إزميل أنطوان معلوف بين أوديب وأفلاطون

Views: 758

سمر الخوري

الإزميل مسرحية شاء الدكتور أنطوان معلوف أن يسميها مأساة، على غرار المآسي الإغريقيّة الشكسبيريّة التي تنتهي بموت الأبطال.

مأساة ذكّرتني بقصيدة التمثال للشاعر السوري نزار قباني يقول فيها، واصفاً الحب:

الحبّ ليس رواية شرقيّة        بختامها يتزوّج الأبطال

هو هذه الأزمات تسحقنا معاً   فنموت نحن وتزهر الآمال

ولكن مسرحيّة الإزميل تميت الآمال قبل الحب لأنها مبنيّة في جوهرها على حتميّة الخطيئة التي عاقبتها الموت.

يتلاقى في المسرحية طيفان ثقافيّان هما طيفا أوديب وأفلاطون. ويتجسّد هذان الطيفان بشكل معلن في شخصيتي دامون وزاد. فدامون وجد نفسه عاجزاً عن التحرر من طيف أمه، وتأثيرها عليه. لذلك تركته زوجته ناردين وتعلّقت بزاد. والأم لم تستطع التحرر من حبها لولدها، وتعلّقها المرضيّ به، فكادت لزوجة ابنها كي تفصلها عنه، ويعود إليها ابنا وعشيقاً وشريك لذّات. وكذلك زاد الذي كان معروفاً عنه كرهه الظاهر للمرأة، ولكن هذا الكره ينكشف فيما بعد، تعلّقا بالأم ورغبة في قتل الذات، بسبب هذه العلاقة الافتراضيّة. فكان يرى وجه أمّه في وجوه النساء جميعاً. فصورة حدد التي أراد نقشها على الصخرة، داخل الكهف، تحوّلت إلى صورة أمّه، ثمّ إلى صورة عشيقته ناردين. وفكرة الموت المزدوج، داخل الكهف، تجسيد للموت النفسي الذي رافق العقدة الأوديبيّة لدى زاد وناردين، من جهة، ودامون وأمّه بشكل أوضح.

أمّا الكهف الذي سجن فيه دامون زوجته وعشيقها الافتراضي فهو الكهف الذي رسمه أفلاطون في فلسفته التي محورها عالما المثل والظلال. ولكن هذه الفلسفة أتت معاكسة للفلسفة الأفلاطونيّة. فالكهف يضمّ الحقيقة، والنور خارجه هو نور الزيف والخداع. وكانت النتيجة انتصار الظلال على النور؛ لأنّ الواقع النفسيّ الأوديبيّ كان مسيطراً في حتميته والمأساة.

ولعلّ الكهف يحمل في ظلاله الحريّة التي افتقدها الأبطال خارجه. فدامون كان مقيّدا بعاطفته تجاه أمّه من جهة التي تحوّلت إلى رقيب يحصي خطواته، ويمنعه من التعبير عن أشواقه تجاه ناردين. وزاد الذي كان يخفي تعلّقه بناردين، عبر الكبت، والحرمان، فجّر كبته وعاطفته، عبر النحت، فجسّم صورة معشوقته في الصخرة التمثال، وأعلن حبّه لها، مرفقاً بصورة الأم/ المعبودة/ المحبوبة التي ظهرت على حقيقتها في نهاية المطاف، في تمثال ناردين. وأتى الموت منقذاً لزاد وناردين من سجن شهوتهما، داخل الكهف، وعقاباً لدامون وأمه ليس على التسبب بموت زاد وناردين، بل على خطيئة أوديب دامون في عشقه أمّه، وعدم تحرره من حبلها السرّيّ.

الإزميل عنوان المسرحيّة يحمل دلالة مزدوجة فهو رمز للعضو الجنسي الذي حفر عواطف زاد، تجاه أمّه وناردين. وهو مكوّن من قسمين: إز وميل.

وفي حين يدلّ فعل أز على شدة الحركة والهيجان، فإن كلمة ميل تدل على الميل. لتصبح الكلمة بمجملها دلالة على ميل شديد يضرب بمطرقة الغضب حينا والشوق أحيانا أخرى.

كما كان للأسماء في حضورها والغياب أثر كبير في إضفاء إيحاءات لا تحصى على شخصيّات المسرحية.

دامون مشتق من الكلمة دم. وفي هذه الكلمة إيحاء إلى رابط الدم بين البطل وأمه. وهو رابط امتد إلى ما بعد الموت، داخل الكهف.

ناردين مشتقة من النار والدين. وفي هذا الاسم إيحاء بالدينونة التي سببتها تلك المرأة للواقعين تحت تأثير عشقها أو الغيرة منها. فكانت السبب في موت أربعة أشخاص: هي وزاد ودامون وأمّه.

زاد له معنى الزيادة أو الطعام. وهذا الشخص كان له من عشقه ناردين زاد للعبور إلى عالم مشبع بالحقد والغيرة والكبت. واسم رهب مشتق من الرهبة والخوف. أما اسم حدد الإله اللامحدود الذي يضع الحدود التي تخطتها الشخصيّات في تعاملها وواقع حياتيّ سبّب المأساة الجمعيّة. وقد تكون صرخة زاد مشابهة لصرخات الإنسان حين يشعر أن الله لا يلتفت لتوسّلاته:

 “يا حدد، ثانية أهتف إليك… تنزّل من عليائك، وضع يدك مع يدي!”

أما صفة البستانيّ التي أطلقت على زاد ورهب فهي إيحاء بعلاقتهما الآثمة بناردين التي تحوّلت إلى بستان يهتمان به، في غياب اهتمام صاحبه.

وقد تكون مهنة الناطور تجسيداً للأنا العليا التي تسهر على أعمال الأنا السفلى، وتحاول أن تكون رقيباً وحارساً، ولكن بلا جدوى.

أما شوني الزانية فهي أعمال الإنسان التي تفضحه وتكشف أعماله السيّئة. استعانت بها الأم لإبعاد ولدها عن زوجته، فكانت كمن يستجير من الرمضاء بالنار.

أمّا الكهف فهو يحتمل العديد من الدلالات؛ إنّه كهف الحياة الظلال، وهو كهف السبعة الذين سجنوا ووردت قصتهم في القرآن. وقد يكون تمثيلاً للقبر الذي دفن فيه السيد المسيح، بعد موته على الصليب. والسؤال المستمر من يدحرج الحجر عن باب الكهف تجسيد لهذه الفكرة. ولكن الفارق بين القبر والكهف أن قبر السيد المسيح كان مدعاة للقيامة، في حين أن كهف الإزميل كان مسرحاً للموت الذي بلا قيامة، أو خلاص.

خلاصة نقول: إن مسرحيّة الإزميل ليست المسرحيّة المأساة، بل هي ملهاة كالحياة. تغوص في عمق النفس الإنسانيّة التي تحكم على نفسها بنفسها، ولا تنتظر حكم القدر.

صدقت، أيها الكاتب، في تحديد زمان مسرحيتك ومكانها. فالحياة بستان كبير، فيه الأنوار والظلال. ومصير الإنسان في كهف الموت النفسي، قبل الموت الماديّ. والمدينة التي أتت منها الزانية هي بابل التي تدين أورشليم على فسادها والضلال. وهذه المأساة سيزيفيّة لا يحدّها زمان، لأنها عقاب على لعنة أزليّة:

” كلّنا أشرار

كلّنا نحمل الموت بعضنا لبعض”

في مسرحية الإزميل، يتلاقى أوديب وأفلاطون، تكتمل صورة المأساة الإنسانيّة التي غاص معلوف في أغوارها بحثاً عن قنديل ديوجين، ولكن أعاصير الخطيئة أطفأت المصباح، وبدّدت رماد الفينيق، وأوهام القيامة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *