الطيّب الصالح عبقريّ الرواية العربية في ذكراه الحادية عشرة
سليمان بختي
إحدى عشرة سنة مضت على غياب الروائي الطيب الصالح (1929-2009) وآثاره تدل عليه وتقرأ في العالم بشغف ومتعة الاكتشاف.
ولا أزال اذكر يومذاك اتصال السفير السوداني في بيروت والأديب والصديق جمال محمد ابراهيم ليبلغني: “الطيب الصالح… البقية بحياتك تعيش أنت”. وقال: “السفارة ستفتح سجلّ للتعازي في نقابة الصحافة اللبنانية وتستقبل المعزّين”.
وأنا في الطريق إلى نقابة الصحافة تذكرت الطيّب الذي كان رجلاً طيباً و”عبقري الرواية العربية” والصديق الكبير للبنان الذي كتب غير مرة: “نشأ بيني وبين لبنان على بعد الشقة نوع من الألفة. بيروت كانت أول من نشر لي فأنا أدين بالفضل إلى لبناني واللبنانيين الذين عندهم هذه الحفاوة بالثقافة، والعجيب إنني فهمت القضية الفلسطينية ربما أكثر من خلال زياراتي للبناني. انه لمن نعم الله على الدنيا أن تجد لبنانياً يستقبلك في أي ميناء من موانئ العالم”. في نقابة الصحافة قدمت التعازي إلى السفير الذي قال لي: “هل تصدق أن الطائرة التي نقلت جثمانه من لندن إلى السودان توقفت في بيروت لساعتين. كأن لا بد من بيروت، في البداية والنهاية”. اذكر إني كتبت في سجل التعازي هذه العبارة: “ما أصعب رحيل الكبار يذهبون ويأخذون زمانهم معهم”.
ولد الطيب صالح في 12 تموز 1929 وتوفي في 18 شباط 2009. من أشهر الأدباء العرب. عاش في السودان وبريطانيا وقطر وفرنسا. نشأ في قرية كزمكول في إقليم مروى شمالي السودان. ثم انتقل إلى الخرطوم لمتابعة دراسته وحصل على الاجازة في العلوم من جامعة الخرطوم. سافر إلى بريطانيا حيث واصل دراسته في جامعة لندن متخصّصاً في الشؤون الدولية السياسية. بعد فترة قصيرة قضاها في التعليم عمل الطيب صالح في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية حتى وصل إلى منصب مدير قسم الدراما. بعد انتقاله من البي بي سي عاد إلى السودان وعمل لفترة في الإذاعة السودانية. عمل في قطر في وزارة إعلامها مشرفاً على أجهزتها. (https://www.newsoftwares.net/) تولى منصب المدير الإقليمي لليونيسكو في باريس. هذا التنقل بين الشرق والغرب والشمال والجنوب أكسبه خبرة واسعة بالحياة والعالم والآخرين والفهم العميق لقضايا أمّته. ووظّف الطيب الصالح كل ذلك في كتاباته الروائية والقصصية.
تطرّق في كتاباته إلى السياسة في بُعدها الحضاري وعلاقات السيطرة والاستعمار والى الفوارق والاختلافات بين الحضارتين الشرقية والغربية. كتب الطيب الصالح العديد من الروايات التي ترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة. وهي: “موسم الهجرة إلى الشمال” (1966)، “ضوّ البيت – بندر شاه”، “دومة ود حامد”، “عرس الزين”، “دبور” و”نخلة على الجدول” و”منسي إنسان نادر على طريقته” و”المضيئون كالنجوم من إعلام العربي والفرنجة” و”للمدن تفرد وحديث – الشرق” و”للمدن تفرد وحديث- الغرب” و”في صحبة المتنبي ورفاقه” و”في رحاب الجنادرية وأصيلة” و”وطني السودان” و”ذكريات المواسم” و”خواطر الترحال” و”مقدمات”.
اعتبرت رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” واحدة من أفضل مئة رواية في العالم. ورأت الأكاديمية العربية في دمشق انه صاحب “الرواية العربية الأفضل في القرن العشرين”. ولبثت هذه الرواية تحفر في شهرتها كونها من أولى الروايات التي تناولت بشكل فني راقٍ الصدام والصراع بين الحضارات وموقف إنسان العالم الثالث النامي ورؤيته للعالم الأول المتقدم الذي يبني سياسته على السيطرة والاستعمار والمصالح الاقتصادية والهيمنة. كما أنها مدار صراع بين قطبين: الأيروس والموت.
وُفِّقَ الطيّب صالح في تقديم عطيل جديد في عالم الأدب والرواية وهو بطله “مصطفى سعيد” الذي حاول أن يستوعب حضارة الغرب وله القدرة على الفعل والانجاز ومحاربة الغرب بأسلحة الغرب. وكما حُوّلت روايته “موسم الهجرة إلى الشمال” إلى مسرحية في بيروت السبعينات بإخراج الراحل يعقوب الشدراوي. كذلك حوّلت رواية “عرس الزين” إلى فيلم سينمائي من إخراج الكويتي خالد صديق في أواخر السبعينات وحاز جائزة في “مهرجان كان”.
ظلّ الطيب صالح يكتب المقالة في مجلة “المجلة” في العشر سنوات الأخيرة من عمره ويتطرق في هذه المقالات لمواضيع أدبية وتراثية وحضارية مختلفة ومتنوعة. وظلّ يرفع لواء الأسئلة في كتاباته مثل: “لماذا نحن أقل مما نحن مؤهلون له”. أو: “هذه الأمة ليست امة خطوات بل أمة قفزات”. أو “آه، أيّ وطنٍ رائع يمكن أن يكون هذا الوطن، لو صدق العزم وطابت النفوس وقلّ الكلام وزاد العمل”. أو “نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي فلاحون فقراء ولكنني حين أعانق جدي أحسّ بالغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه”.
عانى بالفترة الأخيرة من حياته من المرض ومشاكل الكلى وتوفي في 18 شباط 2009 في لندن ودُفن في السودان عائداً إلى أرضه وأهله ونيله… عدت إلى أهلي يا سادة كما كتب في مستهل روايته موسم الهجرة.
كان الطيب صالح علامة مميزة في الرواية العربية وذخيرة لا تنضب وعالم شاسع عبّر عنه وعن همومه وآلامه وأفراحه وخيباته بالكلمات والنصوص.
نتذكره بعد إحدى عشرة سنة ولا تزال عطاءاته وآثاره تصدي في العالم العربي وفي قلب الحضارة الإنسانية.
ونترك لكلماته أن تختم بما حاول أن يقوله دائماً في الأصل والتجليات: “إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة. أريد أن أعطي بسخاء. أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر. ثمة آفاق كثيرة لا بد أن تُزار. ثمة ثمار يجب أن تُقطف. كُتُب كثيرة تُقرأ. وصفحات بيضاء في سجل العمر. سأكتب فيها جملاً واضحة وبخط جريء”.