إعادة تدوير الآلهة… قراءة في رواية “المُتَمْثَلون” للكاتب إسماعيل بهاء الدين سليمان

Views: 1105

هاني منسي(*)

بداية بعتبة النص “المُتَمْثَلون”، اسم مفعول جمع كلمة المُتَمْثَل، أي الشخص الذي أصبح تمثالًا وذلك دون أدنى مجهود مقصود، بل إن كل المجهود بذله آخرون غيره في عملية التَمْثَلة. واستخدام صيغة الجمع موفق جدًا وكذلك “ال” التعريف، مما يدل على كثرة هؤلاء المُتَمْثَلين وسهولة تمييزهم. أو معرفتهم

يبدأ إسماعيل بهاء الدين سليمان روايته البديعة “الفانتازيا الواقعية جدًا” حسب وصفه لها على الغلاف، أو الواقع الفانتازي، بإهداء في قمة الغرابة والكوميديا السوداء، وبلغة شعرية كألف ليلة وليلة، فهو يهدي روايته إلى مَن يشير إليهم العنوان “المُتَمْثَلون”، أي الحكام التماثيل الصمّاء المجرَّدة من الإحساس والإدراك والوعي: 

“إلى قاطني الأعالي والعلالي، أصحاب السعادة والفخامة والسيادة والمعالي، حكّامنا الأجلّاء، ملوكًا ورؤساء وأمراء، الذين يضحّون بسعادتهم ويؤجّلون الاستمتاع بما ينتظرهم في جنّات النعيم، من أجل أن يظلوا معنا إلى الأبد، خوفًا علينا أن نضيع أو نضيِّع البلاد بَعدهم.”

تتكون الرواية من مدخل ومخرج يغلِّفان بوبينتَين أي بكرتَين لعرض مادة سينمائية. البوبينة الأولى تعرض ٦١ لقطة، والبوبينة الثانية ٦٨ لقطة، تتوالى عبرها مشاهد الرواية. ومَن يقوم بتشغيل البوبينتَين في حجرة العرض هو “رجل واحدٌ وحيدٌ مُتعَب، يدفن رأسَه بين ركبتَيْه، ويبكي بصوتٍ خافِتٍ جدًا، كطفلٍ بائسٍ جدًا…” 

الكاتب إسماعيل بهاء الدين سليمان

 

يتنقل بنا الكاتب عبر عدسته الشديدة الحساسية لأدق التفاصيل، من مشهد خارجي لما يدور في الشارع الواسع العريض إلى مشهد داخلي داخل حجرة المعيشة تارة أو في حجرة نوم المرحوم تارة أخرى. وقد وظف الكاتب خبرته السينمائية والإذاعية جيدًا في الكتابة، ما يجعلك تشاهد وتسمع وتندهش وتخاف وتحزن، إلخ، من خلال السطور التي تنهمر بلا هوادة. ولا تفيق إلا بانتهاء المشهد بطريقة لا تخلو من عنصر التشويق ثم الانتقال إلى مشهد آخر وهكذا.

يمزج الكاتب ما بين الواقع و الخيال ويضفر ما كان بما هو كائن وبما سوف يكون مستقبلًا، مثقلًا بهموم الماضي ومتشبِّعًا بإحباطات الحاضر ومرعوبًا من حتمية المستقبل، نظرًا لما قدمه كل من الماضي والمضارع من خيبات وإخفاقات.

غيَّب إسماعيل بهاء الدين الزمن عن روايته كما غيَّب اسم العَلَم لشخصيات وأماكن الأحداث، مما يضفي على الفانتازيا الواقعية تعميمًا، فكل قارئ شرق أوسطي يجد نفسه وبلده وحاكمه وحكومته ومحكوميها متمثِّلًا بشكل أو بآخر في الرواية.

البطل الحقيقي في الرواية هو المكان، فيبدأ الكاتب بوصف المكان المميز: 

“دولة صغيرة عريقة، تقع على شاطئ البحر الأعظم، يشقُّها النهر الأعظم، وتحتضن أطرافَها سلسلةٌ من الجبال، من بينها الجبل الأعظم، وقد تعاقبت على حُكم هذه الدولة سلاسل طويلة من الزعماء الذين تفاوتت شخصياتهم ما بين حقير وعظيم، غير أن تَتابُع الزعماء وتَبايُنهم لم ينتقص من عظمة هذه البلاد مثقال ذرة”

من هذا المكان ينطلق متحررًا من قيود الزمن، وينتقل إلى الحاضر بجمود الحاكم وتبَلُّد مشاعره، حتى صارت بليدة بالفعل، وتحوَّل الحاكم من بشر يفكر ويشعر إلى كائن غريب مجرد من الشعور والإدراك، صُمَّت أذناه عن سماع الشكاوي والأنين، وعُميت عيناه عن رؤية الواقع وسلبياته، وحُجب عن الشعب، حتى بات الشعب لا يرى منه إلا تمثالًا في الميادين الرئيسة، فقد أصبح الحاكم مُتَمْثَلًا في الواقع، ويتقبَّل الشعب بخنوع كل أشكال العبودية ويهلل للمزيد.

بذرة الحاكم الآلهة، يبدأ طفلًا مميزًا يثور على الواقع ويكره الظلم، ينجح في ثورته ضد الظلم، ثم لا يلبث أن يمر بمراحل التأليه، والقبض على ما ومَن تبقى من الحكم الفائت، والتخلص منهم في مكان آمن ولدواعٍ أمنية. فبعد قيادة ثورة الفؤوس والمعاول والهراوات، يلقَّب الثائر المنتصر بالحاكم الأخ الرئيس، ثم الأخ الزعيم، ثم الزعيم والقائد والمعلِّم، ثم فخامة الزعيم والقائد والمعلِّم، حتى وصل الطفل البريء الثائر إلى “طويل العمر فخامة القائد والزعيم المعلِّم باعث نهضة الأمة ومخلِّصها”. في كل مرحلة يفقد فيها الحاكم حاسةً ما أو إدراكًا ما، تضاف إلى لقبه صفات جديدة، ويظل الحاكمَ المطلق حتى بعدما مات إكلينيكيًا وأصبحت شؤون الدولة والعباد تدار بأيادٍ سرية خلف المُتَمْثَل الكبير.

يُبعث الحاكم الفائت إلهًا مرة أخرى في غفلة من الحاكم الحالي، ويتم التخلص منه ومن أعوانه، ويُمنح ألقابًا عديدة حتى يصل إلى “حضرة صاحب المعالي المَلَكية السامية النور الهادي العائد من غيبته القسرية”، إلى أن تندلع الثورة ضده، على غرار الثورات ضد الأنظمة القهرية التي تعتقد أنها تُحكِم القبضة علي كل شيء، فتقتلعها، كما حدث دائمًا في التاريخ حيث سقطت كل ممالك الدنيا منذ الأزل حينما تألَّهت أو صار ملوكها أشباه آلهة.

يكاد لا يخلو مشهد أو فصل من الرواية إلا ويذهلك إسماعيل بهاء الدين بسخرية ما أو رمز ما، منها الواضح والصريح ومنها الضمني، فمثلًا لديه هاجس نجمة داوود السداسية التي تحتوي وتطمس بداخلها الهلال والصليب، حيث يشير إليها وهي أصبحت تتصدر مظاهر عامة عديدة.

 “المُتَمْثَلون” عالَم كفكاوي سوداوي مرعب، يُظهر المفاهيم المغلوطة، والحقائق المشوَّهة، وسيارات جمع الأشلاء الآدمية، وآكلي لحوم البشر، والعجز الجنسي، وانقراض الإنسان الذي نحن عليه الآن، إلى أن ينتهي بثورة الديدان المتكاثرة التي تقضي على كل شيء ماعدا الشجر، حيث يبدو أن الثوار الجدد أدركوا أهمية الشجر لإنقاذ العالم.

تقتلِعُ الديدانُ الضاغطة تمثالَ حضْرةِ صاحبِ المعالي المَلَكيّةِ السامية، النورِ الهادي، العائدِ من غَيْبَتِه القسْرية، من قاعدته…

يسقط التمثالُ العملاق أرضًا، مُنكفِئًا على وجهه…

… 

تتوقَّف الديدانُ المُتخَمة، لتهضم وجبةً ما فرَّطَتْ في شيء، إذ ضمَّتْ بين ما ضمَّتْ، الحيَّ والجمادَ، دون أن تلحق الأذى بشجرةٍ واحدة…”

عدد كبير جدًا من التأويلات يجد مرتعًا فسيحًا خصبًا في هذه الرواية، يتراوح بين مفهوم معيّن ونقيضه التام، فما قد يجده القارئ العربي أو المصري فانتازيا مثلًا، من السماح للجندي/القرد بمضاجعة المرأة ذات الفراء في الشارع العام ومعاقبة الشرطي البدين الذي حاول منع ذلك، هو نفسه واقعي جدًا في مجتمعات أخرى. هذا في حد ذاته نوع مميز جديد من الفانتازيا يتوقف على خلفية المتلَقّي.

تنتهي الرواية كما بدأت بنوع من التدوير أيضًا ومع نفس “الرجل الواحد الوحيد المتعب” الذي يمثل وجهة نظر الكاتب نفسه. فهو يقرر أن ينتزع البوبينة الثانية قبل انتهاء المشهد بقليل كأنه أراد أن يبعث ولو بصيصًا من الأمل ويخلع روح الخنوع والسلبية ويرفض التَمْثَلة والمُتَمْثَلين، في جوٍ تشوبه الضبابية وعدم الوضوح بما يتماشى مع غلاف الرواية.

في الختام، لو قُدر للرواية الترجمة إلى لغات مختلفة فهي ستلاقي نجاحًا عالميًا لأنها تتناول مواضيع آدمية كونية في المقام الأول، وتطرح أسئلة وجودية عدة يشارك القارئ فيها رغمًا عنه فيجد فيها نفسه ومشاعره ومخاوفه. ولو قُدر لهذه الرواية أن تُحوَّل إلى عمل سينمائي، فسيلاقي هذا العمل نجاحًا باهرًا، كما أن السيناريو لهذا العمل لا يحتاج إلى مجهود كبير، إذ رسم الكاتب إسماعيل بهاء الدين سليمان بأسلوبه المشبع بالملامح السينمائية سيناريو شبه مكتمل لفيلم روائي فانتازي واقعي جدًا.

______

(*) هاني منسي ناقد أدبي، قاص وروائي مصري، وباحث في علم الاجتماع وأستاذ خبير في اللغة الإنكليزية. تصدر له قريبًا مجموعة قصصية ورواية.

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. شكرا جزيلا للموقع الجميل و المتميز
    و شكرا الصديق المبدع إسماعيل بهاء الدين على إتاحة الفرصة لقراءة إبداع حقيقي كما اشكره أيضا على إتاحة الفرصة لي للتعرف على الف لام

    هانى منسى