مئة وخمسة وعشرون عامًا على ولادة عمر فاخوري (1895-1946)…أديب يخرج من السوق ويدأب على الحقيقة اللبنانية
سليمان بختي
ولد في بيروت في العام 1895 وهو ابن التاجر عبد الرحمن عبد الباسط فاخوري. بدأت دراسته في كتّاب الشيخ عيسى ثم تدرّج إلى مدرسة الشيخ أحمد عباس وهناك درس على يد الأساتذة الكبار الشيخ مصطفى الغلاييني ويوسف حرفوش وبشير قصار وتوسموا فيه خيراً ومستقبلاً باهراً.
إثر تخرجه من مدرسة الشيخ عباس استهوته مهنة المحاماة فالتحق بمكتب الحقوق في بيروت إلا أن الحرب العالمية الأولى أقفلت هذا المكتب فانتسب إلى الجامعة الأميركية لدراسة اللغة الإنكليزية . و لم يكن عمر في تلك المرحلة مطمئناً لمساره وأهدافه وكتب في مذكراته: “و حياتي في هذه الأثناء قاحلة عليها غبرة، فيها غث وبارد وجامد، مظلمة لا تبدو في أفقها إلا أنوار شاحبة”.
أصدر في عز يفاعته كتيّباً بعنوان “كيف ينهض العرب” فقد استحوذ الهم القومي الحضاري على عمر فاخوري والعمل على تأسيس رؤية عربية حضارية.استهدى بكتابه بأفكار العلامة غوستاف لوبون وأعلن فيه:”إن العرب لا ينهضون إلا إذا أصبحت العربية أو المبدأ العربي ديانةً لهم “. وفيه دعوة إلى الثورة على كل الصعد. وقرّر أخيراً:”إن الحياة جهاد، وقوة الحياة تكسب الحق فيها”. أقلق الكتيب السلطات فصادرته وأتلفت النسخ. عاد الحنين إلى دراسة الحقوق ولم تتيسر له إمكانات السفر وراح يشاغل نفسه بدراسة الصيدلة. ولما توفرت الإمكانيات سافر إلى باريس لثلاث سنوات دارساً الحقوق في السوربون وإلى جانبها الآداب و العلوم السياسية.
لم تتحقق أمنيته بإنهاء دراسة الحقوق ولكنه عاد من باريس بهمة ثقافية عالية وبعلاقات مع أدباء فرنسا مثل أناتول فرانس الذي صادقه وأحبه وأحب رومان رولان وأندريه جيد. كما حضر في باريس جلسات المجلس النيابي الفرنسي . وعرّب كتاباً لأناتول فرانس يشمل آراءه وثلاث روايات. وعرّب كتاباً لـ رولان رومان عن المهاتما غاندي.
عاد إلى بيروت وانبرى مدافعاً و مناضلاً في السياسة ومتنقلاً بين بيروت ودمشق ومستهجناً غدر الحلفاء بالعرب وضعف العرب وقلة حيلتهم .
بقي هاجسه كيف ينال إجازة الحقوق فغادر مجدداً إلى باريس وأكمل الدراسة ونال الإجازة. عاد إلى بيروت وباشر ممارسة المحاماة لكنه في الممارسة فوجئ بأن هذه المهنة التي طالما حلم بها لا تلائم طبعه، وأن رهانه كان خاطئاً. وصف وضعه صديقه صلاح اللبابيدي بالقول:”لقد كان عمر يدعو الله سراً وعلانيةً أن يصرفها عنه، أي المحاماة بالتي هي أحسن”.
تزوج عام 1930 من ابنة خالته سلوى طيارة التي توفيت أثناء ولادة حملها مع الوليد.
صرخ عمر بعد انتهاء مراسم العزاء:”أخذتها وابنها فهاك مفتاح البيت معهما”..
انصرف إلى الصحافة والأدب فنشر مقالات في جريدة الحقيقة “باسم مسلم ديمقراطيي” وكتب في “الكشاف” في بيروت . وكتب في صحف دمشق و منها “الميزان”. و كان عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق . وعمل مساعداً للمستشرق الألماني ماكس لوبنهايم . دعاه فؤاد حبيش إلى المشاركة في تحرير مجلة “المكشوف” فلبى، و كذلك أصدر في دار “المكشوف” أول كتاب أدبي له هو “الباب المرصود” مقالات في الشعر و الاحتجاج و النقد و ترك صدىً طيباً في لبنان والعالم العربي . وحدد فيه وظيفة الأدب بأنه ” صناعة مثل كل الصناعات يتوجه اهلها إلى الجمهور ابتغاء مرضاته”.
ثم أصدر كتابه الثاني والمهم “الحقيقة اللبنانية” 1945 وفيه مواقف صريحة وجريئة وثائرة من أوضاعنا كقوله:”نريد وطناً لا طيف وطن” أو “لا يمكن ان يكون لبنان وطناً دينياً أو مذهبياً . لا يصح إلا أن يكون وطناً لجميع أهله على السواء” .
أو “أوثق ضمانة لاستقلالنا أن يحس الشعب أن هذا الوطن الذي ينعم اليوم بالاستقلال هو له ، هو وطنه ، ينعم هو بخيراته ، وليس الأفراد أو فئات منه ، كل شيء يتبدل في الدنيا وهم لا يتبدلون”.
أما مصنع الوحدة الوطنية برأيه “فهي الثكنة والمدرسة”.
ويأتي كتابه ” الفصول الأربعة” وقد هدأت نبرته ليتناول أصول الإنشاء وقواعده وأساليب دراسة الأدب و الشعر والنقد و فيه مقالته الجميلة عن الجمال و السكون من خلال بيت المتنبي الشهير “تناهى سكون الحسن في حركاتها”. و كتب مارون عبود شهادة عن هذا الكتاب حين قال: “بصيرة نفاذه إلى الأعماق وعينان كأشعة رتنجن ، وأسلوب ملك صاحبه و لا غبار على عروبته . يمزج أدب العرب بأدب الغرب فبينما تكون في حضرة المتنبي إذ بك تصطدم بأبي نواس والجاحظ والجرجاني والبحتري وهيكل وفرانس ورينان ودستويوفسكي و بلزاك “.
تابع عمر فاخوري نتاجه في “لا هوادة” و”أديب في السوق” و”حجر الزاوية ” و نتاج متناثر في مقالات بالمجلات و الصحف.
وفي كتاباته دعوة إلى التعاطف بين الشعوب التي تناضل من أجل التحرر، وإلى مقاومة الاستعمار . وفيها أيضاً لقطات عمر ولقياته لأحداث تقع في حافلات التران، ومقهى الحاج داوود، و الأاسواق الشعبية. (Klonopin) ويختار أبطاله من عابري سبيل واحياء بيروت وزواريبها.
أحب عمر وطنه حباً جماً جعله يجتهد لدخول البرلمان كوسيلة إبداع وطني وسلاحاً من أسلحة النضال فقرر في العام 1943 الترشح للانتخابات النيابية في بيروت فخاضها منفرداً و خرج مدركاً صعوبة التغيير في بلادنا. و حين كان اللائمون ينصحونه ما لك و السياسة يا عمر؟
كان يجيبهم بمرارة:”غفر الله لكم”.
قال عنه الشاعر سعيد عقل بأن عمر فاخوري وصل إلى مرتبة في زمانه فكان إذا قال لهذا الكاتب أو الاديب كن فيكون أو زل فيزول.
أما ميخائيل نعيمة فكتب في “الغربال الجديد”: “عمر فاخوري كاتب له رأيه و له أسلوبه المشرق، وله ذوقه الرفيع في الأدب. جمع إلى سلامة اللغة سعة الاطلاع واستقامة التفكير و براعة التعبير. لقد عاش عمر فاخوري أديباً و إنساناً، ومات أديباً وإنساناً”.
في عام 1946 باغته المرض. خانه كبده فتصدع و صار يبيع كتبه ليتعالج. وتكالبت عليه مصائب الدهر: المرض والمرارة وضيق اليد فألقى السلاح واستسلم عن 51 عاماً وهو في عز عطائه أوج قوة بيانه.
عندما توفي عمر فاخوري كان عميد الأدب العربي طه حسين في زيارة إلى لبنان فلمّا بلغه النبأ قال:” إنما اتخذت لهذا ألأديب اللبناني العظيم قبراً في ناحية من نواحي قلبي ، كما اتخذ اللبنانيون له قبراً في قلوبهم، وكما احتفروا له قبراً في مكان ما من أرض لبنان”.
نتذكره ولا تزال كل القضايا التي ناضل لأجلها عمر فاخوري تقض مضجعنا كل يوم : محاربة الاستعمار، التغيير والعجز العربي والحلم بلبنان وطناً منيعاً ينهض ويتجدّد.
نتذكّره ونأسف لأنّ لا تمثال في شارعه في برج أبو حيدر، ولا طابع باسمه، ولا كتبه وأعماله الكاملة متوافرة، ولا مقالاته المتناثرة أعيد جمعها و طباعتها وغدت في متناول الناس.