سجلوا عندكم

ما بعد الزلزال

Views: 168

د. جورج طراد

 

*هذه المداخلة السريعة مهداة إلى المفكر العربي علي محمد الشرفا الحمادي، استكمالا لجلسات مطوّلة في الوضع العربي والمستقبل المنشود:

 

لا شك في أن ما يشهده العالم الآن، تحت وطاة جائحة كورونا وملحقاتها المتنوّعة،  يمهّد لما يشبه الإنقلاب الكبير على كل أنماط الحياة التي كانت سائدة في عالمنا من قبل على مدى عشرات السنين، إن لم يكن أكثر. وربما كانت دلالات كلمة ” انقلاب” غير كافية لتفي بالمقصود. وقد يكون من المناسب أكثر  استخدام لفظة ” زلزال ” لتشخيص الحالة التي ستكون عليها حياتنا في مرحلة ما بعد الجائحة.

المفكر العربي علي محمد الشرفا

 

  فالمفاهيم التقليديّة التي سيطرت على تفكيرنا طوال عقود لن تعود موجودة على الأرجح، أو أنّ مضمونها سيتغيّر. مثلا فكرة ” العولمة” تطايرت شظايا ولم يعد هناك أمل في استعادة مراميها. (Modafinil) والدليل على هذا انسدادُكلِّآفاق التعاون الفعلي التي كانت العولمة تتلطى خلفها. وما يجري بين الصين والولايات المتحدة راهنًا، على سبيل المثال، يشهد على ذلك. والأمثلة الفاقعة الأخرى تأتينا من كلّ حدب وصوب. فإيطاليا نزفت لوحدها حتى الموت، من غير أن يلتفت إليها أي من جيرانها المقتدرين. والوحدة الأوروبيّة تشلّعت في اسبانيا النازفة هي الأخرى. والمساعي المحمومة للاستئثار بالكمّامات والعقاقير ومشاريع اللقاحات الموعودة تثبّت هذا الإتجاه التفردّي الضارب بشعارات العولمة والأخوّة ومتطلبات الوحدات الاقليميّة عرض الحائط.

  وما يقال على العالم الأوسع ينطبق علينا، وبالحدّة نفسها أحيانا،في العالم العربي. فرغم كل عناوين الأخوّة والتضامن ووحدة المسار والمصير وكل الشعارات الرنّانة التي صمّخت آذاننا طوال عقود، فإننا لم نلمس مبادرة جديّة واحدة تقضي بمدّ الجسورالتي تعبرها المساعدات الطبيّة والإنسانية بين أخ منكوب وأخ مقتدر نسبيّا حتى الآن. وإذا كانت قد حدثت بعض حالات المساعدة المتفرّقة ، فإن روائح الخلفيات السياسيّة، أو النكايات الإقليميّة، قد فاحت منها في شكل واضح. فأين ذهبتْ كل شعارات الماضي ومبادئ الثورات والحملات التي شنّها المفكرون العرب منذ زمن الأفغاني ومحمد عبده وفرح أنطون وشبلي الشميّل، وصولا إلى محمد عابد الجابري ومحمد أركون وادوارد سعيد وناصيف نصّار وآخرين؟!

 

  ليس الوقت الآن لجلْد الذات والندم على كل الحبْر الذي أريق من أجل التبشير بالقوميّة والوحدة والتضامن وقدسيّة الحياة البشريّة ، إنما الوقت هو للتفكُّرفي مرحلة ما بعد الزلزال والحرص على عدم إعادة انتاج البالونات الهوائيّة وفقاعات الصابون التي برعنا في انتاجها والتفنّن في تزيينها بغزارة منقطعة النظيروحشوْنا بخوائها الموجع أدمغة أجيال متتالية من شعوبنا.

  المشكلة الأزلية عندنا تكمن في الخلل القائم دائما بين النظريّة والتطبيق. ومَنْ يسترجعْ، مثلا، البيانات الختامية للقمم العربية المتتالية منذ أكثر من سبعة عقود يكتشفْ غزارةالنظريات وهزال التطبيق. أين العملة العربية الموحدة؟ أين إزالة الحدود؟ اين اتفاقيات التعاون العسكري وخطط الدفاع المشترك؟ أين التكامل الزراعي والإقتصادي وتوحيد الجمارك؟ بل أين وقفة الصف الواحد لنصرة القضية الفلسطينيّة؟ وأين… وأين …وأين؟

 

  المهم الآن التركيزعلى مرحلة ما بعد الزلزال. فالجائحة ، مهما طالت إقامتها وتشعّب فتكها، زائلة ولو بعد حين. فهل سنتّعظ من الماضي لنؤسّس نهجا جديدا للتعاطي مع أجيالنا القادمة؟ المفكّرون العرب، قبل الحكام والسياسيين، مدعوون إلى بلورة صورة للآتي، وإلى شق طريق أمام أجيالنا الآتية. طريق لا يجب أن يكون معبّدا بالنظريات وإنما بالأفعال التي نقوم بها نحن ولا نستوردها فننبهر بها ، ثمّ نصبح عبيدا لها.

 لا نريد أن تستمر الصورة النمطيّة للطفل العربي وهو منبطح على الأريكة خلف نظارتيْه السميكتيْن، وهويكبِّس أزرارا ويعيش وهمًا افتراضيّا يقتل في مخيلته كلَّ تفاعلٍ حار مع الواقع. نريد لأجيالنا أن تكون منجمًا للإنتاج وليس مركزًا للإستهلاك. علينا أن نحارب التصحّر الفكري الذي يحاصرنا فيه كلُّ هذا التعاطي المدمن مع ازرار العالم الإفتراضي. والمفكرون العرب مسؤولون  عن الحضّ على إحداث كل هذا التحول، وإلا فإنهم سيكونون مسؤولين عن إعادة إنتاج الخواء نفسه.

 

  ربما تكون البوابة لإحداث مثل هذا التغيير الجذري في مرحلة ما بعد الزلزال، هي البوابة التي تمرّ حتمًا بضبط ثنائيّة الإنتاج/الإستهلاك في مجتمعاتنا.عل صعيد الغذاء والصناعة ( ومن ضمنها وربما في طليعتها الصناعة العسكريّة) والقيم والعادات. نحن نستهلك عشرات أضعاف ما ننتج.. حتى الأفكار فإننا نستوردها ونركع أمامها مهما كانت هجينة.

  إن مرحلة ما بعد الزلزال لا يمكن أن نجابهها بأسلحة المرحلة السابقة. والمفكرون العرب مدعوون، من زاوية المسؤولية والواجب معا، إلى تظهير صورة للآتي، ليس كما كان كائنا، بل كما ينبغي أن يكون في مرحلة ما بعد الزلزال.. وإلا فأن إسدال الستارة على حضارة كانت رائدة في هذه المنطقة من العالم، يكون قد بات وشيكا.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *