سجلوا عندكم

بابلو بيكاسُو..شاعراً وأديباً بالإسبانية والفرنسية!

Views: 288

 د. محمّد محمّد خطّابيّ*

في الثامن من أبريل الفارط 2020 حلّت الذكرى السابعة والأربعون لرحيل الفنان الإسباني الشّهير بابلو بيكاسو، المتوفّي بمدينة مولان الفرنسية، وكان قد رأى النور في 25 أكتوبرعام 1881 بمدينة مالقة، التي بلغت شأواً بعيداً  من  الازدهار الحضاري في العهد الأندلسي الزاهر.

وقد عاد الحديث في الأيام الأخيرة في الأوساط الفنية والأدبية العالمية عن هذا الفنان العبقري الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، بخاصّة بعدما أنتجت قناة ناشيونال جيوغرافيك وفوكس 21  مؤخراً مسلسلاً تلفزيونياً وثائقياً عن بيكاسُو ضمن مشروع سيرة ذاتية أو دراما أنطولوجية عن شخصية بارزة من عباقرة التاريخ فى القرن العشرين ، وفي هذه الحالة عن الفنان ااتشكيلي الاسباني العالمي بابلو بيكاسو.

 

يقع المسلسل في عشر حلقات، من إخراج رون هووارد وبرايان برازر، ويحمل عنوان العبقري Genius، ويسلّط الأضواء على حياة هذا الفنان الكبير منذ ولادته في إسبانيا، ووفاته في فرنسا، وهو مُستوحىً من الواقع، ويقوم على أحداث حقيقية تاريخية. وقد جسّد شخصية بيكاسو مُواطنُه، والمولود مثله في مدينة مالقة، الممثل الإسباني أنطونيو بانديراس، الذي إضطرّ إلى الخضوع لتغيير جذري في شكله وهيئته لهذه الغاية، بما فيه حلق شعر رأسه، فالأمر يتعلق بعبقريّ زمانه في الفن، والإبداع، والنحت، والرّسم، والتشكيل، وأخيراً الكتابة، فضلاً على أنه يُعتبر بدون منازع من أشهر وأكبر الفنانين الإسبان في القرن العشرين على وجه العموم، ومفخرة مدينة مالقة الأندلسية على وجه الخصوص… وقد تمّ بثه  على جميع القنوات الدولية لناشيونال جيوغرافيك.

 

الرّيشة والقلم

أضيف إلى ذخيرة هذا الفنّان الهائلة في عالم التشكيل، خاصيّة إبداعيّة أخرى من نوع آخر في مجال علم الجَمال والإبداع، لم تكن معروفة عنه بما فيه الكفاية من قبل، باعتباره كاتباً إلى جانب كونه رسّاماً، وفنّاناً تشكيلياً بهرت رسوماته ولوحاته العالم في العقد الأخير من القرن العشرين، وذلك بعد العثور في اسبانيا على شذرات ومقطوعات نثرية وشعرية من طرف دارسيه والمتتبّعين لأعماله، ذلك أنّ بعض نصوصه الأدبية قد نشرت متفرقة من قبل في فترات متباعدة من التاريخ، إلاّ أنّ نشر كتاباته مجتمعة في باريس في كتاب مستقلّ في دار غاليمار الشهيرة، في طبعة مزدوجة باللغتين الاسبانية والفرنسية حسب اللغة التي كتبت بها فرنسية كانت أو اسبانية، قد لفتت أنظار الأوساط الأدبية والفنية سواء في باريس أو في مدريد نحو هذا الحدث الأدبي المثير.

أثارت كتابات بابلو بيكاسو من جانب آخر فضولاً كبيراً لدى القرّاء و المتتبعين لإبداعات وحياة هذا الفنان العبقري. وقد كشفت هذه الكتابات أنّ ثلثي مجموع ما كتبه بابلو بيكاسو لم يسبق نشره من قبل وظلّ في طيّ النسيان، ونقدّم في ما يلي من اللغة الاسبانية من ترجمة صاحب هذا المقال، بعض النماذج الشعرية والنثرية لهذا الرسّام التشكيلي المُبهر، والفنّان الذي إتّضح أنه لم يكن يجيد إستعمال الريشة بألمعيّة فائقة وحسب، بل إنه أبدع في إستعمال اليراع كذلك.

 

كانت كتابات بيكاسو في الواقع محاولة لترجمة شطحاته، ورصد خيالاته، وتسجيل ملاحظاته في عالم الإبداع التشكيلي على وجه الخصوص الذي كان يعتبر من أعظم أقطابه عند نشره لهذه الكتابات، لذا فنحن واجدون في هذه النماذج القصيرة نوعاً من الإفصاح العلني عن الغاية من كتاباته و أبعادها، ومدى تداخلها ومحاولة إقامة جسر واصلٍ بينها وبين رسوماته، وإبداعاته التشكيلية، وعليه فإنّ كلمات من قبيل : الرّسم، اللون، الريشة، الليل، الغسَق، الأصيل، المصابيح، النار، الدم، المرأة، الطيور، الحمائم، الشمس، البحر، الغاب، الهياكل، الديدان، الدموع، الثيران، الخراب، وسواها ممّا يشكّل مفردات أو مواضيع أو مضامين رسوماته ومعانيها وأبعادها يكثر تداولها، واستعمالها، وتكرارها في كتاباته سواء تلك التي كتبها بيكاسو بلغته الأصلية الاسبانية، أو تلك التي كتبها باللغة الفرنسية، وفي ما يلي بعض هذه النماذج بعد نقلها إلى لغة الضاد :

هبوب الرّياح

لن أرسم بعد اليوم السّهم/الجاعل من قطرة الماء هدفاً له/المرتعش عند الغسَق/عندما تهبّ الرياح/وتصفّر مع السّاعة المكتوبة/التي تتهادىَ بها الأرجوحة/على أنغام ضحكاتها. عضُّ السّبع على خدّه أعطى، أقلع، أعوّج، أقتل، أخترق النيران، وأحرق، ألاطف، ألعق، أقبّل، أنظر، أقرع جميع النواقيس حتى تنزف دماً – أرهب الحمائم و أجعلها تطير من فوق أعشاشها، وتهوي إلى الأرض ميتة من الإنهاك، أغلق جميع النوافذ والأبواب بالتراب. و بسدائل شعرك، وجدائل ضفائرك، سوف أخنق جميع العصافير الصادحة، سأقطف جميع الورود، وألهو بالحَمل في يدي و أجعله يلتهم صدري سأغسله بدموع حبوري وهمومي، سأجعله ينام تحت أنغام عزلتي المشمسة، سأحفر بماء النار حقولَ القمح والقرطمان حتى تموت في مواجهة الشمس، و سوف ألفّ الأنهار في ورق الجرائد، وألقي بها من النافذة إلى الجدول وعلى الرغم من ندمه فإنّه سيلملم ذنوبه ويمضي جذلاً ضاحكاً و يضع عشّاً له في بالوعة، سأكتم صوتَ الموسيقى في الغاب. و أهشّمها على الصّخور و أمواج البحر، سأعضّ السّبعَ على خدّه، و سأجعل ابن آوى يبكي حناناً أمام لوحة من ماء، حيث يترك يده تتساقط فيه من غير إكتراث . (hikeaddicts) 17 أيلول 1935.

 

عناقيد من عنب

من حجرة إلى حجرة تسبح هياكل الماء، قطاف عناقيد عنب محركة طبيخها تحت لباب الخبز، والآلة الراقنة تلد القطط والفئران داخل قفص الذباب المتأرجح لتأجير جحور الديدان، و لسَعات تورّد الخدود، تودع صديد قطعة الشمس الميّتة والمنسيّة في ركن، خرقة حليفة، وقطيفة الجواهر، وتصفيفات الدموع تُسرج المصابيح، و توقد مراجلَ حِراب الثيران، و رائحة سنبل الطيب .فليحرقوا اللهيبَ المتخفّي تحت الرّسومات، و ليذهبوا به أسيراً خلف لطخات العوْسَج، ملوّثة الأصبع في صبغة لون الزّعفران، سابحة في مثلث شطّ أطراف اللّحاف الأسود، و السّخام المتساقط من الزنار الأخضر يكبّل الزّمرة المهتاجة في السّاحة .

 

هيامُه بالأبيض والأسود

كان متحف غوغّنهايم بنيويورك قد إستضاف معرضاً كبيراً لبيكاسو تحت عنوان بيكاسو..أبيض وأسود أيّ بالإقتصار على عرض أعماله المرسومة بهذين اللونيْن الأساسييْن اللذيْن يذكّراننا بتعاقب الليل والنهار، الناقدة الفنية الإسبانية كارمن خيمينيث، التي عهد إليها إختيار اللوحات التي رسمها بيكاسو باللّونين الأبيض والأسود بشكلٍ خاص تشير في هذا الشأن: أنّ بيكاسو قد إستعمل هذين اللونين على إمتداد حياته الفنية الطويلة، كما تؤكّد أنّ رسوماته للحرب، بل ولجميع الحروب طغى عليها اللّونان الأبيض والأسود في إشارة إلى لوحته الكبرى الشّهيرة عن الحرب غيرنيكا التي تعتبر إدانة صارخة للحروب وويلاتها، وأهوالها، وفظائعها .

 

يقدّم لنا بيكاسو في أعماله نظرته الحالكة والحزينة عن أهوال المواجهات، وويلات الحروب وعذاباتها، حيث تتجلّى لنا في هذه اللوحات المعاناة البشرية في أعنف، وأقسى، وأبشع صورها، فضلاً عن تعابير، ومشاعر، وهواجس الخوف، والهلع، والرّوع، والموت، والدّمار، والخراب التي تطبع جميع الحروب، إلاّ أنّ أعماله الفنية تتميّز كذلك بأساليب فنيّة أخرى إشتهر بها الفنان بيكاسو مثل أعماله التكعيبية الشّهيرة، بالإضافة إلى إبداعاته الفنية حول الطبيعة، والموت، والوجوه، وبعض الأماكن، والأوراش التي كان يرسم فيها، أو رسوماته لبعض زملائه من الفنّانين الآخرين. وتشير كارمين خيمينيث: أن عبقرّيّ الرّسم والتشكيل في إسبانيا بابلو بيكاسو إذا أراد وضع عمل فنيّ كبير، كان يلجأ في الأساس إلى إستعمال اللونين الأبيض والأسود، وهو بارع في مزج وتوظيف هاذين اللونين بشكل خاص، وكانت اللوحات المرسومة باللونين المذكورين يحتفظ بها لنفسه، وكانت لديها عنده مكانة أثيرة في نفسه، كما كان لها معاني وتفاسير خاصّة بالنسبة له. وتضيف الباحثة الإسبانية: أن بيكاسو كان يوثر إستعمال لونيْ الليل والنهار عندما يتوخّى إنجاز أعمال كبيرة، مؤثّرة، ، متداخلة، ومتشابكة، إذ كان يخشى أن تشغله أو تثنيه الألوان الزاهية عن التفكير بشكل واضح، ويكثر هاذان اللونان عنده في رسومات نسائه وغوانيه، وكذا عند رسمه للحروب، فقد عانى بيكاسو الكثير من ويلات الحربين العالميتين الأولى والثانية، ناهيك عن الحرب الأهلية الإسبانية التي وضعت أوزارها عام 1939 .

 

عاشق اللّيل

كان بابلو بيكاسو يعشق اللّيل، وكان غالباً ما يرسم في جُنحه وغَسقه، حيث كان الليل يمنحه تصوّراً خافتاً خاصّاً للأضواء والظلال، وكان يقترب بذلك من التصوير الفوتوغرافي الناصع، وبالتالي كان يدنو من ملامسة الواقع، ونسخه، ومعانقته، واشتهر بيكاسو كذلك بأعماله النحتية التي كان معظمها من اللون الأبيض، لأنه كان هو اللون المفضّل لديه عند نحته لوجوه النساء ورؤوسهنّ .

 

وتشير الباحثة الأميركية دوري أشتون إلى أن بيكاسو قال ناصحاً الفنانين الشباب: إذا حرتَ يوماً في إستعمال الألوان، فلا تتردّد في إختيار اللّون الأسود بدل الرّمادي. إلاّ أنّ مزج هذين اللونين هو الذي أعطى تميّزاً خاصّاً للوحاته، فاللّون الرّمادي هو لون إسباني بامتياز، ولقد إكتشفه الرسّام الفرنسي الإنطباعي كلود مونيه عند زيارته لمتحف البرادو بمدريد عام 1865 في لوحات الفنان الإشبيلي دييغو فيلاسكيس بشكل خاص .

***

(*) كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الاكاديمية الإسبانية- الأميركية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا .

 

 

           

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *