ما ينفع الناس يمكث في الأرض
فيصل طالب
(المدير العام السابق لوزارة الثقافة)
درجت أدبيات خطابنا الإصلاحي القائمة على “محاربة الفساد والفاسدين”، على ألّا تعير كبير اهتمام، إِلَّا فيما ندر، للموظفين المنضبطين تحت لواء سيادة القانون وحسن تطبيقه، والذين يبلون بلاء حسناً في تنفيذ مهماتهم من غير أن ينتظروا جزاءً ولا شكوراً، بل تركّز بصورة حصرية تقريباً على من أخلّوا في أداء واجباتهم ولم يقدّروا قيمة الدور الذي أُسند إليهم في هذا النطاق، حتى ولو أدّى ذلك إلى إلصاق هذه الحالة السلبية، وخلافاً للواقع، بواقع الإدارة عموماً؛ وذلك إمّا لعلّة في المؤهّلات والكفايات، أو لضعف في الالتزام بالقيم الأخلاقية والموجبات الوظيفية، بما في ذلك بطبيعة الحال، مخالفة الأنظمة والقوانين التي ترعى شؤون الإدارة العامة ؛ علماً أنّ لا شيء يقيم أود الإصلاح الإداري ويقوّي عوده ويؤتي أكله إِلَّا أمران متلازمان : إظهار السلبيات ومكافحتها من جهة، وتظهير الإيجابيات وتعزيزها من جهة ثانية، بما في ذلك تقديم النماذج القدوة والأمثلة المشرقة لكي يحذو الآخرون حذوها، وحتى يكون الصحيح دائماً نبراساً يستضاء به.
كيف يمكن للمرء أن يكون في قلب الحياة العامة، ولا يتوسّد عميق الإحساس بالهمّ العام، وينشغل بشؤون الناس وشجونهم، فيحاول أن يشعل شمعة يجرح ضوءها عتمة الأزمات والصعوبات والانكسارات المتدحرجة، بدلاً من معاقرة اليوميات الرتيبة والمستعادة من دون أن تحمل في طيّاتها خرقاً في اتجاه التحسين والتصويب والإضافة وإحداث الفرق والاختلاف والتمايز، واستعاضةً عن إدمان البقاء في أقبية المنفعة الخاصة، بالتحليق في فضاء المنفعة العامة والخير العميم؟! تُرى هل بغير التماهي مع خدمة الناس والدفاع عن مصالحهم، وتوفير مقتضيات المصلحة العامة يكتسب العاملون في الشأن العام ميزة التفرّد وألق الحضور وفاعلية الدور؟
الصادقون المخلصون في هذا السياق هم كثرة لا قلّة، وإن بدا الأمر غير ذلك لضعف يعتري تظهير صورتهم المشرقة كما أسلفنا. بسواعد هؤلاء الشرفاء الطيّبين، ذوي المَكِنة والدُّرْبة والهمّة والمِنعة، تحقّقت إنجازات، وسمقت بأعمالهم طموحات لا يجادل فيها عاقل ولا يماري فيها إلا جحود، فكانوا فرسان الحق والصالح العام في ساحاتهم؛ وعلى ذلك فليتنافس المتنافسون، ويتسابق المتسابقون؛ إذ لا شيء أشدّ مضاضة على المرء من أن يرى أهل الجدارة في غير ما يستأهلون، والمناصب والمواقع والميزات من نصيب من لا يستحقون ؛ وهو ما يرخي بظلال اليأس والظلم على البارّين بمجتمعهم ووطنهم؛ ولن يكون ذلك في كل حال سديداً في ثوابه، حصيفاً في غاياته، حكيماً في مناله .
على الرغم من كل العوائق والصعاب، ومن غير أن يلتفت هؤلاء الموظفون المخلصون لأيّ اعتبار غير اعتبار قدسية الواجب ونبض الضمير وموجبات الانتماء والالتزام الوطني والمواطني، متجاوزين ما يلحق بهم من ظلم في غالب الأحيان، إن على صعيد الرواتب، وقد كانت مذلّة قبل أن يجري تصحيحها في سلسلة الرتب والرواتب الأخيرة التي عادت وخسرت ثلثي قيمتها بفعل الأزمة المالية والنقدية الحالية، أو بداعي تخلّف قوانين الإدارة وعدم تحديثها لتتوافق مع الحاجات الجديدة وتواكب التقدم الذي طرأ على العلم الإداري، أو لإغفال التقييم الدوري للموظفين في عمليات الترفيع والمكافأة،…إلخ، على الرغم من كل ذلك، وعلى قاعدة أن لا شيء قادراً على خلخلة البنيان الوظيفي إذا ما ارتفع منسوب الحصانة الأخلاقية فيه، آلى هؤلاء على أنفسهم، وبقوّة التجاوز والاحتواء والتحسّس بالمسؤولية والإيمان العميق بأنّه لا يصحّ إِلَّا الصحيح، أن يعبروا الجسور المعلّقة بين الصمت والصهيل، وأن يسرجوا خيلهم المتحمحم في مفازات التضحية ودروب العطاء، ليلهثوا وراء طيف الترياق المداوي لجرح الاغتراب في الوطن، ويدعوا الأحلام تتمرّس بالتمرّد على الضمور والانكفاء، ويثابروا على الإسهام في إحياء بقايا الأنهر وأطلال السواقي بمَعين البحث عمّا يخفّف عن إنساننا التائه في دغل الخوف والقلق أعباءَ المكابدة والمجاهدة، وحتى لا ينسحب من متون الأمل إلى هوامش الإحباط.
كذا هي حال الذين هم بشهادتهم قائمون، العاملون بشغف الانتصار لأوّليّة الواجب، الحاملون رؤى الوطن المزدان بقزحيّة الحق والخير والجمال، الحافظون العهد الذين تصالح الذاتي فيهم مع الغيري، فَصَدَقوا وجدانهم من غير أن يصادقوا واقعهم، وأدّوا الأمانة، وما نكثوا ولا بدّلوا تبديلا ، مؤمنين إيماناً راسخاً بأنّ الزبد يذهب جُفاءً، وأنّ ما ينفع الناس يمكث في الأرض .