عاصي الرحباني… عبقريٌّ بعكسِ السَّير (في ذكرى رحيلِه)

Views: 104

د. جورج شبلي

عندما دخلَ عاصي الرّحباني على الأغنيةِ اللبنانيّةِ حَسُنَ نَسْلُها. كان فظّاً لا يتجنّبُ المُخاشَنةَ عندما يُسأَلُ الذّهابَ الى المُلايَنةِ في مستوى الإنتاجِ الفنّي، ولا عَجَب، فالإمامُ لا يذهبُ الى ذَميمِ القَول . لم يَردّ عاصي مرّةً لهفةَ المعاني في أن تُؤَدّى بأرقِّ ألحانِ الغِناءِ وأرقاها، فهو يرشفُ النّغمةَ من شفتيها، ويُرَخِّمُ الكلمةَ وكأنّ له عليها سلطاناً، لذلك جاءت نتاجاتُه من الأطايبِ وكأنّها نثرُ الدرِّ، أو فِلقَةُ قَمَرٍ على برجِ فضّة. فالرَّجلُ يهتزُّ تحتَ ثيابِه جِنّيُّ الإبداع، هذا الذي بينه وبين الرّجلِ قديمُ عِشرَة، فالقَلَمُ بعضُ أناملِه، وهو والوَتَرُ نفْسٌ واحدة. 

عندما لم يستطعْ  مُمتَهِنو الموسيقى أن يَنقلوا في تطوّرِها قَدَماً، سلّمَ عاصي سرَّه لها، وأَروى ظمأَ النّهوضِ فيها. ثمّ ضمَّها إليه بأَوثَقِ حِبالِ الأنسِ، فأصبحَت له أشهى من كلِّ نَسيب، وباتَت، هي، شديدَةَ الكَلَفِ به، الى حدِّ قولِها له: “جُعِلْتُ فِداكَ”.  

معَ عاصي العبقريِّ أَنْبَتَ صَدرُ الأغنيةِ اللبنانيةِ ثَمَرَ الشّباب، ورُكِّبَ البَدرُ على أزرارِها مُكتَمِلَ السّحر، فوَسَمَها الجمالُ ونَثَرَ لُؤلؤاً على خَدِّيها. مع عاصي نُقِشَتِ الأغنيةُ اللبنانية، بِلَهجَتَيها، على خاتَمِ مَلِك، وصارَ لها مَذهَبٌ خاصٌ أو ملامحُ شكلٍ جديدٍ لم تعرفْه منذُ عصورِ الخلفاء، إذ كَسَتها، بعدَ الكلماتِ، حبّاتُ القلوبِ وغَمَزاتُ العيونِ المِلاح . مع عاصي أَسْكَرَتِ الأغنيةَ خَمرةُ الكِبَرِ ولذّةُ التّيه، فاستُحْضِرَ” داود ” ونَطَقَ بنغمتِها، لتتَعَوَّدَ الأَسماعُ تَذّوُّقَ الفنِّ البليغِ شعراً فرائديّاً وقلائدَ أَلحان .

عاصي الرحباني ثورةٌ انقلابيّةٌ في ساحةِ المفاهيمِ التي كانت  تُخضِعُ الأغنيةَ العربيةَ لها. فبإدخالِه النّمطَ الهارمونيَّ في كيانيّةِ الّلحن، قفزَتِ الأغنيةُ الشّرقيّةُ الى الدَّورِ العالمي، لأنّ عاصي دمجَ في الّلحنِ ذاتِه، وبأقّلِ مدّة، الزّخرفةَ والعذوبةَ والجَرْس . أمّا  ميزةُ عاصي فتكمنُ في إقامةِ العلاقةِ بين الأنغام، لتصبحَ الموسيقى معه منظَّمَةً بشدّةٍ، ولا فَرْقَ إن هي عكسَتِ الرقّةَ أو هي عكسَتِ القَسوَة . 

تَسمعُ عاصي الكلمةَ واللحن، فتعودُ جذورُك الى آلافِ السّنين، يومَ كَشفَت أحافيرُ الفكرِ أنّ الجَمالَ من صنعِ الله . ومهما مُسَّتِ الأغنيةُ بالحداثةِ وتقاذفَتْها فضائلُ التطوّر، غيرَ أنّها مع عاصي ” عشائريّةٌ ” صارمةٌ في عاداتِها وشروطِها. فهي لم تتحرّرْ من سلطةِ سيّدِ العشيرةِ  صاحبِ السلطانِ والكلمةِ والهيمنة، ما جنّبَها خطرَ التَفَلُّتِ غيرِ المُنضَبِطِ، والتشَوُّهِ الحالي الذي لم يستقمْ معه جمالٌ، والذي لن ينفعَ في مداواتِه إلاّ عاصي آخر .

مسرحُ المَغناةِ قبلَ عاصي لم يكنْ مَغشِيّاً عليه أو في ذُبولٍ بالكامل، لكنّه في انكماش . هذا المسرحُ الذي أكْرَمَ وِفادةَ ضيفِه، وفتحَ له بيتَه، وحَضَنَ تَمرُّدَه، ليصبحا شقيقَين لا مُتَعارِفَين  فقط. هذا المسرحُ لم يكنْ يرتجي العودةَ من الغربةِ والإنهاكِ وموتِ الأذواقِ وانتحارِ الإبداعات. ولم يكنْ يعرفُ أنّ الآفاقَ لها غيرُ اسوداد، وهي حقائقُ راجحةٌ في ميزانِه، حتى تلقّى دعوةَ عاصي لكي يُمَرِّسَ رئتيه على رياحِ المُبتَكَرِ والرّائعِ والجميل. (https://www.losaltosresort.com/) فاشتعلَ إحساسُه بها، ولَعَنَ زمناً حَرَمَه منها، فتوفَّقَت حياتُه على ما لم تَألفْ، عندها ارتاحَ الذّوقُ فَنَعِمَ المسرحُ بِفَيضِ القيمة. 

ستارةُ عاصي لم تنحسرْ عن خشبةٍ لتُسمَعَ وتُرى، إنّما عن إعصارٍ ثوريٍّ يبدو فيه عاصي البطلَ وقد جُنَّ في كفِّه رمحُه، وكأنّه بمفردِه في غِمار معركةٍ لا استسلامَ فيها ولا تراجُعَ ولا  انكسارَ وجه. هي معركةُ قَدَرِ وطن، الانتصارُ فيها يُذكَرُ أبداً حتى آخرِ الدّهور . هذا الجوُّ الالتزاميُّ المَسؤولُ فَرَضَ ابتعاداً عن النّثريّةِ والارتجالِ والتَّعَمُّل، وتطويعاً لِمَسرَحَةِ المدرسةِ الاجتماعيّةِ والوطنيّة . لذلك لم نَرَ عاصي يجفو عن الواقعِ الذي توالَت عليه النّوازل، فيجتهدَ أو يخترعَ هولاكو آخرَ ليخترعَ قضيّة، في حين أنّ التّتارَ الجُدُدَ يتقمّصون أكابِرَ بغدادَ وأعيانَها وسادتَها . 

الواقعُ نفسُه هو مَصدرُ رِزقِ عاصي، واقعُ تُخمَةِ العجائبِ في تُخمَةِ النّوائِب، واقعُ النّماذجِ والحرصِ على الانتفاعِ بكلِّ ما وصلَت إليه عينُه منها. حتى غدا المسرحُ مع عاصي ظاهرةَ إبداعٍ نادرةً، ووثيقةً وطنيّةً  تَنأى عن المَغالِطِ التي وَسَمَ ابنُ خلدون بها أكثرَ المؤرّخين .

مع عاصي تسَمَّمَتِ الأغنيةُ والمسرحُ بالمجد، وماتا به، فمتى القيامة ؟

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *