إجر الكرسي وكرامة المسؤول

Views: 149

العميد الركن أنطون مراد

الوطن هو شعب وأرض ودولة تدير أمور هذا الشعب عبر آلية رسمية تسمّى القطاع العام. من أجل حسن سير هذه الآلية، يتم إنشاء مراكز مختلفة بحسب الحاجة على أن يتبوّأ هذه المراكز أصحاب الكفاءة ونظافة الكف وذلك لفترات محدّدة بالأنظمة لإفساح المجال أمام الكفاءات الأخرى وللاستفادة من الموظف إذا كان ناجحًا لإظهار نجاحه في وظائف أخرى أو إفساح المجال لغيره في حال لم يثبت جدارته خلال فترة توليه وظيفته.

هذا بشكل عام، لكن في لبنان فالأمر مختلف تمامًا حيث أن وظائف الدولة تحوّلت إلى مصدر لكسب المال ولممارسة التسلّط على المواطنين وابتزازهم لفرض الخوات عليهم. وبحسب قيمة المداخيل التي يدرّها كل منصب، يصبح الوصول إليه أصعب والكلفة أغلى. لأن على الموظف أن يقدّم الطاعة للسياسي ولي أمره ويوافق على إعطائه حصته الراجحة من هذا المدخول.

فبات القطاع العام مركزًا للحشو غير المجدي بهدف خدمة السياسيين لشراء أصوات المواطنين المساكين الذين مع الزمن ضعفت مقاومتهم ورضخ القسم الكبير منهم للسياسيين لأنهم اقتنعوا أن لا مجال للوصول إلاّ عبر من فرضوا أنفسهم زعماء عليهم.

ولم يقتصر القطاع العام على السرقات التي يمارسها الأفراد بل أصبح منبعًا لتغذية الأحزاب والتيارات من خلال الصفقات المشبوهة ومن خلال الرشاوى التي يتقاضاها أزلامهم الذين زرعوهم لهذه الغاية. من هنا، نجد الأفراد والأحزاب أصبحوا أقوى وأغنى من الدولة المسكينة التي وصلت إلى الإفلاس في حين أن حسابات السياسيين تملأ مصارف أميركا وأوروبا والروائح النتنة تفوح منها لأن الدول الغربية تعرف جيدًا عدم شرعية هذه الحسابات وتذكّر السياسيين اللبنانيين بها كل مرة يذهبون إليها للتسكّع والشحادة بحجة مساعدة لبنان وإنقاذه من أزمته المالية والنقدية والاقتصادية.

والغريب الذي بدأت أسمعه في الفترة الأخيرة هو إطلاق ثورة عند انتهاء ولاية أي موظف محظوظ رغم أنه يعرف سلفًا المدة القانونية المحدّدة لهذه الوظيفة. يستعمل هذا الموظف كل الإمكانات التي جمعها من خلال استغلال وظيفته ويحرّك رجال الدين ورجال السياسة فيربطون تبديل هذا الموظّف بكرامة الطائفة وكرامة الحزب ويعتبرونها استهدافًا طائفيًا أو اغتيالاً سياسيًا.

والأغرب من ذلك، أنه بعد أن يكبر الصدام ويتبيّن أن التغيير سيحصل، تظهر مفردات غريبة لا توجد إلاّ في لبنان منها على سبيل المثال: ” يجب أن نجد له وظيفة محترَمة حفاظًا على كرامته” وكأن كرامة هذا الموظّف أصبحت مربوطة بالكرسي. ألا يتمتع بالكرامة الموظّف الذي يترك وظيفته بعد سنوات من العطاء وراحة الضمير؟ ألا يتمتع بالكرامة الموظّف الذي يعود إلى حديقته ليزرعها ويعود إلى عائلته ليعيش معها حياةً عائلية هانئة وهادئة؟ ألا يشتاق الإنسان لارتداء الجينز والذهاب إلى السوبرماركت والتبضّع ومعرفة الأسعار ووجع الناس؟

طبعًا كان بإمكان الموظف أن ينصرف إلى حياته الخاصة ويمارسها بكرامة وشموخ فيما لو مارس وظيفته بكرامة ونظافة. أما إذا أمضاها بالسرقة والتشبيح والتعالي على الناس فطبعًا سيجد نفسه في موتٍ نفسي ومعنوي بعد خروجه من الوظيفة. وفرضا أن هذا الموظف اقتنع بوضعه الجديد، فمن يستطيع إقناع المدام والأولاد الذين اعتادوا على مزراب المال الحرام واعتادوا على السير بمواكب داكنة الزجاج واعتادوا أن يصلوا إلى مبتغاهم باتصال واحد من الزوج والوالد الحنون.

لذا، أتوجّه إلى المسؤولين والموظّفين من كافة المستويات لأقول لهم: الوظيفة مسؤولية وتضحية وخدمة للناس وليست فرصة للسرقة وفرض خوات على الناس. الكرامة هي في الممارسة الصحيحة للوظيفة واعتبارها فرصة لإظهار قيمنا الأخلاقية والوطنية لكسب محبة الناس الطوعية لا لاغتصاب ما تبقى من أموال في جيوبهم الفارغة.نعم يا سادة، هذه هي الكرامة الحقيقية ولا يجب ربطها أبدًا بكرسي الوظيفة.

وحتى أجد من يسمع صوتي، أتوجه إلى الشعب المقهور أخواني وأبناء وطني لألفت نظرهم إلى ضرورة تصحيح بعض التعابير القديمة التي كنا نستعملها ومنها مقولة “إجر كرسي” التي كنا نستعملها للدلالة على الشخص غير الفاعل وغير المنتج. نعم علينا تصحيح هذه المقولة طالما أن وضعنا الحالي لم يتغيّر، علينا أن نحترم “إجر الكرسي” لأنه طالما أن كرامة الموظف مرتبطة بكرسي الوظيفة فإن على “إجر الكرسي” يتوقّف ربع كرامة المسؤول والموظف.

(https://bettysco.com)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *