في زمن الوباء … يبقى الافتقاد من فوق
البروفسور فادي أبو مراد
كلّ شيء تغيّر، ولا يُمكن للعاقل إلّا أن يقف مذهولاً… الآن عَرَفت ما عاشه والدي عند تدهور الليرة وأنا طالب أنهل من العلوم والمعرفة….والد رفيقي كان يَملِك معملّا للأنسجة… كلّ أمواله كانت بالليرة اللبنانية… حَزن كثيرا ورَقَد سريعاً إثر نوبة قلبية… لكن الناس ودّعته بمأتم رهيب… الموت يَصفَع ولكن صلاة الجنازة وتَحلّق المحبّين كان يُخفّف من وَطأة وَادي ظلال الموت…
كل شيء تغيّر… العالم أيضًا… تحت أثر الوباء … إلّا أننا في لبنان أمام وباء فيروسي وَهَجمة جرثومية من نوع آخر نفّذتها أياد متآمرة. يَبدو منهم، في الظاهر، بعض من السياسين والمصارف التجارية المتلوّنة بالاستثمار الفاقد لأخلاقيات المهنة وأصولها والتي وَعَدتنا دَومًا وتستمرّ بالحرص على فضاوة البال ومرافقتنا في صعوبات الحياة… فضلاً عن برامج كثيرة، حتى العقم كانوا قد اخترعوا له قرضًا… مصارف غير صادقة… وَضَعَتنا أمام بائعة عَميلة… أقنعتنا ب “برنامج” produit وصرنا “أوعا تزعل بلكي حسّت بأننا لسنا على قدّها”… أو “ضعاف أمامها وما معنا فلوس”… أوعا تزعل… الأهم ألاّ يَنخدش شعور البائعة أو مسوّقة البرنامج أو المادة المُرَوَّج لها…
وجاءت الحقيقة… فلا مكان للمُسوِّقَة بعد اليوم… فتراها تقول… “يي”… “أنا ما خصّني” … “ما بقدر أعمل شي”… “ما كنت بعرف شي”… واذ تُدرك بأنها وإيانا كنّا مَصيَدَة لآمر المَصرِف وألاعيبه وهو في بعض الأحيان سياسي لبناني متعدّد الوظائف في دنيا الاستثمار…
لم أشعر بما أحسّه والدي في الثمانينيات لأنني لم أكن أملك شيئًا… الآن أملك. والملك لله ولله وَحده… من أين لي هذا؟ … هو ربّ العالمين أراده لي… أعطاني ما أستحق… فعملت جاهدًا وبكل حكمة لأملك… أي ملك؟… ولا ملك غير عطف الله ومحبته… كم كان القديسون أقوياء حتى وَزّعوا ووَهَبوا كلّ مقتنياتهم ليتحرّروا…
ما أجمل العيش وانت متحرّر من كلّ شيء… من معاش فَقَدَ قيمته يَصلك متأخرًا … من منّة الدافع… من استخفاف بمال في يدك. من مال تحتفظ به وتُصبح أسير حراسته كي لا يَضيع…
هذا طبعا ليس كلّ الحياة ولا كلّ فضائلها… لأنّ الحياة بالتحرّر من كلّ شيء …. من العتاقة، من الانتماء، من الألقاب، من الفرضيات، من التبصّر، من الكوابيس ومن تفاهة الزمن… وتصرخ خائفًا من رقاد، دون استحقاق، لجنازة تليق بالمخلوق على صورة الله ومن مَرَضٍ دون يَدٍ تمتدّ لتشدّد في المحنة…
قَلَقٌ في كلّ اتجاه … ويزداد عندما تسمع الساسة يُصرّحون بأننا مهدّدون أيضا في أمننا الغذائي والصحّي … ونحن نعرف بأن الربّ وَعَدَ حتى بحراستِهِ لطيور السماء وقُوتِها (أي طعامها)…
في دنيا العمل، مؤسسات تُقفل الواحدة تلوَ الاخرى… وما قيمة المال الذي تَجنيه… هل فِعلا هي الحياة؟…
كل هذه التأثيرات شوّهت أطباع البشر… الكلّ تَعب… الكلّ يسأل أو يفتّش عن سبب تعبه ومن المسؤول عن ذلك… كل تعابيرنا تبدّلت… الطلاب يضغطون… خوفًا من الاصابة بالفيروس… عدم امكانيتهم على تحمّل كلفة الانتقال من بيوتهم المنتشرة على مساحة القرى اللبنانية… تذمّرهم من كل شيء… عدم تقديرهم لمواكبة الجامعات لهم ولمطالبهم… وضرورة مواكبتك للمَشهَد وذهابك الى اجتماعات المجالس… كشاة سيقَ الى الذبح…
أنا على يقين بأنه يُمكننا التغلب على هذه المرحلة بطريقة أفضل ونحن معاً في المكاشفة والاعتراف بالخطأ والاعتذار ثم التعاضد الملموس والنقاش والتشجيع والفَهم والتفهّم ورصّ الصفوف وتوفير الحنان اللازم والرعاية الجادّة والشفافية المُطلقة لكي يَحيا إنساننا بما هو عليه ويَصمد ويواجه ويصبر لأنّ في الصبر تعزية وفي المحن تكثّر هِبَات الخالق وافتقاده المُبلسم…فهدف الحياة هو ان نحياها ونتذوّق مِحَنَها دون خوف من مِحَن جديدة وغنية اكثر.