أيليا أبو شديد، إنسانٌ مُشرِق

Views: 1202

د. جورج شبلي

عندما تَخبو أنشطةُ الفنون، وفي طليعتِها الأدبُ بمفهومِه التِّقني، تنطلقُ أجنحةُ الشِّعرِ الشَّعبيِّ تَنشرُ خَواصَ المجتمعاتِ، في دقائقها. وأين لسائرِ الفنونِ من السِّعةِ، ما للشِّعرِ بالعامية، فهو الكلامُ الطَّلِقُ الذي لا يوجِبُ الحجّةَ، والذي لازَمَ الناسَ دهوراً من دونِ أن يَغيض. والشِّعرُ العاميُّ حِليةُ الإبداع، وليس صِنفاً ضيِّقاً فيه، انتُخِبَ في الحلاوةِ كما انتُخِبَ الماءُ من الفُرات. يضطجعُ في مَراقدِ المواهب، ثمّ يفيقُ على أَكُفِّ الكلامِ المُرَنَّمِ، مِمّا يَقصدُ إليه العَوامُ من الناسِ، وهمُ الأغلبية، لأنّ فيه استجابةً للموسيقى الوجدانيةٍ في قلوبهِم.

 يقومُ إيليا أبو شديد مقاماً في الشِّعر بالعاميّةِ، لا يُقدِّمُ فيه رِجلاً ويُؤخِّرُ أُخرى، فيستودعُ في قصائدِه ما فيَّأَت ظلالُه من مَرشوحاتٍ في طبائعِ الناسِ وأذواقِهم، مَطبوعةً برِقّةٍ وحلاوةٍ وعمق. وعندما يَفكُّ إيليا كيسَ قصائدِهِ عن خَتمِه، يرشحُ خَبَرُ الناسِ والأيام، النّاسِ في نعيمِهم ويقينِهم، والأيامِ في رَيحانِها وسِحرِها، كما في شَوكِها وأهوالِها. من هنا، لا يَقلُّ شعرُ أبو شديد بالعاميّةِ، نُضجاً، وسَلاسَةَ بَيانٍ، وأَثراً في أَنفُسِ قُرّائِهِ والسّامعين، عمّا يُقدِّمُ الشِّعرُ بالفُصحى من صنوفِ اللذةِ والإمتاع، لا بل يتفوَّقُ عليه في أحوالٍ عِدّة. فأحواضُ الزَّهرِ المُنَسَّقةُ التي يُعنى بها الجِنانونَ في الحدائقِ والبساتين، لا يَقلُّ عنها روعةً وفِتنةً، الزَّهرُ المُبَدَّدُ الذي تُلقي به الطبيعةُ هنا وهناك، وِفقاً لِخَصبِ الأرضِ، وجُودِ السماء.

 

أما فضلُ إيليا أبو شديد على تراث الجماعة، فأَكبر من أن يُقَدَّر. قيل: لو ضاعت دواوينُ الشِّعرِ الشّعبيّ، لَفَقَدَ مجتمعُ ناسِنا فرائدَ الفوائدِ من ذاكرةِ الأيام، وهي ثروةٌ حقيقيةٌ تَخيطُ الصِّلةَ بينَ الحاضرِ والماضي، أو هي نورٌ يُقتَبَسُ منه، وبحرٌ يُغتَرَفُ من دُرَرِه. وليس كثيراً على إيليا، أن يُعتَبَرَ، والذين ساروا في رِكابِ الشّعرِ اللبنانيّ، بأنّ التراثَ كادَ أن يُمحى، لو لم يَظفَرْ بهؤلاءِ الذين كانوا له الحافِظَ الأَمين. لقد تحرَّكَ شَوقُ أبو شديد الى التراث، باندفاعٍ لا يقلُّ عن شوقِ الظَّمآنِ الى الغدير، لأنه آمنَ بأنّ نُزوحَ التراثِ عن التّذكرةِ، فُرقةٌ تُؤلِمُ، لضَياعِ الخِلالِ التي درجَت عليها مِشيةُ المجتمع. لطالما كان إيليا يَرمقُ التراثَ بنواظرِ الودّ، فقد كَرَّمَ غُرَّتَه بالتماسِ ذِكرِه والاتّصالِ بأخبارِه وإدراجِ أحوالِه، ليبرهنَ على أنّ العودةَ الى الأصولِ ليسَت مستحيلة.

قصائدُ أبو شديد في المرأةِ ترفعُ رأسَها في غيرِ خوف، لأنّها بَسطٌ لقلبٍ يعرفُ كيف ينزعُ الى الأنثى. فلونُ حبرِه في وصفِها، متأنِّقٌ الحِلَل. وهو لا يتسمَّرُ في التوصيفِ، بقَدرِ ما يتولّى تشريحَ مشاعرِه التي لم يَلِنْ خَدُّها، ولم تسكنْ زفراتُها. لم يكنْ مع المرأةِ حياديّاً، جلسَ معها جُلوسَ الوُجهاء، ليمرِّغَ قلمَه في رهافةِ جَمالِها، فما حادَ نظرُه عنها. لقد جاعَ أبو شديد الى المرأة، فهي مؤونةُ عمرِهِ، في كلِّ مرحلةٍ من هذا العمر. هو لا يطيقُ خسرانَها، ففي جانبٍ شبهِ خَفيِّ من نفسِه، تحوَّلَ الودُّ عندَه الى شيءٍ من العِشق، وكأنَه رأى أنّ عُلوقَه بها، يُسَلِّمُه من شرِّ الدنيا. 

لقد دخل ابو شديد جنَّة الشِّعر بِسلام، لأنّ كَمَّهُ لم يكن ضجيجاً، فبينه وبين الناسِ دُنُوُّ دارٍ وقُربُ مَحلّ، لذا، كان له في مَدارجِ أنفاسِهم مقامٌ معلوم. لقد وزن إيليا كلَّ شيءٍ بميزانِه، وخاطبَ طوائفَ الناسِ من دون عِيّ، وأَفصحَ في إفهامِهم، فوقعَ كلامُه من أَنفُسِهم موقعاً أَخّاذاً. وبِقدرِ ما كانَت قصائدُه، في فنّها، تُعتَبَرُ من الأَعذبِ، من دونِ تكلّفٍ أو تَصَنّع، بِقَدرِ ما كانَت تتضمَّنُ تصويراُ راقِياً، وعمقاً رمزياً قاربَ الفلسفة. كيف لا، والإنسانُ مع أبو شديد عالَمٌ صغيرٌ سَليلُ العالَمِ الأكبر، ويخضعُ لدَورةِ الحياةِ الكونيّة، منذ بدايةِ الزّمان. وما التّرابُ إلّا المُخبِرُ لحكاياتِ الأجيالِ، أو المرجعُ الموثوقُ الذي لا يطلبُ تعليلاً. وهل هنالك أَبلَغُ من قَولِه:

ويَلّلي بْيِجي، بيقول لِلّي غاب

هالدِّني وَرشِة، وترابْها كَمشِة…

في تراب باقي تراب

وتراب عم يمشي.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *