عطرك الأبد… قراءة في بيتين للشاعر سليم شلهوب

Views: 1143

 د. جوزاف ياغي الجميل

بيتان للشاعر سليم شلهوب يختصران ثنائية الحضور والغياب.

يقظة وسبات.. موت وخلق.

ومن أولى بهذه الثنائية من شاعر العظمة، الشاعر سعيد عقل؟

أنت.. يبدأ به بيتا الشاعر شلهوب. هكذا تبدأ القصيدة الومضة بلا عنوان. وهل يحتاج الحديث عن الشاعر الراحل الحاضر سعيد عقل ألى عنوان؟ اسمه هو عنوان كل شعر ومحبة ورجاء. عنوانه القلوب التي عشقت شعره، اخترق شغافها بلا استئذان.

وتبدأ الومضة بـ”أنت” ضمير منفصل في موقع ابتداء؛ لأن بشعره ابتدأ جمال الحرف، والشعر، والجمال.

انفصل الشاعر عقل عن الوجود، وابتدأت مرحلة جديدة من الحضور التكامل خارج بعدي الزمان والمكان. في ذلك البعد ابتدأ عمل الشاعر عقل في إيقاظ الخلود، من سبات عميق. وكأن الشاعر شلهوب يستحضر الحديث النبوي القائل: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وموت الشاعر عقل غدا يقظة ليس له فحسب، بل للخلود الذي سيطر عليه سبات الجسد بعد انعتاق الروح.

استفاق الخلود، كما طائر الفينيق، من موته المحقق، فتحول الفناء إلى ولادة جنينية جديدة. ولادة في الفكر والضمير، ومنطق الصحوة الجديدة.

 د. جوزاف ياغي الجميل

هي الحياة دائرة لا متناهية في التجدد، كما الفصول. موت عقل كان شتاء أتى بعده الربيع، ربيع هو الولادة الثانية التي أعلنها القرآن الكريم في قوله:

 }يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ{(الزمر 6)

فالخلق الثاني”من بعد خلق” هو ولادة الفينيق من بين الرماد. وأمَ عقل هي الحياة/ الشعر العصي على الفناء، في شهادة أقل ما يقال فيها: وشهد شاهد من أهله؛ ومن يستطيع أن يفهم الشاعر أفضل من الشاعر؟

بين منطق الوجود ومنطق الشاعر عقل اختلاف وائتلاف.

منطق الوجود يقول بأن الشيخوخة خاتمة الفصول. بعدها الموت والفناء. ألم يقل الشاعر الجاهلي:

“كل ابن أنثى وإن طالت سلامته/يوما على آلة حدباء محمول”

أما المنطق السعيد عقلي فهو منطق مغاير. يتفق مع منطق الحياة على الموت الحتمي. ولكنه يراه عبورا إلى حياة جديدة تتجدد في رحم الخلود نطفة انتصار ورجاء. نطفة تنتظر الخروج من هيوليتها إلى واقع روحي جديد، خارج قيود حتمية الغياب. واقع الولادة في الكلمة التي لا تموت، ولا يحتضنها تابوت. والكلمة المقصودة هي الشعر. والشعر كما يقول الشاعر الفرنسي بول كلوديل هو الفعل، فعل الكينونة الهائم بين أزليتها والأبدية، بحثا عن وجود لا يصيبه امحاء.

وكيف يقبل امحاء من يخلق نطفته بنفسه، ويضخ فيها الحياة؟ وكأن الشاعر عقل اكتسب بموته بعض خصال الله، وقدراته. أصبحت له قدرة الخلق، بل المشاركة فيه، عن طريق نفخ الروح في النطفة لتدخل معترك الحياة، مجددا، فتحيا العظام وهي رميم.

في منطق الوجود يتجدد الإنسان في أبنائه والأحفاد. أما في المنطق السعيد عقلي فتتجدد الحياة في ما يتركه الأديب من إرث فكري أدبي عصيَ على الموت، والغياب.

الموت حق يقول الشاعر الشلهوبي. ولكن بعده تجددا ذاتيا عبر الكلمة المؤمنة بخلود الإبداع في ثمرات اليراع.

في منطق الوجود تتحول الثمرة إلى سماد يغذي الأرض. أما في المنطق الإبداعي فإن الحبة التي تموت تأتي بثمار كثيرة. وهذا هو منطق الخلود، والخلق المتجدد.

صديقي الشاعر شلهوب، ومضتك الشعرية في الشاعر عقل فعل إيمان بأن الحرف/ الروح يحيي ولا يميت. وهو قادر على تحويل الفناء إلى انبعاث. فيتحول الإنسان إلى إله، على صورة الله ومثاله. تماما كما قال الشاعر محمود درويش:

“عساي أصير إلها/إلها أصير”

وقد أعلن الشاعر الشلهوبي وصول عقل إلى مراده، فأصبح قادرا على ضخ الحياة في جسده الفاني، وإعادة خلق ذاته من جديد، عبر الكلمة /الشعر/ العنفوان. ونسأل: كيف يموت من قال:

” ما الموت شمخة رأس منك تفتقد/واسلم بباقة شعر عطرها الأبد”

بين عطر الشعر والأبدية تحقق وعد سعيد عقل. فعطر شعره خالد إلى الأبد. تحية لروحه الطاهرة، وطوبى لومضة الشاعر سليم شلهوب فيه، تمنحه بعض الحب، والكثير من الوفاء.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *