نظّر لفكرة رفعها إلى الكنيسة تفيد أن ” لبنان ميزان زئبق العالم “… بعد سنوات أطلق البابا شعار “لبنان الرسالة” .. من ديوانه “كمشة حلا 1966 )

صليب

معوّد عَ صدرِك ينصلب بالسنسلِه !

ويغلّ … ما يحلم بعرش وْلا بْسما !

وجوّات سبع بحور قصّه بيحلما …

يا ريت متلو بموت عَ هالجلجلِه !!!

الشاعر جورج مسلّم ( كتب في اللاهوت ، من ديوانه وتخلق دني 2000)

مش كفر إنّي قدّسك ، مش كفر

مش تحفتو إنتي ؟؟؟ وتتجلّي ؟؟؟

وتتمرّدي بجنّه وتتحلّي ؟؟؟

بكرا إذا ضمّيت مرّه الخصر

لا تبيعديني بكون عم صلّي …

الشارع ميشال طراد (غنيّ عن التعريف، من ديوانه “جلنار” 1951)

قلاّ لهالجارَه

الْ عم تسألك عنّي

قلاّ بالخسارَه

باعا لهالجنّه

وقاعد عم يغنّي

عَ باب خمّارَه …

الشاعر الياس حبشي (ابن كنيسة كتب الكثير من القصائد الدينية ، وكتب في اللاهوت )

 من ديوانه “أحبك أكثر” 2004 :

حبيبتي الملاك

أحببتُ في أمسي كثيرًا

هل تراكِ تسامحين

أرجو اعذري، إن الهوى

للشاعر المِعشاق دين …

من ديواني رقصَه عَ باب الضوّ 2014 الذي تحدّث في توقيعه اللاهوتي جورج الأشقر، وأصرّ الشاعر إنطوان مالك طوق على قراءة القصيدة الواردة هنا في إحدى أمسياتي في مدينة بشرّي بحضور عدد كبير من نخبة المتذوّقين ، بينهم رهبان أثنوا على ما جاء في تلك الأمسية :

سابو أسود

كانو ضفيرِك بِيض

عَ شفافُن زْياح …

أيّا كرز ؟؟؟ أيّا زهر تفاح ؟؟؟

متل طاقِةْ دير ، ملفوفِه بعتم ،

وشموع جوّا … بلّش الزيّاح …

ومن ديواني “العنوان : عشتار” ، الصادر عن دار بشاريا 2000، وبرعاية كريمة من الأب جان مهنّا (الذي خدم لاحقًا في روما كمترجم لقداسة البابا وكمسؤول عن القسم العربي في إذاعة الفاتيكان) رئيس مدرسة مار يوحنّا في خربة قنافار ، التابعة للرهبنة المريمية ، شاركت في أمسية كمقدّمة للديوان المذكورفي صرح الدير، دون أي اشتراط من قبل الأب مهنّا يتعلّق بمضمون الديوان أو القصائد المنتقاة، إيمانًا منه بقدسية الفنّ والحرّيّة … من هذا الديوان اخترت لكم هذه القصيدة :

قالت :

شوبحبّ عَ صدري وإنت سكران ،

من ريحتي .. زنبق ، عطر بيسيل !

وإتجمّع بإيدَيك ، أوجع … ميل …

ويرتاح عَ قلبك ، قلب تعبان ،

وشي متل ألله ، والدني تراتيل …

الحرّيّة والمسيحية صنوان، وكل اعتداء على الحرّيّة اعتداءٌ على كرامة المسيح الذي أرادنا أحرارًا ، مساوين له … لعلّ الدور الأهم والأبرز للمسيحيين في لبنان هو أن يظلّوا حماة الحرّيّات العامّة وعلى رأسها حريّة التعبير وحرّيّة الرأي والقول والكتابة… خطيرٌ أن نتحوّل إلى دواعش نكفّر القلم ونقطع أصابع الشعراء ورقاب الحروف…

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *